جلسنا نتحدث عن الجنة وجمالها، فسألتها أين تود أن تعيش فاختارت الجنة، كررت السؤال واستبدلتها بأبيها، فسكتت لحظات وقالت إنها تود لو يعيش في الجنة ولكنها ستفتقده. يتبع
|
دعاء الشامي |
عندما بلغني خبر موت شريك حياتي ووالد ابنتي الاثنتين (مليكة وكرمه)، أول ما قفز إلى ذهني ردة فعل ابنتي الكبرى، تلك الطفلة التي شارفت على الثامنة من عمرها والتي كانت متعلقة بأبيها رغم سفره الدائم، ومع كل وجع الفقد كان خوفي من عجزي إخبارها أنها لن ترى أبيها مجددا هو الأكبر!
جربت بدوري فقد الأب ولم أكن أتممت عامي الثالث بعد، فعندما مات أبي لم تفكر أمي في وسيلة لإخباري فقد كنت واقفة هناك على بعد أمتار من سيارة الإسعاف التي تحمل جثمانه، وعايشت القصة كاملة من نحيب أمي وصراخها وحتى التراب الذي أحالوه على جسد أبي العزيز، رغم أن قسوة التجربة جعلتني قوية بما يكفي كي لا أخاف الموت رغم حبي للحياة.
كنت أعتقد أنني فهمت الموت يومها، ولكن الحقيقة أنني لم أشعر بمصيبة الموت قبل رحيل “براء”، وكأنها المرة الأولى التي يموت فيها إنسان، وقفت قليلا أفكر في قول الله تعالى”وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ” وهي الجملة ذاتها التي رددتها كثيرا وسمعتها أكثر من يومها، فالمصيبة الآن أقرب مما تصورت وأكثر ألما.
فكرت في ابنتي الصغيرتين وقررت أن أخبرهما ما حدث هكذا دون مواربة، قلقي من تأثير الخبر عليهما وازنه إيماني بأن كل ما يحدث لنا بقدر، وأن موت أبيهما حتما سيؤثر في مسار حياتهما وربما يجعلهما أقوى.
لن أنكر حيرتي في البداية عن الطريقة المثلى لإعلام ابنتي الكبرى بالخبر والتوقيت المناسب، وهي التي تنتظر وصول أبيها في أقرب وقت محملا بالهدايا والحكايات، أما الصغرى التي لم تكمل عامها الثالث بعد فستعرف تدريجيا أنه لن يحادثها عبر الهاتف ولن يحضنها مجددا، ما يوجعني حقا أنها لا تتوقف عن الاتصال بهاتفه والنظر إلى صورته.
سألت وبحثت واستشرت وأخيرا اخترت وصفة ابنة صديقتي وصديقة ابنتي المقربة، عندما استعنت بها لمعرفة الطريقة المثلى لإخبار ابنتي بخبر موت أبيها، فقالت دعوها هي تختار أين تود أن يكون أبيها، هنا أم في الجنة؟
استجمعت ما بقي في من قوة وأخذت صديقتي وأحضرت ابنتي من مدرستها وجلسنا نتحدث عن الجنة وتمادت هي في وصف جمالها ونعيمها، فسألتها أين تود أن تعيش فاختارت الجنة برضا، كررت السؤال واستبدلتها بأبيها، فسكتت لحظات وقالت إنها تود لو يعيش في الجنة ولكنها ستفتقده، سكت أنا …… وتابعت صديقتي وكنت على وشك الإنهيار ، ولكني حاولت مجددا وفعلتها “بابا راح الجنة سبقنا إلى هناك فلا تحزني عليه بل افرحي” قلتها وفي حلقي غصة ……..وكأنها عبارة مكررة خالية من الصدق، أو صادقة بدرجة موجعة، فبين حقيقة الموت وقلبها المعلق بأبيها تجمدت كلماتي، مررت نظرها بيني وبين صديقتي وصمتت ثم أمسكت يدي وهي تنظر في عيني وقالت هيا بنا نذهب الى المنزل!
|
البراء أشرف مع ابنته مليكة |
في الطريق شعرت بقلبها يعتصره الحزن ولكنها ربما حاولت التماسك، وصلنا المنزل ومازالت صامتة وبعد دقائق اختلفت مع أختها الصغرى على لعبة وبدأت تبكي بحرقة احتضنتها بقوة وبكينا سويا. علمت وقتها أنه حزنها على أبيها الذي حاولت إخفاءه عني، فحكيت لها أن البكاء راحة وأخبرتها حكاية موت أبي وعددنا معا من فقدوا أباءهم بداية من رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ووصولنا إليها.
لم تهدأ أسئلة مليكة عقب إخبارها موت أبيها بل باتت تسأل عن كل شيء بدقة عن طريقة موته وتوقيته ومن كان بجوار أبيها؟ وهل تألم ؟ وماذا قال عنها ؟وكم صديق لديه؟ ومن أي الدول أصدقاؤه؟ وكيف علمت أنا بموته ؟وأين كنت؟ ولماذا لم أخبرها وقتها؟! ولماذا اختاره الله الآن؟!
أسئلة كثيرة مربكة حاولت الرد عليها وفق ما وفقني الله إليه وبصدق يجنبني وضع الاتهام بعد سنوات لكوني كذبت عليها وبساطة تناسب عمرها .. في إحدى المرات سألتني ماذا أفعل عندما أشتاق لحضنه أو لسماع صوته؟! لم أجهز الإجابة رغم توقعي للسؤال ولكنها خرجت وحدها، احلمي به، ارسمي له، احكي ما تريدين فهو يسمعنا ويشعر بنا ويفرح عندما نكون سعداء فلا تدعي فرصة من دون فرحة.
عقدنا اتفاقا يومها أن ندعو لأبيها دوما وأن نشاركه نجاحاتنا مهما كانت صغيرة في الحياة. شعرت ابنتي بمسؤليتها تجاهي، فأصبحت تسألني عندما ترى حزني، ماما انت زعلانة؟! وتجاه أختها الصغيرة وباتت تساندني في الرد على شقيقتها الصغرى التي تكرر أسئلة من نوعية ” بابا فين؟! ، هو جاي امتى؟! “
في مدرستها حكت مليكة لزملائها في الفصل عن رحيل أبيها شابا، احتضنت صورته يحمل كاميرا واسترسلت في إخبارهم عن عمله كصانع للأفلام، وكاتب للمقالات وأخبرتهم أنهم سيكبرون يوما ما ويشاهدون أعمال أبيها الجميلة، خاصة تلك التي كتبها عنها.
أشعر أن ابنتي لديها إيمان بالقدر والموت والجنة وهي أشياء لم يخطر ببالي مسبقا أن أتيقن من وجودها في قلبها، فهي مازالت في عيني طفلة تقضي جل وقتها تلهو ولكن ما حل بنا جعلني أتأكد أن أطفالنا ربما يعلموننا بعضا من إيمانهم فهم على فطرتهم رغم ما تفعله الدنيا بهم وبنا. تحدثوا مع أبنائكم عن الموت قبل أن يزوركم فجأة ، ولا تخافوا عليهم من مواجهته فهو كالحياة تماما نحتاج أن نوثق علاقتهم به فلا أحد منا يعرف ساعة رحيله، فليس منا من يملك قدره.
المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها