عبد الله عيسى يكتب: فلسطين.. قضيتها في “معطف”!

إن كل المشاهد التي وردت في الفيلم تحدث يوميا في فلسطين، فسجون الاحتلال مليئة بالمعتقلين الإداريين، والتوسع الاستيطاني يلتهم كل يوم أراضي جديدة من أراضي الضفة.. يتبع

عبد الله عيسى ـ مدون فلسطيني

أخيرا بعد طول انتظار عرض فيلم “معطف كبير الحجم” في مدينة غزة، هذا العمل الدرامي الذي يعد من أفضل الأعمال التي تناولت القضية الفلسطينية، لأنه يجعل من يتابعه يدرك ما معنى ضياع فلسطين، وما معنى حياة الغربة على أرض الوطن، لقد صور عذابات أهلها وحكايات صمودهم، وهم يبحثون عن الهوية ويتطلعون إلى الحرية.

فيلم ولد بعد مخاض عسير استمر لعدة سنوات ما بين البحث عن ممولين، وحتى اليوم لم يغمض لصاحبه جفن وهو يسعى لجمع تكاليفه، والسبب لأن مخرجه الفلسطيني الشاب نورس أبو صالح مشى معاكسا لتيار الدراما العربية التي مازالت تجاري السينما الغربية ومنسلخة عن قضاياها الثورية، فهو قدم -ولأول مرة -نمطا سينمائيا جديدا مطابقاً لمقاييس الجودة في الإخراج والتصوير، ومحافظاً فيه على العادات والتقاليد العربية الأصيلة.

نجح الفيلم في استعادة النبض القديم لذاكراتنا بكل آلامه وأحلامه وأفراحه، إذ حملت مشاهده العديد من التناقضات الانفعالية فأغضبنا وأبكانا وأضحكنا أيضا، فلأول مرة يتناول عملا دراميا للوجه الآخر للمعاناة، إنها تلك السخرية التي يتغلب فيها الفلسطينيون على آلامهم وخوفهم فترفع من معنوياتهم وتعينهم على البقاء والاستمرار في الصمود والتحدي.

كنا ونحن نحدق في شاشة العرض نستدعي من عقلنا الباطن أحداثاً مررنا بها، وكأننا نستعد لكتابة سيرة ذاتية عن أنفسنا، ولربما ظننت في مواطن كثيرة أنني كنت “سامي” بطل الفيلم، فأنا ولدت في السعودية، وكنت كغيري من الفلسطينيين نتحمل الكثير من الإهانات على المعابر نظير زيارتنا للأراضي الفلسطينية المحتلة والتي أصعبها التفتيش العاري بقسوته كما أظهره المخرج.

وما إن كنت أصل إلى الأراضي الفلسطينية حتى كانت تنهمر أسئلتي العفوية على الأهل، “شو يعني” انتفاضة؟ “وشو يعني” منع التجول؟ وكانت الإجابة صادمة حين أخبرني أحد أقاربي “يعني إلي بيطلع بطخوه”.

أما عن المداهمات والاعتقالات فلا زالت ذاكرتي تحتفظ بالكثير من الأحداث التي هزت قلبي رعبا وجسدي ألماً، بدءاً من مداهمات المنازل والاعتقالات والمطاردات وختاما بالاعتداء عليّ بالضرب عندما ظنوا وأنا عابر طريق أني من أشبال الحجارة. 

لم أستغرب من انبهار سامي وهو طفل عندما رأى الدجاجة وسروره بمطارتها، فأنا مثله انبهرت بعربة الحمار وكنت متلهفا لركوبها، وفيما يخص مشهد تحايل لفلسطينيين على الجنود للخروج في وقت منع التجول، لا زلت أذكر يوم أن حملتني ابنة عمي على كتفها وكنت مريضا، طلبت مني التظاهر بأني فاقد للوعي، وفعلا سمح لها الجنود بالتحرك في منع التجول.

لا نريد أن نستطرد كثيرا في أحداث الفيلم الذي يبرز أهمية توظيف الكاميرا في فضح الجرائم والممارسات العنصرية، لأن إسرائيل دولة تهاب دوما الحقيقة وتسعى دائما لإخراسها وإخمادها بكل السبل، ولعل التصفية الجسدية لـ”سامي” بطل الفيلم أبرز هذه القضية، وكشف أن إسرائيل تمارس إرهاب الدولة فكثيرا ما نفذت عمليات التصفية الفلسطينية لنشطاء المقاومة خارج حدود كيانها.

إن كل المشاهد التي وردت في الفيلم تحدث يوميا في فلسطين، فسجون الاحتلال مليئة بالمعتقلين الإداريين، والتوسع الاستيطاني يلتهم كل يوم أراضي جديدة من أراضي الضفة، أما طرق الضفة فتمتلئ بحواجز هي عنوان الإذلال والقهر لكل الفلسطينيين، ويلفها جدار عازل هو شاهد على عنصرية الاحتلال.

وبطريقة ذكية عالج المخرج تأثير توقيع اتفاق أوسلو بالسلب على مسيرة الحرية والاستقلال، فشاهدنا كيف تحول والد سامي من أحد قيادات الانتفاضة إلى رجل رافض للمقاومة، وسعى بكل السبل لصد ابنه عن مواصلة النضال، كما أظهر فساد عقيدة أجهزة الأمن الفلسطينية فهي تحارب المناضلين، ناهيك عن أنها أداة للبطش والابتزاز، ولعلنا رأينا كيف ابتزت صديق “سامي” أنور مهددين بحرمانه من التعليم في حالة عدم اعترافه على صديقه.

لم يقتصر الذكاء في المعالجة على أخطاء أوسلو وتخلي الرئيس عرفات عن خيار الكفاح المسلح بعد أن جاب الأرض طولا وعرضا منظرا إليه وداعيا إلى دعمه، لكن هذه المرة كنا أمام نموذج جديد للبطولة فكان ينتقل بنا من نموذج المظلومية إلى نموذج البطولة، مستعرضا دور أبطال الانتفاضة أمثال عماد عقل ويحيى عياش كمناضلين حملوا السلاح من أجل الحرية، وحقق بذلك نجاحا في التعاطف مع قضيتهم بعد أن فشلت الكثير من الأعمال الدرامية السابقة في تحقيق ذلك، فمنها ما صورهم دون قصد على أنهم “مصاصو دماء” فقط، الأمر الذي ولد إحساسا لدي الكثير من المشاهدين أن ما فعلته بهم إسرائيل كانوا يستحقونه.

إن هذا الفيلم يمثل نقطة تحول جذرية في تاريخ الدراما الثورية، التي ظلت لعقود لا تعبر عن الواقع ويغلب عليها طابع الجدية والصرامة، تصور البطل على أنه دائما الملاك المعصوم، لكن مخرج الفيلم تمرد على هذا الفكر، فأعطى الدعابة والفكاهة مساحة جيدة، الأمر الذي يوحي بقوة الفكرة والأهم أنه يلامس الواقع.

“لا شيء أقوى من الدراما” ربما هذه الرسالة هي التي أراد من خلالها المخرج أن يغير فكرا ساد في الوطن العربي بأن الإبداع وخدمة الوطن والغنى الفكري والحضاري لن يكون إلا في دراسة الطب والهندسة، وبقيت العقول الفذة تزدري الإعلام والسينما، وتوهم أنفسها أنها بلغت بتخصصاتها العلمية أقصى درجات الوعي ولم تعد تشعر بالنقص الفكري، ومن هنا مثل الفيلم دعوة للشباب المبدعين خاصة الفلسطينيين بضرورة الاتجاه إلى دراسة الدراما، ونبه أيضا رجال الأعمال بأهمية تقديم الدعم المالي لإنتاجها، لجعلها من أقوى أدوات النضال ضد عنصرية الاحتلال.

————-

عبد الله عيسى

كاتب ومدون فلسطيني

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها


إعلان