سماح إبراهيم تكتب: ما لا تعرفه عن الخداع الأمني بمجزرة الفض

أذاع التلفزيون المصري منذ أيام تقريراً مصوراً يوثق الرؤية الأمنية للنظام العسكري لفض اعتصام ميداني رابعة والنهضة بعد تعتيم وحظر إعلامي دام عامين. يتبع

سماح إبراهيم

 

أذاع التلفزيون المصري منذ أيام تقريراً مصوراً يوثق الرؤية الأمنية للنظام العسكري لفض اعتصام ميداني رابعة والنهضة بعد تعتيم وحظر إعلامي دام عامين, إلا من احاديث مقتضبه لتشوية الوضع الثوري، خالية تماماً من المشاهدات المرئية لعملية الفض.

 اظهر الفيديو المذاع رجال شرطة يعطون أوامرهم لمجموعة من المعتصمين الناجين من المجزرة بسرعه مغادرة المكان, من  خلال معبر فتح لدقائق معدودة في تخيير لهم ما بين المغادرة أو الموت بداخله قبل إحكام حصاره.

كما يبين الفيديو النساء يخرجن وهن يرددن بصوت مسموع “حسبنا الله ونعم الوكيل” ولأن إظهار اللقطة البطولية عنصراً مهماً  في “الشو الإعلامي”, ظهر “رجل الشرطة” وهو يتحدث بتودد إليهن: ” يلا يا أمي اخرجي بسرعة، احنا خايفين عليكم” , ويكأنهم لم يأتوا لإبادتهم.

 ولأول مرة تعلن الداخلية رسمياً عن أعداد القتلى الذين سقطوا خلال مداهمة الميدان برصاص الداخلية, وهم بحسب الرؤية الأمنية لا يتعدوا 820 قتيلا.

وكعادة تصريحات الداخلية الإعلامية المصابة بفيرس “الغباء”, لم ينس التقرير أن يستفز المواطنين بالمماطلة في أعداد ضحاياهم, حيث ذكر التقرير أن الإخوان يدعون كذباً بالمحافل الدولية  أن عدد القتلى تجاوز الألفي قتيل.. مؤكدين أن الداخلية لديها إحصائية مفصله تضم أسماء عدد القتلى وصفتهم الوظيفية وأماكن السكن!!

الداخلية تقتل ولكنها لا تكذب، تساوم في إجرامها بتسخيف فعل القتل، لتعلن أن رقم 800  لا يشكل لديها أزمة, وأن الضحايا الذين سقطوا برصاصهم  لا يمثلون مثقال ذرة من اهتمام لديهم بقدر ما يرهقها أن يتقول أحدهم علي بياناتهم أو يكذبها.

باعتباري شاهد عيان علي جزء من المجزرة بميدان النهضة، لن أبالغ في القول بأن تغريدات وتدوينات النشطاء السياسيين بصفحات الفيس بوك وتويتر كانت بمثابة شبكة أخبار ناقلة للحدث والتعريف بحقيقة ما يدور بالصوت والصورة من قلب ميادين الاعتصام.

كنت علي مشارف ميدان الجيزة حوالي السابعة والنصف صباح يوم 14 أغسطس 2013, عربات تابعة لقوات الجيش والشرطة تتجول بالمكان بميكروفونات تدعو لعدم المقاومة أو الاحتشاد، والذهاب للمنازل.

استنفار أمني لم أشاهده قط، الدبابات والمدرعات ورجال ملثمون وبلطجية يملأون المكان، أجهزة الامن والشرطة تنتشر بشكل مكثف بالأسلحة الثقيلة، الطائرات تقذف بقنابل الغاز السام علي جموع المعتصمين وهم يصرخون من تأثير القنابل المسمومة وشدة التهاب أجسادهم, هتافات ضد النظام يقابله رصاص عشوائي يصيب احدهم فيقع أرضا وتلتف حوله مجموعة لإنقاذه، ليكمل الباقي احتشاده في مناطق أخرى بعيدة ليصرخ بهتافات مناهضة للعسكر والداخلية.

ضعاف وقلة هم، “متظاهرو الرأي” بشكل يثير الشفقة أمام جماعات مسلحة “نظامية “. قررت أن أواصل السير نحو ميدان النهضة, وكانت الصدمة باكتشاف خداع الداخلية واستعانتها برجال “ملتحين” للغدر برجال التأمين المتواجدين بمشارف الميدان والتجسس لصالح رجال الأمن, يتبادلون الضحك أمامي كونهم “سيطروا على الموقف بسهولة”!

مجموعة من البلطجية يهللون امام مدخل الميدان باتجاه كلية الهندسة، وعلي مقربة منهم رجال شرطة ملثمون يضربون بالذخائر هنا وهناك بشكل عشوائي, يحرقون الخيام, أخفيت أوراقي وما يثبت هويتي كصحفية بجريدة “الحرية والعدالة” كي لا أتعرض للإيذاء، ثم تقدمت لسؤال أحدهم: “أنا اخواتي كانوا بيعتصموا هنا, وعاوزة أطمئن عليهم, ممكن أدخل؟”

قال لي: لا..هاتي أسماءهم وأنا أقولك, هما إخوان؟

أجبته بسؤال آخر: في حد جوة؟

رد مبتهجاً: داخل كلية هندسة الكثير.

وبينما أفكر في الخطوة القادمة المفترض أن أقوم بها,  وجدت أحد البلطجية يقوم بالاستفسار عن اسم أخي والسكن وجذبي لأحاديث فارغة, أنقذني تليفون من أحد زملائي يبلغني فيه أن هناك اعتصاما آخر سينظمه الناجون من اعتصام النهضة  أمام مسجد مصطفي محمود, وأن مهمتي هي تغطية الحدث هناك.

بالفعل سارعت إليهم, لأجد قوات الشرطة تحاصر المسجد, وأتوبيسات النقل العام تم تذليلها لنقل الجنود والذخائر, والرجال والنساء يفرون هربا أمام طلقات الرصاص، أحد حراس عمارة مجاورة للمسجد طلب مني الدخول بـ”الجراج” والاحتماء بالداخل خوفاً على سلامتي.

ظللت بالداخل مع زوجته وعدد من النساء اللاتي صادف وكن متواجدات بالمكان للذهاب إلي أعمالهن, ولم تصلهن نشرة الداخلية بإعطاء الموظفين “إجازة” جبرية, عرفوني بأنفسهن وانا اكتفيت بالقول: “كنت جاية زيارة”.

صيحات التكبير من الخارج, أدخلت علي قلبي الاطمئنان, انتفضت من الكرسي وتوجهت إلي بوابة الجراج لمعرفة ما يدور بالخارج, قال لي حارس الجراج وهو يفتح البوابة: الشرطة انسحبت.

بالخارج وجدت المتظاهرين “رجالا ونساء” أعدادهم تقدر بالمئات يجتهدون في تجميع الطوب، وأطر السيارات وفروع الأشجار, لعمل كردوان تأميني, استمر العمل حتي صلاة الظهر, ومع أول ركعة بدأت الشرطة في مهاجمة المتظاهرين بالرصاص وقنابل الغاز, أتذكر أن الصلاة كانت ركعتين, ببكاء وأصوات لأحجار تضرب علي أعمدة الإنارة كوسيلة إنذار يستخدمها المتظاهرون للتنبيه بأن هناك خطرا.

رميت أوراقي وأمسكت بهاتفي لتسليم خبر بما يحدث هنا لزميلي بالجريدة, لم يسمع من شهقات بكائي حرفاً  واحداً, وأنا أصرخ: الدماء تملأ الطرقات أمامي, عيادات مستشفى المسجد بها عشرات المصابين وأجزاء منهم مفقودة, مشهد جعلني عاجزة عن الحركة لدقائق, قررت المكوث بالخارج ومتابعة الأوضاع من خلال أطباء المستشفى فور خروجهم, للوقوف على أعداد المصابين وأبرز الإصابات ونقل التقارير الطبية للصحيفة تليفونياً.

انتشرت طائرات من فوقنا تهاجمنا بقنابل الغاز, و بخطوات سريعة نتقدم للاختباء داخل المسجد. أغمضت عيني على أصوات الذخائر, والتي لم تهدأ حتي الساعة الرابعة عصراً, أدرك المتظاهرون أن دخول الليل يعني “تصفيتهم”, خاصة بعد وصول أخبار تفيد بأن ميدان رابعة تحول لمقبرة، وأن الداخلية تحرق أجساد من يقاوم جنون بطشهم, انتهي يوم الفض وانتهت معه أعمار لرجال ونساء بغتة دون سابق إنذار, وقبل أن يرحلوا تركوا لنا مشاهد دمائهم بذاكرة العين التي كلما أغمضت تذكرت جثثهم المشوهة.

كان ومازال الإخوان يحتمون بالسلمية أمام البطش النظامي، بل ويعتقدون بذلك أنهم الأقوى، جماعة أهدرت دماءها سياسياً وقانونيا ويتساقط العشرات منهم موتى داخل السجون لما يتعرضون له من تنكيل وتعذيب بدني ونفسي ممنهج، وأعضاؤها معرضون للتصفية الجسدية بالخارج ومازالت تتنفس السلمية، قيادات وشباب تنتظر رقابهم قرارا بالتعليق على المشانق ويهتفون “سلميتنا أقوى من الرصاص”.

 تلك النماذج المحيرة التي لو نطق الصبر لقال لهم متعصباً: “من أين لكم بهذه النفسية المستفزة”، ومن أوجب لكم التخاذل بدعوى السلمية”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها


إعلان