بسيوني نحيلة يكتب: الأمة بين عام جديد وعام رهيب

يبني كثيرٌ من الناس نظرة التفاؤل أو التشاؤم لما هو قادم -غالبًا- على الوقائع والأحداث المعاصرة والخبرات والمواقف السابقة. يتبع

يبني كثيرٌ من الناس نظرة التفاؤل أو التشاؤم لما هو قادم -غالبًا- على الوقائع والأحداث المعاصرة والخبرات والمواقف السابقة. وبناءً على هذه القاعدة في الحكم على ما هو آتٍ؛ وجدنا كثيرًا من المحللين والنقاد، والسياسيين والأكاديميين يستقبلون العام الجديد بنظرةٍ من اليأس وعينٍ من الإحباط، حتى لقاءات العامة من الناس في المدن والقرى لا تخرج عن هذا الانقباض النفسي والتوجس مما تحمله أيام العام الجديد للبشرية كافة وللأمة الإسلامية بصورة خاصة.

والجميع يتساءل في اضطراب وحيرة، أيمكن أن ينبثق العام الجديد بآمال سعيدة وتوقعات متفائلة لبني الإنسان وسط هذه المآسي الرهيبة والمجازر البشرية (بل قل: الحيوانية نسبة إلى جرمها ومجرميها) التي قضت على بسمات الأطفال، وحطمت أحلام الشباب، واستباحت أعراض الحرائر العفيفات، وأنهكت قوى الرجال، وفتتت بنيان الأوطان، وسرقت مقدرات الشعوب، وحبست الحريات والأقلام، وكممت العقول والأفواه، وزيفت الحقائق والأرقام، ولعبت بعقول العامة والضعفاء، وألهت الشعوب بمتع الحياة وشهوات البطون، ومكنت للفاسدين والفساق، وقهرت المصلحين والعباد… والقائمة تطول بالأحزان والآلام التي قد تبرر بعضًا من اليأس والأحزان، ولكن التمادي مع هذه القائمة القاتمة والبكاء على الآثار والحطام ما هو إلا مصاب آخر يُضاف إلى آلام الأمة وهزائمها؛ إذ به تكون الأمة بين مستضعفٍ وشهيد، أو بئيسٍ وكئيب، وعندها يكون سؤال الشاعر المكلوم: فمن للأمة الغرقى إذا كنا الغريقنا؟ ومن للغاية الكبرى إذا صغرت أمانينا؟ ومن للحق يجلوه إذا كلت أيادينا؟.

 وللخروج بأنفسنا من هذه الحالة النفسية المتأزمة التي يريدها لأبناء الأمة وشبابها المخططون والكائدون للقضاء على الأمة واستقلالها لابد من إضافة عوامل أخرى عند استقبال العام الجديد الملتهب بقساوة العام المنصرم، من هذه العوامل وأهمها: الانتقال إلى العام الجديد بنفوس جديدة، روحًا وفكرًا، وواقعًا وعملاً، إذ لا يمكن أن نرى حالًا جديدًا وواقعًا متغيرًا من خلال نفوس قديمة بالية جامدة ساكنة، ألفت الأوضاع واستكانت للأقدار.

وأول ما يعين على تجديد النفوس وتغييرها: وقفة صادقة لتقييم النفس ومحاسبتها فيما قدمت وأخرت على مستوى الأفراد والأسرة والمجتمع والأمة والإنسانية، والحذر من اجترار زلاتها وهفواتها وضعفها وانكسارها لعام آخر، ففي ذلك استهانة بالهزيمة واستبقاء للأحزان.

ولابد أيضا من تغيير النظرة للأشياء والحكم عليها، إذ لا يمكن تغيير الأوضاع بتغير السنين والأيام فحسب دون تجديد النظّارات والنظرات، فالأمة في حاجة إلى نظرات متجددة ثاقبة، تُلم بتاريخها، وتفهم واقعها وتحلله، وترى مستقبلها وتخطط له. لابد من إحياء الأرواح بالإيمان واليقين، وتجديدها بالأمل والتفاؤل، وتحصينها من اليأس والإحباط، فذلك خير معين وقت المصائب والمدلهمات، وليس كما يقول البعض: بأنه من المخدرات وقت الأزمات.

لابد من تجديد الوجوه المتصدرة في الواجهات، والممثلة لشرائح الأمة في الهيئات والمنظمات من القيادات على جميع المستويات، ففي ذلك تأكيد على البقاء، وإصرار على المضي عبر السنين من خلال الأجيال، وأيضا فيه تجديد وتطهير للدماء، وبعث على الحركة والنشاط، وتفجير لطاقات الإبداع والابتكار في التخطط والآليات والتنفيذ. إن صناعة العام الجديد يجب أن تكون بذوق مختلف تنتعش به النفوس وتهفو إليه الأرواح على جناحي الإرادة والعزيمة وليس الأمل والانتظار.

لا يمكن للأمة أن تستقبل عامًا جديدًا، تتوقع من خلاله تغيير الأحوال والنوازل التي ألمت بها إلا إذا أحدثت هذا النوع من التجديد للنفوس والعقول والأرواح والأفكار والعلاقات والوسائل والأساليب، فبذلك تكونوا مؤهلة لقرار التغيير الإلهي، الذي هو لصالح الحق دومًا. يقول تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد،11). فإذا رضي القوم بواقعهم، ولم يتحركوا للتغيير والتجديد، وأصبح عامهم الجديد كالعام المنصرم، ويومهم كأمسهم، تدخلت سنة الله الغالبة في تغيير الأمة التي أصرت على عدم تغيير النفس وتجديدها، وفضلت بقاءها على القديم  الذي ينبغي فيه التطوير والتغيير. يقول تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) (محمد،38).

فعام جديد سعيد لكل نفس جديدة سعيدة.

دكتور. بسيوني نحيلة
كلية الشريعة – جامعة قطر

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها


إعلان