طريقةٌ واحدة فقط وجدَ فيها التّونسيّون سبيلا للخروج من دوّامة الخصاصةِ والحرمان بعد أن فقدوا الأمل في تدخّل الحكومات الّتي تتالت دون جديد يذكر. يبتع

سنواتٍ مرّت على هروب أوّل ضحايا ربيع العالم العربي الرّئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ستّ سنواتٍ قد تبدو دهرا طويلا لكنّها في عمر الثّوراتِ تعتبر برهةً زمنيّة قصيرة وقصيرة جدّا لا تكفي لتحقيق كلّ ما ثار التّونسيّون من أجله وخاصّة اقتصاديّا، فبضع سنوات لا يمكن أن تكفي لإصلاح ما أفسده أكثر من نصف قرنٍ من حكمٍ فاسدٍ أنتج فقرا مدقعًا ونسب بطالةٍ مرتفعة في صفوف الشّباب خاصّة.
طريقةٌ واحدة فقط وجدَ فيها التّونسيّون سبيلا للخروج من دوّامة الخصاصةِ والحرمان بعد أن فقدوا الأمل في تدخّل الحكومات الّتي تتالت دون جديد يذكر، فلا الوعود الانتخابيّة نُفِّذَتْ ولا الأموال الّتي نهبتها حاشية بن علي استُرْجِعَتْ ولا خيرات أراضي دوز وغيرها اسْتُخْرِجَتْ.. موقِعٌ في الشّبكةِ العنكبوتية، إلكترونيّ، تحت اسم “planetwin”، موقع مقامَرَةٍ انتشر في ظرفٍ وجيزٍ بين صفوف المواطنين انتشار النّار في الهشيم، أو بالأحرى انتشار العساكر المصريّين في الميادين.
بين ليلةٍ وضحاها لم يعد لروّاد المقاهي في جميع الولايات التّونسيّة حديثٌ إلاّ عن مبارياتِ كرةِ القدم حتّى التي تقام خلف جدران سور الصّين العظيم، عن سلامة أبرز اللاّعبين وعن حضورهم البدنيّ وتجاوز الموضوع مداه ليفطّنوا إلى رياضات أخرى كالهوكي وسباق الخيل وحتّى رمي الرّمح، فالموقع يتيح الفرصة لزوّاره ليراهنوا على كلّ أنواع الرّياضات الموجودة في أنحاء العالم وبطريقة توحي بإمكانيّة الفوز بسهولة شديدة، إذ إنّه يعرض على المراهنين إمكانية اختيار عدد الأهداف المسجّلة أو اختيار اللّاعب الذّي لن يسجّل وغيرها من الخيارات، ثمّ في حالة الفوز يقوم الموقع بإرسال النّقود إلى حسابٍ بنكيّ إلكترونيّ يكون المشارك قد أنشأه.
ونظرا لصعوبة عمليّة إنشاء المواقع البنكية الإلكترونيّة في تونس والتي تتطلّب استخراج وثائق كثيرة لإتمامها، اتّجهت فئة من الشّباب الذين يملكون مثل هذه الحسابات إلى ابتكار عمل جديد جرّاء موقع المقامرة المذكور، إذ إنّ كثيرا منهم يعرضون على من يرغب في المراهنة استعمال حساباتهم بمقابل وفي حال الفوز يقوم الموقع بإرسال النقود إلى حساباتهم وبدورهم يقدمون المبلغ المربوح إلى الفائز مع الظّفر بنسبة من المكسب، وقد قامت السّلطات التونسية بمنع ذلك لاحقا، لكن معظم هؤلاء يواصلون عملهم.
في مقهى كائن بين الأزقّة الحزينة بولاية أريانة، اتّخذ مالك -اسم مستعار- منذ سنتين على حدّ قوله ركنا وقد وضع إلى جانبه حاسوبا وآلة طباعة صغيرة ليبدأ عمله هناك، فهو يستقبل يوميّا أفواج المراهنين الحالمين بالفوز بمبالغ ماليّة، يقول مالك، شابّ تونسيّ يبلغ من العمر 26 سنة وصاحب شهادة جامعيّة في مجال الإعلام، إنّه كان يعمل نادلا في نفس المقهى قبل أن يقدّم استقالته إن صحّ التّعبير ليتفرّغ لعمله الجديد إذ إنّه على حدّ تعبيره صار يكسب أضعاف ما كان يتقاضاه من ربّ عمله وقال ضاحكا أنّه صار يفكّر في شراء المقهى.
وأوضح الشّابّ بأنّه يستقبل يوميّا أكثر من خمسين شخصا من أعمار مختلفة، فيهم الفقراء وميسورو الحال أيضا، عاطلون وموظّفون، أطفال وشيوخ وحتّى أرباب عائلات، يراهنون بمبالغ متفاوتة أقلّها دينار ونصف وأكثرها مئات الدّنانير مؤكّدا أنّ مقامرين عدّة يزورونه أكثر من مرّتين في اليوم، يؤكّد مالك أنّ ما يقوم به يعتبر مساعدة للمواطنين التّونسيين اذ إنّه يوفّر لهم فرصة الفوز بمبالغ ماليّة ضخمة، الشيء الّذي لم يقدر على توفيره السّياسيّون بمختلف توجّهاتهم.
أمضينا يوما برفقة مالك اخترنا فيه الحديث مع “عمّ صالح” شيخ جاوز السّتين من عمره وحريف وفيّ لدى الشّاب الجامعيّ، مطلّق وأب لطفلة لم يتمكّن من رؤيتها منذ سنوات طويلة حين هجرته طليقته لتلتحق حسب قوله بعشيقها في مصر. يقول “عمّ صالح” إنّ معاشه بالكاد يكفيه قوت يومه وإنّه من خلال موقع المقامرة صار يشتري ما لذّ وطاب من مأكولات ويدخّن أغلى أنواع السّجائر، وأنهى حديثه قائلا إنه يوما ما سيربح مبلغا ضخما يمكّنه من السّفر للبحث عن ابنته وتوكيل محامٍ يمكّنه من استعادتها من زوجته السّابقة.
وحين ذكرنا له موقف الدّين من الميسر أجابنا بأنّ نوّاب البرلمان التّونسي ذات يوم اتّجهوا للصّلاة بعد تمرير قانون يقضي بتّخفيض ثمن الخمر المستورد. حريف آخر وفيّ، مراهق لم يتجاوز ربيعه الثامن عشر، أكّد أنّه لم يفز يوما رغم أنّه يراهن منذ ما يقارب السّنة، واستطرد مؤكّدا على مواصلة المقامرة رغم خسائره التي بلغت والعهدة على الراوي أكثر من 200 دينار.
في تلك الأثناء، شدّ انتباهنا طفل صغير دخل المقهى واتّجه نحو مالك للمقامرة، يقول مالك بأنّ ذلك الطّفل يأتي مرّتين كلّ أسبوع ليراهن على الفوز بمبلغ كبير جدّا يمكّنه من شراء منزل جديد بحيّ راق يسكنه رفقة والدته بعيدا عن والده الذي يعنّفهما يوميّا حين يعود ليلا من حانة اعتاد السّهر فيها. وقبل مغادرتنا، دخل صاحب المقهى مساء فقرّرنا أن نسأله عن السبب الّذي دفعه الى السّماح لمالك بالعمل هنا، فاكّد أنّ عدد روّاد المقهى قد تضاعف منذ أن اتّخذ الشّابّ رفقة حاسوبه ذلك الرّكن فضلا عن أنّ هذا الأخير يقوم بدفع مبلغ ماليّ شهريّ مقابل تمكينه من ذلك الرّكن، وبسؤاله عمّا إذا ضايقه أفراد الأمن باعتبار أن ما يقوم به ممنوع أوضح أنّه ومالك يقومون برشوة الأمنيين اذا ما داهموهم.
مساء غادرنا المقهى بعد أن امتلأت بمواطنين من مختلف الطّبقات الاجتماعيّة والأعمار، وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة، يجلسون وأوراق المراهنة بين أيديهم، يتابعون باهتمام اللّاعب رقم عشرة يتلاعب بالكرة وبأحلامهم، ولسان حال كلّ واحد يقول “أنْ حقّق أمانينا وكن أفضل من حكومتنا”.
محمد فضل الله الزغلامي
مدون تونسي
المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها