حين بكيت لأول مرة منذ خرجت من مصر

انفجرت في البكاء، نعم هذا هو التعبير الذي يناسبني تماما؛ الانفجار. لم أبكي إشتياقا إلى بلدي أو أحبابي أو كما يتبادر إلى الأذهان عند ذكر الغربة، بل بكيت لأني رأيت “أبي” يبكي لأول مرة في حياتي.

كنا خمسة بنات ولم يُرزق والداي بأولاد ذكور حتى أن أمي عندما وضعت أختي الرابعة جاء الجيران يقدمون واجب العزاء لوالدي وهم يتأوهون على حاله. وعلى الرغم من ذلك لم أسمع أبي يشتكي من كوننا بنات؛ اللهم إلا في حالات الشجار التي تحدث دائما في كل بيت فيعلق مازحا: “ده أنا ليّ الجِنان بنوعيه” (يقصد الجنة والجنون).

كبرنا ونحن نعتقد أننا لا نمثل أي شئ في حياة أبي، فهو بنا أو من غيرنا موجود.

إذن أين المشكلة؟

المشكلة أن أبي لم يعبر لنا عن حبه بشكل مباشر؛ فقد كان شديد الحياء حتى أنني ظننت أنه لا يحبنا. كنت أرى الفخر في عينيه وهو يقدمني إلى أحد أصدقائه أو عندما أعود من العمل وأحكي له ما مر بي من مواقف غريبة وكيف تصرفت ولكن لم أسمعه يقول أنا فخور لكونك ابنتي.

لا أتذكر أنه حضن أو طبع على جبين إحدانا قبلة. وعندما شكونا إلى أمي هذا الأمر قالت مازحة: “أبوكم برج السرطان وهو برج لا يعرف صاحبه كيف يعبر عن مشاعره”.  فاقتنعنا بالرد ونسينا الأمر.

كبرنا ونحن نعتقد أننا لا نمثل أي شئ في حياة أبي، فهو بنا أو من غيرنا موجود. وترسخ هذا الحس بداخلي بعدما تزوجت أختى الكبرى؛ فبينما نحن نبكي بعد العرس من أننا رجعنا بدون أختنا لم نرى الدموع في عين أبي وكأنه فرض عليه أن يبكي هو الآخر. لم أكن بالعقل الكافي في هذا السن لأفكر أن أبي كان يحب أختي بشدة حين دقق في إختيار زوجها وحين تعب في تجهيزها؛ وحتى منعه لخطيبها من زيارتها كان حباً؛ أليست الغيرة إحدى أنواع التعبير عن الحب؟!

لم أفهم أي شئ من شدة الخوف فسألته من هذا الشخص؟ فقال بحدة: أستاذ الفيزياء بتاعك لحقتي تنسيه؟

أتذكر الآن حينما جاء أبي ذات يوم إلى المنزل متجهم الوجه وناداني إلى غرفته وأغلق الباب؛ وكنت وقتها في المرحلة الثانوية. شعرت أن كل من بالمنزل يسمع دقات قلبي وأنا أتسائل بداخلي عن أي ذنب إقترفته حتى يغضب أبي بهذا الشكل. وقفت أمامه وعيني في الأرض وصوابعي تكاد تخرج من مكانها من شدة التوتر والضغط عليها حتى أستجمعت شجاعتي وسألته عما حدث.

فقال بجدية: الأستاذ إللي إسمه “فلان الفلاني” يريد خطبتك فما رأيك؟

لم أفهم أي شئ من شدة الخوف فسألته من هذا الشخص؟ فقال بحدة: أستاذ الفيزياء بتاعك لحقتي تنسيه؟

فإنفجرت في نوبة ضحك بدلا من أن يعتليني الحياء. كنت سعيدة أن الأمر أبسط مما أتوقع. فقلت له: ولكن استاذ “فلان” لا يصلي جماعة في المسجد .. فقاطعني قبل أن أكمل كلامي وقال: معكي حق هو لا يناسبك. تفضلي.

أعرف أن من يقرء هذا الكلام ولديه أولاد سيفهم إحساسي جيدا. 

الآن فقط أفهم تصرف والدي. فقد كان يمكنه الرفض بدون إخباري ولن أعرف ولا أملك الجرأة في مناقشته. ولكنه خاف أن يكون قلبي قد تعلق بأستاذي ولم أخبر أحد فأراد أن يعرف رأيي بنفسه. وغضبه كان بسبب إضطراره أن يخبرني وهو يعلم علم اليقين أنه شخص غير مناسب لي. والمواقف التي لم أفهمها في وقتها كثير.

اليوم جاءت أختي من سفر أكثر من عامين بدون إخبار أحد لتصنع لأسرتنا مفاجأة سعيدة. وأرسل لي أخوتي صور أبي وهو يحتضنها ويبكي. وجدتني أنا الأخرى أبكي بحرقة. ياللهول! أهذا هو أبي الذي لا يحبنا ولا يشعر بغيابنا!!

كم أنا حمقاء غبية

يا ليت الزمان يعود يوما فأتعلق بعنقه وأقبل وجنتيه حتى يحمّر وجهه من الخجل. ليتني أجلس تحت أقدميه وأحكي له عن أحلامي التافهه وعن مغامراتي مع زوجي. ليتني لم أدع للشيطان فرصة أن يفسد علاقتنا ويحرمنا من أن نعيش تلك المشاعر البريئة. ليتني أمتلك الشجاعة وأهاتفه وأخبره عن مدى حبي له وندمي على تقصيري في حقه.

أعرف أن من يقرء هذا الكلام ولديه أولاد سيفهم إحساسي جيدا. 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها


إعلان