ستة عشر عاما من بلد لآخر ما بين الشرق والغرب، لا أزعم بالطبع أنها كانت سهلة دائما ولكن ومع تكرار هذه الخبرة باختلاف المعطيات في كل مرة أضحى الانتقال أمرا عاديا ومتوقعا وفقد تلك الهالة المخيفة التي يضفيها البعض عليه.
اصنع البهجة…
تجبرنا الظروف أحيانا أو نجبر أنفسنا نحن على اتخاذ بعض القرارات التي تتعلق بانتقال الأسرة من مكان إلى أخر أو من وضع ما الى وضع جديد يختلف عما سبق، وبغض النظر عن كون هذا التغيير المرتقب اختياريا او قسريا فلابد للأسرة بشكل عام، والوالدان تحديدا من التعامل مع هذا الأمر بطريقة إيجابية لضمان الانتقال المرن الميسر للأسرة.
عن الانتقال، والتأقلم وإعادة التكيف، عن هذه الموضوعات سوف أتحدث في هذه التدوينة وتدوينات قادمة من وحي ستة عشر عاما من التنقل.
ستة عشر عاما من بلد لآخر ما بين الشرق والغرب، لا أزعم بالطبع أنها كانت سهلة دائما؛ ولكن ومع تكرار هذه الخبرة باختلاف المعطيات في كل مرة أضحى الانتقال أمرا عاديا ومتوقعا وفقد تلك الهالة المخيفة التي يضفيها البعض عليه.
الوالدان، رمز الأمان والاطمئنان في العائلة ومصدر الشعور بالراحة والسعادة، مشاعرهما التي يعبران عنها قولا وفعلا هي مصدر المعلومات الأول للأبناء عما يحدث حولهم، كلما حرص الوالدان على توازنهما وإظهار المشاعر الإيجابية أمام الأبناء كلما ساعد ذلك على تقبل التغيير والتعامل معه باعتباره محطة جديدة في الحياة، قد سبقها محطات، وقد يلحقها محطات قادمة أيضا.
لم يعد لمواسم الهجرة والانتقال والرحيل من مكان لآخر أوقات محددة، بل باتت حدثا عاديا في حياة الأسرة العربية من أي البلدان كانت، هذه المواسم التي اقترنت في السابق بتوافر فرص العمل من جهة وبدء أو انتهاء العام الدراسي للأبناء من جهة أخرى لم تعد كذلك.
قد يكون القرار اختياريا أو قسريا بالنسبة لبعض الأسر وفق اختلاف الظروف والمعطيات الشخصية وفي البيئة المحيطة، وبغض النظر عن كل ذلك يبقى لدينا الجانب الأهم وهو كيفية تعامل العائلة مع هذا الوضع وبخاصة ما يسمى بالمرحلة الانتقالية.
تبالغ بعض الأسر في ردود أفعالها حيال أي تغيير في نظام الحياة من أي نوع كان، فيتم التعامل مع الموضوع وكأنه مصيبة وهم وكربة وقد يكون ذلك فعلا في بعض الحالات، ولكن ليس كلها بالطبع وتغفل هذه الأسر عن الأثر المستقبلي على أفرادها نتيجة التعامل بسلبية مع الأمر.
خلقنا الله وأودع فينا تلك القابلية المذهلة على التأقلم والتكيف مع كافة الأوضاع والظروف التي قد نحياها سواء بإرادتنا أو رغما عنا، وعلى الرغم من ذلك فما يحدث على أرض الواقع (مما شاهدت وسمعت وتعايشت معه) يجعل من الأسرة تعاني كما هائلا من المشاعر السلبية والمعاناة النفسية مع كل تغيير (انتقال) في حياة الأسرة.
يكمن السر في التعود، عندما يعيش الإنسان ضمن ظروف ما فإنه ومع مرور الوقت يبدأ بالتعود على هذه الظروف حتى وإن لم تكن ممتازة أو مثالية، وهذا ما يحدث بالضبط مع الأسرة بكافة أفرادها؛ فالوالدين يعتادان على ظروف عمل معينة ترتبط بطبيعة هذا العمل والدخل الناتج منه، الأم تعتاد على المنزل الذي تعيش فيه مع زوجها وأبنائها، وتتأقلم مع مواصفاته أيا كانت، الأبناء يعتادون على الحي والجيران والنظام المدرسي، وهكذا عندما تحاصر الأسرة تلك الظروف التي تستدعي التغيير تبرز بشكل مباشر مشاعر المقاومة النفسية لهذا التغيير المرتقب، بحيث تترجم هذه المقاومة إلى مظاهر متعددة أهمها الحزن، الاكتئاب، سيطرة المشاعر السوداوية على التفكير والخوف من المستقبل، ويزداد الوضع سوء عندما يبدأ الوالدان ببث هذه الأفكار والاحاسيس السلبية للأبناء عبر الأحاديث اليومية بقصد أو بدون قصد.
للتعامل مع المسألة برمتها فلابد من التالي:
- الوعي الذاتي بحقيقة الأمر وبأن الإنسان لن يجد الخير المطلق ولا الشر المطلق في أي مكان أو زمان يحيا فيه، في كل ظرف نستطيع تلمس جوانب إيجابية مهما ظهرت الأمور بعكس ذلك أو بدت الأبواب مغلقة، وهناك بالطبع جوانب سلبية غير محببة والقاعدة هي أنه كلما ارتفعت المكاسب (مادية ومعنوية) في ظرف ما ترتفع (المخاطر) المتوقعة على الصعيد الآخر، مع ملاحظة أن الخيار مفتوح أمامنا دائما في أي اتجاه نوجه تفكيرنا؟! الأمر بيدنا.
- الخروج من دائرة المألوف في مجتمعاتنا العربية في النظرة لهذا الأمر، حيث جرت العادة أن يحاط الانتقال مهما بدا جيدا بهالة من الحزن والألم والقلق مع كثير من الدموع والهدايا واللقاءات الوداعية، ومما تعلمت حقا من تكرار هذه التجربة أنه وعلى الرغم من أهمية تبادل المشاعر بين الناس إلا أنه لابد للشخص المعني بالانتقال من الانتباه حتى لا يُساق رغما عنه في الانغماس بمشاعر سلبية يبثها الآخرون من حوله، باختصار شديد.. الدنيا أصبحت صغيرة جدا، ومسألة التواصل ما بين الناس الآن أصبحت من أسهل ما يكون للكبار والصغار، كما أن الظروف والمعطيات في تغير دائم فقد يعود المسافر وقد يسافر المقيم، أما الأعمار والنهايات فهي بيد الله وحده، القرب أو البعد لن يغير من الأمر شيئا.
- اجعل من ذكريات ما قبل الانتقال حدثا مبهجا لك وللمحيطين من حولك، وبمقابل طوفان المشاعر السلبية التي قد تحاط بها: اخلق تيارا إيجابيا وركز فيه على ما تجده مكاسب متوقعة من الانتقال، خطط جديدة يمكن تنفيذها، تعويض ما فاتك نتيجة وجودك في مكان ما، فكر في المستقبل وما هو قادم ولا تتعمق كثير في التفكير والتحليل بما حدث ولماذا حدث، قرار الانتقال سواء كنت مجبرا عليه أو مختارا له قد تم وانتهى الأمر.
- أما الوالدان، فالمهمة هنا مضاعفة عليهما والجهد المطلوب يتعلق بهما شخصيا وبخلق هذه الأجواء وبث الإيجابيات في الأسرة عبر حوارات دائمة مع الأبناء، ولا بأس من إشراكهم في بعض القرارات إن كان ذلك متاحا.
المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها