لقد ظهر جلياً أن السياسة الأمريكية تجاه سوريا التي وضعها الموظفون الأمريكيون الكبار في الخارجية والبنتاغون والسي آي إيه، هي السياسية الماضية المستمرة
قبل مذبحة خان شيخون أحجم ترمب عن الملف السوري وتجاهله وتناساه تماماً.
وناداه الروس عدة مرات في الشهرين الماضيين ليتفق معهم على المستقبل السوري ولكنه لم يكن متعجلاً أبداً.
على عكس الروس الذين دخلوا لينجزوا المقاولة السورية بثلاثة أو أربعة أشهر كما أعلنوا وبلغوا الشهر العشرين وما زال المقاتلون السوريون قادرين على أن يشنوا هجمات مؤثرة في دمشق وحماة ودرعا والساحل.
في مفاوضات الأستانا كلفت الخارجية الأمريكية السفير الأمريكي هناك ليحضر كضيف شرف لا يهش ولا ينش.
وفي جنيف غاب الدور الأمريكي تماماً إلى درجة جعلت رئيس وفد التفاوض المعارض نصر الحريري يناشد ترمب أن يكون لأمريكا دور فاعل أمام روسيا لتحريك مسار المفاوضات ظاناً أن ترمب يؤمن بالتوازن القطبي في سوريا.
لقد ظهر جلياً أن السياسة الأمريكية تجاه سوريا التي وضعها الموظفون الأمريكيون الكبار في الخارجية والبنتاغون والسي آي إيه، والذين يشتغلون في المستوى الثاني العميق بعيدا عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي هي السياسة الأمريكية الماضية المستمرة في شقيها العسكري المخابراتي من جهة والدبلوماسي السياسي من جهة أخرى، وعلى ذلك مضت خطط البنتاغون العسكرية باتجاه مدينة الرقة التي اعتمدت بشكل رئيسي على التحالف الوثيق مع القوات الحزبية الكردية العاملة تحت مسمى قوات سوريا الديمقراطية.
وحظيت هذه القوات بدعم مالي وتسليحي شبه مفتوح وزُودت بأسلحة ثقيلة ومتطورة بعضها لم يعط لكثير من دول الناتو ومنها الصاروخ المتطور المضاد الدروع “جافلين“.
واللافت أن دعاية هيلاري كلنتون الانتخابية هي التي ركزت في الشأن السوري على نيتها تقديم الدعم اللامحدود للميليشيات الحزبية الكردية…ولكن ترمب هو الذي طبق ونفَّذ هذه السياسة بل لم يطبق غيرها إلى الآن.
أما التوقعات والتهليلات والشطحات التي صدرت عن كثيرين بعد القصف الصاروخي الأمريكي لمطار شعيرات والتي اعتبر أصحابها أن هذا القصف له ما بعده وهو بداية سياسة جديدة للإدارة الامريكية تهدف لزعزعة بشار وتسهيل إسقاطه فقد اصطدمت بعدة جدران سميكة.
اصطدمت التوقعات فوراً بتصريحات صريحة لأكثر من خمسة مسؤولين وناطقين أمريكيين قالوا: ” لن نغير سياستنا في سوريا، لم تتغير أولوياتنا ولم يصبح من أولوياتنا إسقاط بشار الأسد، لم نعط لأحد وعداً بإسقاط بشار الأسد“.
واصطدمت التهليلات بمشاهد باهتة مخيبة للآمال لآثار القصف الأمريكي على مطار شعيرات الذي بلغ عمق بعض حفره المصورة بضعة سنتمترات فقط، وأتت التسريبات بعد ذلك عن ترحيل النظام لمعظم طائراته العاملة إلى مطارات أخرى قبل القصف بعد تحذير روسي عاجل أعقب التبليغ الأمريكي للروس بالعملية بل أعقب تبادل المعلومات التي عرف الأمريكيون من خلالها الأجزاء التي يوجد فيها الروس ومعداتهم في المطار.
وبعد القصف بيوم واحد أعلن النظام عن عودة المطار إلى الخدمة بفضل التجهيز الروسي السريع الذي أمد النظام بمواد خاصة لإصلاح مدارج الطائرات وهي مواد سريعة التصلب والصلابة….
وأعلن الروس بغضب أنهم سيزودون المطارات بمنظومات رادارية ودفاعية متطورة.
واصطدمت الشطحات التي اعتقدت أن هذا القصف يدشن بداية مواجهة لإسقاط بشار وإخراج إيران ومليشياتها من سورية وتحجيم الدور الروسي في سورية، اصطدمت بمشاهد وتصريحات دعائية أمريكية فاقعة محضة…
فكان الإخراج التصويري لانطلاق صواريخ توما هوك إلى أهدافها من البارجتين الأمريكيتين في البحر المتوسط من عدة زوايا مع ظهور العلم الأميركي على ضوء وهج انطلاق كل صاروخ…والتصريحات الأمريكية الدعائية المهوَّلة بعد الضربة نافست تصريحات الحكام المقاومين والجنرالات الممانعين، فقال ترمب :”أمريكا انتصرت للعدالة بهذه الضربة” وأبدع المتحدث باسم الخارجية الأمريكية باللغة العربية حين وصف القصف بالإجراءات الحاسمة الصارمة غير المسبوقة ، وقال ألم تروا إلى الصواريخ التي انطلقت من البارجتين كيف وجهت رسالة رادعة واضحة وكررت له القنوات أثناء كلامه مقاطع انطلاق الصواريخ ووهجها الذي يضيء العلم الأمريكي الشامخ.
يا لها من دعاية ستنقلب على ترمب عند السوريين إذا لم يفعل شيئا بعد ضربه للشعيرات البسيطة التي لم تزعج بشار، وربما أفادته لينشط دعاية المقاومة والممانعة والحرب الكونية عليه وأفادته بمسوغ قوي ليحصل من روسيا على طائرات جديدة حديثة وأنظمة تسليحية متطورة أخرى.
ولكن هذه الدعاية ربما ترفع من شعبية ترمب داخل الولايات المتحدة لأنه طالما انتقد أوباما على عجزه وتراجعه عن خطوطه الحمر في المسألة السورية وقد تنجح الدعاية إلى درجة إظهار ترمب كفارس أمريكي بطل.
وليس من المرجح أن ينتبه الشعب الأمريكي إلى محدودية ويُتم هذه الضربة في ظل غياب تامّ لجهود المعارضة السورية وغياب اشتغالها على الشعب الأمريكي داخل الولايات المتحدة …غياب مقيت يجعلك في دهشة كبرى إذا أجريت استطلاعاً لعينة عشوائية من الشعب الأمريكي فأجابك اغلبهم أنه لا يعرف شيئا عن مأساة الشعب السوري إلا أن هناك حربا على داعش.
ولكن اليوم التفت الشعب الأمريكي مباشرة إلى صور المجزرة في خان شيخون والتفت إلى الفاعل الوحيد، والتفت إلى صور الصواريخ المنطلقة من البوارج الأمريكية الحربية، فهل تنطلق حملة منظمة كبرى من معارضين سوريين حقيقيين داخل أمريكا وخارجها فيدقون كل باب أمريكي إلكتروني كان أو بيتيّ ليوصلوا مأساة الشعب السوري إلى الضمير الجمعي الأمريكي.
ذلك الضمير الذي انتفض ضد ترمب وأبطل قراراته منذ شهرين رغم أنها قرارات لا تخص الشعب الأمريكي في شيء إلا أنها عارضت منظومة القيم التي يؤمن بها أغلبية الشعب الأمريكي.
ومن انتفض ضد قرار منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة سيثور إذا علم أن مليونا ومئتي ألف سوري قتلوا بسبب تجاهل الإدارات الأمريكية لجرائم النظام وإفساح المجال واسعاً للإيرانيين والروس ليوسِّعوا ويزيدوا من هذه الجرائم.
هل يفعلها معارضون سوريون حقيقيون بعد هذه الضربة للشعيرات، أم أنها ستكون دعاية عابرة لترمب ولا شيء بعدها.
المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها