المشترك بين الحالتين هو فخرهم بضرب النار وأن ما فعلوه –بحسب كلامهم-شيء عادى وكان حسب الأوامر الصادرة لهم.
يقولون “تسهل الكتابة عن الألم”، ولكنى أجد الصواب جانب هذا القول خصوصا لمن عاين هذا الألم وعايشه. أربع أعوام مرت على مذبحة فض اعتصام رابعة العدوية “أم المذابح”، ولم تسكن الذكرى ولم يهدأ الألم .
لم يتبق لنا شيء نصف به “أم المذابح” المروعة بعد أن شاهدها ملايين عبر بث حي من داخل الاعتصام نفسه، وقت حدوث الفض، وعبر تقارير حقوقية عدة وثقت جرائم القتل والحرق وشهادات عن الدم الذى سال ولم تشربه أرضية الميدان، يبقى فقط ذكرى المواقف التي لا تنسى والألم الشخصي.
كنت جمدت أي عمل ميداني منذ الأسبوع الأخير لشهر يونيه 2013 نظرا لحالة الاستقطاب الشديد الذى حدث، وارتفاع مستوى الشحن الكبير والأوضاع لم تكن تبشر بخير مع هذا الحال ومع توقع التدخل العسكري، وهو البديل الجاهز حينها، و لمعارضتي لـ 30 يونيو رغم عدم رضائي عن أداء الرئيس مرسى؛ فصاحب الموقف ذاك مثلى لم يجد نفسه ضمن أي من الفريقين الكبيرين المتصارعين وكان يرفضهما ويرفض التدخل العسكري، وحين كسرت التجميد كنت في ميدان رابعة حيث الاعتصام الكبير دعما ومؤازرةً له ضد البطش المتوقع، فقد اختبرنا العسكر وسلوكهم مع أي اعتصام من قبل.
وفى الأسبوع الأخير من الاعتصام – قبل فضه – تكرر تهديد الداخلية بفضه أكثر من مرة، وهو ما كان يزيدنا تأكيدا على دعم الاعتصام، ولو بتكثير عدده على أقل تقدير.
اعتدت قضاء بعض الوقت في الاعتصام خصوصا أنه كان بجوار مقر عملي حينذاك، وأمر عليه يوميا، وساعدني أكثر وجود رفقة يحملون نفس موقفي وقد كان منهم المصاب والشهيد فيما بعد.
صبيحة يوم الفض المشؤوم استيقظنا على أنباء بدء فض الاعتصام، هرعت كغيرى للحاق بالاعتصام ولكننا منعنا من المرور له عند تقاطع نادى السكة الحديد، وحُصرنا بين قوات من الداخلية في الأمام وأخرى من الجيش في الخلف، وما بين محاولة وصمود استهلكنا طوال نهار اليوم، قصة غير مروية وغير معلوم شهداء ومصابي هذا المكان في هذا اليوم حتى الآن، ومع حلول الليل جاءت بعض الأقاويل بإنهاء فض الاعتصام فانكسرنا نحن وانصرفنا عاجزين .
بعد الفض بشهور التقيت اثنين من المعارف كلٌ على حدة، وفى مناسبتين مختلفتين كانا ضمن قوات الفض، ومن عادتي في هذه المواقف أن استمع ولا أقاطع، وإن سألت يكون بطريق غير مباشر، وألا أشعر محدثي بمواقفي وتحيزاتي.
الأول مجند ضمن قوات الجيش بسلاح المظلات يحكى لي فيقول:” فرقتي انتقلت من مقرها الدائم (في إحدى محافظات الدلتا) إلى نادى الحرس الجمهوري”، ويضيف: “كنا متوزعين في أعالي بنايات نادى الحرس الجمهوري بحيث لا يرانا من هو خارج النادي – فرقتي وأخريان من سلاح المظلات جاءوا خصيصا في هذا المكان منذ منتصف يونيه 2013، وكانت توجد قوات أخرى من أسلحة مختلفة، كنا نخرج وقت الضرب (يقصد وقت الفض) خارج النادي وحتى نهاية شارع الطيران لنحمى الضباط”.
سألته هل ضربت نار؟ أجاب “اللي قدامى جاي يضربني”، سألت: وهل هم (أقصد المعتصمين) كانوا بيضربوا عليكم؟، رد: “كانوا بيحدفوا طوب”.
أما الآخر فهو مجند داخلية ضمن القوات الخاصة الذى يقول بفخر: “احنا (يقصد القوات الخاصة) أعلى تسليح في الداخلية واحنا تحت الجيش على طول”، سألته أين كنت يوم الفض؟ فأجاب بأنه لا يعرف تحديدا اسم شارع أو منطقة، وأضاف أنه كان ضمن طاقم مدرعة، ويروى: “الضابط فتح باب المدرعة، وقبل ما يحط رجله على الأرض الطوب اشتغل، ودخل الضابط جوه المدرعة بسرعة وقفل بابها”.
سألته، هل ضربت نار؟، رد: “كتير”، قلت له: يعنى خزنتين(أقصد خزنة طلقات سلاح الآلى المتعدد) رد “أكتر”، قلت: يعنى 4، رد ” أكتر”، قلت: 6، رد ” أكتر”، قلت: 8، رد “أكتر”، وصمت ولم أشأ أن أزيد حتى لا يفاجئني بالمزيد؛ وكل ما يدور في عقلي كمية الرصاص التي أطلقها مجند واحد فقط، إنه لربما أصابتني رصاصة من رصاصاته وقت الفض وكلٌ منا في جمعه .
المشترك بين الحالتين هو فخرهم بضرب النار، وأن ما فعلوه –بحسب كلامهم-شيئا عاديا، وكان حسب الأوامر الصادرة لهم، فضلا عن أنى لم ألمح من أيٍ منهما، ولو علامات ندم أو احساس بالخطأ حتى بعد إنهاء تجنيدهما الإلزامية وخروجهما للحياة العامة.
والواضح أيضا حجم ونوع الشحن الذى وجه لهؤلاء المجندين، لكن الغريب هو مدى استجابتهم لتلك الأوامر والذى يظهر ضحالة ثقافتهم ووعيهم والمامهم بالأمور العامة، وخير مثال على سلوك هؤلاء مقولة: “إن لدى الإنسان نزعة لتنفيذ الأوامر الصادرة ممن هو فوقه بغض النظر عن كونها صحيحة من عدمه ” .
4 أعوام مرت على الحدث ولم تسكن الذكرى ولم يهدأ الألم ولا تزال المواقف غير المروية ترفض أن تغادر ذاكرتنا .
اعتقد بأنه لم توثق “أم المذابح” بالشكل المطلوب، ولكنى أتمنى أن أرى توثيق “أم المذابح” في فيلم درامي طويل، فما يحيكه فيلم درامي واحد أضعاف ما ترويه عشرات الوثائقيات والتسجيلات، والفيلم الدرامي أبقى تأثيرا لدى المشاهدين ولأجيال عدة ، ولنا في فيلم “عازف الباينو أو “The Pianist” العبرة والشاهد .
المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها