يبدو أن أحكام الإعدام والمؤبّد لم تعد تخيف كما يفعل عقاب “الفيس بوك” اليوم، قاضي القرن الحادي والعشرين الجديد والفطن الذي لا يخفى عنه شيء ولا يفلت من براثن روّاده حتى أتفه التفاصيل، فلا مسلسلات ولا أفلام ولا شخصيات ولا خطابات ولا انجازات ولا مناصب، لا أحد يمرّ على “ماكينة” الفيسبوك مرور الكرام هو الذي يستبيح المنغمسين في عالمه الغريب كلّ شيء، فهم العالِم والأستاذ والسياسي والفنان والصحفي والمحلل والناقد والمعارض والمساند في آن واحد،لا يحتويهم قالب ولا يوحّدهم صوت، حذار! من أن يعلم ربّما تكون أنت فريستهم التالية.
إن السياسة اليوم قد خرجت من قائمة التابوهات والخطوط الحمراء التي تنتحر على عتبتها أية حرية كما كانت في السابق، فاحتضتنها منشورات الفيس بوكيون وتعاليقهم وصارت خبزهم اليومي إذ لا يمرّ خطاب لرئيس الجمهورية أو أيّ من قليلي الفعل والقول في السياسة من دون أن ينال نصيبه من السخرية والتهكّم ومقاطع الفيديو الهزلية التي عادة ما تعبث بفحواه أو تقارب بينه وبين مسرحيات عادل إمام.
قد لا نستغرب أن يقوم المواطن العادي بمثل هذه الحركات والأفعال لكن ما يخيف اليوم هو أن المثقف والمدوّن ومن يفترض بهم أن يدافعوا عن قداسة الخطاب السياسي ورقيّه فهو هيبة الدولة وحرمتها، هم أيضا يستحلّون كلّ سبل العبث والتطاول ويشجعون عليها حتى أصبح الخليط متجانسا فلم نعد نفرّق بين الغث والسمين ولا الجميل والقبيح ولا المفكّر ولا المدمّر، وصار الكل في سلّة واحدة.
يبدو أن “الفيسبوك” قد صار منبرا للإفتاء والنصح والإرشاد والمساهمة في اتخاذ القرار بدلا عن أصحابه ووسيلة لإبداء الرأي وأحيانا فرضه على مسؤولين. فالكل هناك يفقه في الفنّ وخفايا الأعمال الدرامية ويعرف ما يستحق وما لا يستحق. إن الترند الجديد قد مكّن الجمهور المشاهد من تجاوز مرحلة التلقي والفرجة إلى ما خلفها من تكاليف واختيارات الممثلين وأدائهم.
فمن اتفقوا عليه علا شأنه مهما كان وأيًا كان دوره، ومن اختلفوا معه دفعوه بحملاتهم واحتجاجاتهم الإلكترونية وحملات المقاطعة إلى أعماق الحضيض وأخمدوا وجوده. هكذا صارت الأعمال الدرامية والهزلية تقيّم حتى إن المشرفين عليها أصبحوا يحسبون ألف حساب لردود فعل جمهور “الفيسبوك” وما سيقولونه وما سيكتبونه.
إن الشائع اليوم بين صفوف الشباب هو تهمة “الثقفوت” والتي تنسب لكلّ من اكتسب مثقال ذرّة من علم أو قرأ إهداءً من كتاب وزايد بالاطلاع والمعرفة. والأفظع أن من يلقون هذه التهم عادة ما لا يجدوا في المرافعة شهودا ولا أدلّة تؤكد صحّة دعاواهم بل هم ذاتهم تجلٍّ لهذه الظاهرة وهم صانعوها.
تتمثّل المخلفات العكسية السلبية لهذه الظاهرة في أن من يطلبون العلم والثقافة قد صاروا متخوفين من مثل هذه التهم حتى إنهم لجأوا إلى الصمت واحتفظوا بما يكتنزون لأنفسهم.
تحوّل “الفيسبوك” إلى مسرح سباب وشتائم والمرعب أن رقعته تتسع كلّ يوم لتضمّ نخبة جديدة وتبتلعها في عمقها الأجوف. صار هذا العالم المخيف حلبة للمصارعة والتطاحن وفي الكثير من الأحيان يتحوّل إلى محكمة من دون مذنبين.
المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها

