الدكتور علي باشا إبراهيم الذي أنشأ للطب المصري مؤسساته

 

ولد الدكتور علي إبراهيم باشا في العاشر من أكتوبر ١٨٨٠ في مدينة الإسكندرية، وكان والده إبراهيم عطا رجلا عصاميا شهما يتمتع بقسط وافر من علو النفس وقوة البنية حتى بعد أن تجاوز الثمانين من عمره. ويرجع أصل علي إبراهيم من ناحية والده إلى قرية «مطوبس» بالقرب من منية المرشد مركز «فوة» بكفر الشيخ، أما والدته فكانت إسكندرانية الموطن مغربية الأصل.

بين الإسكندرية و القاهرة :

وتلقي علي إبراهيم تعليمه الابتدائي في مدرسة رأس التين الأميرية، حتى حصل على الشهادة الابتدائية (1892) وكان ترتيبه الأول. وواجه علي باشا مع هذه الأولية أولي العقبات التي صادفها في حياته، فقد أغلقت مدرسة رأس التين الثانوية أبوابها، واضطر علي باشا إلى أن يذهب إلى القاهرة لاستكمال تعليمه والتحق بالقسم الداخلي من المدرسة الخديوية بالقاهرة، وظل طيلة سنوات الدراسة الثانوية الخمس مجدا في دراسته إلى أبعد الحدود، عاملا علي الاستزادة من حقائق العلوم، والتغلغل في أسرارها، وقد راقته فروع العلوم الرياضية فلاقت في نفسه قبولا واستحسانا (دفعاه إلى المزيد من البحث والدراسة)، فكان يستعير من معارفه الذين يكبرونه في السن كتب مدرسة الطب التي تتحدث في بعض هذه العلوم بشيء من التفصيل، وكان التعليم في ذلك الوقت لا يزال باللغة الإنجليزية، وهكذا أتيح للدكتور على إبراهيم باشا  أن يكون لنفسه قاعدة أساسية في كل من هذه العلوم حتى حصل علي المركز الثاني في البكالوريا سنة (1897).

في مدرسة الطب :

والتحق الدكتور علي باشا بمدرسة الطب فأصبح طالبا من الاثني عشر الذين تضمهم دفعته ومن الستة والعشرين الذين تقوم عليهم مدرسة الطب بسنواتها الست سنة سبع وتسعين وثمانمائة وألف (1897)، وكان عميد الكلية في ذلك الوقت هو الدكتور إبراهيم حسن، وقد استعان على أعمال إدارة الكلية بالدكتور كتنج وكان أستاذا للتشريح بالكلية، وسرعان ما تولي الدكتور كتنج عمادة الكلية في العام التالي سنة ثمان وتسعين وثمانمائة وألف (1898). وعلي الرغم من أن مدرسة الطب كانت في ذلك الوقت تعاني شر حالات التدهور، إلا أن علي باشا استغل قلة عدد الطلاب وما ترتب علي ذلك من جو مشجع علي الدراسة، والمناقشة والبحث  ومراجعة الأساتذة والمعامل، واستطاع أن يحصل العلم خير تحصيل، فكان يرجع إلى الكتب ويراجع الأساتذة، ويتفحص الجثث في المشرحة ويجري التجارب في المعامل، ويتتبع حالات المرضي ليلا ونهارا، وهكذا كان علي إبراهيم الطالب في جده واجتهاده، فظل طيلة الفترة التي قضاها في معاهد الدرس شخصية مرموقة بين الطلاب بعلمه وعمله وخلقه، ولم يكن في حاجة إلى بذل كل هذا الجهد للاحتفاظ بالأولوية، ولكنه كان يجتهد إلى الحد الذي جعله في مصاف الأساتذة وهو طالب.

أساتذته في الطب:

وفي مدرسة الطب عرف علي إبراهيم العلامة المصري الكبير الدكتور عثمان غالب فتعلق به، وصار يلازمه بعد انتهاء وقت الدراسة، فيصحبه إلى بيته، ويقضي معه الساعات الطوال يتكشف دقائق أبحاثه، ودراساته. وجدير بالذكر أن الدكتور عثمان غالب هذا هو أول من كشف عن دورة حياة دودة القطن، كما أن له بحوثا عالمية في علوم البيولوجيا، وتتلمذ علي إبراهيم علي يد الدكتور محمد باشا دري شيخ الجراحين في الجيل السابق لعلي إبراهيم، وأخذ عن الدكتور محمد علوي باشا أول الباحثين في أمراض العيون المتوطنة، وسيد الإكلينيكيين فيها، وصاحب الفضل على الجامعة المصرية القديمة.

في وظيفة وهو طالب :

فلما كان علي إبراهيم في السنة النهائية من كلية الطب، عين مساعدا للدكتور سيمرس أستاذ علمي الأمراض والميكروبات، وقرر له راتب شهري عن وظيفته هذه، غير أنه قد استفاد أضعاف مرتبه بما اكتسبه من خبرة وتدريب علي يد العالم الإنجليزي الكبير، فقد مارس الدكتور على إبراهيم باشا في ظل أستاذه البحث العلمي علي خير ما تكون الممارسة، وتكونت له في مرحلة مبكرة شخصية العالم الباحث المحقق، ولم يكن التبكير في هذا بالنسبة لسنه فحسب، وإنما بالنسبة لحركة البحث العلمية الوطنية في الطب وغير الطب.

أول دبلوم الطب :

كانت الدراسة في مدرسة الطب حين التحق بها علي إبراهيم ست سنوات، ولكن الدكتور كوبريري الذي استدعاه الدكتور كيتنج من إنجلترا ليضع تقريرا عن حالة المدرسة، نصح الحكومة بأن تختصر سني الدراسة إلى أربع فقط، ولاقي اقتراحه هذه قبولا عند « دنلوب » المستشار الإنجليزي في وزارة المعارف، وهكذا تخرج علي باشا إبراهيم بعد أربع سنوات، (1901) في الطب، وبترتيب الأول، وبفارق ثمانين درجة بينه وبين الثاني علي الدفعة.

وقضى الدكتور علي إبراهيم باشا العام الأول بعد تخرجه كما قضي العام الأخير قبل تخرجه في مساعدة أستاذه الدكتور سيمرس في أبحاثه العلمية، وهكذا أتيح له أن يدرس علمي الأمراض والميكروبات دراسة علمية مستفيضة، وأن يلم بأدق تفاصيلهما وأحدث الاكتشافات فيهما، مما ساعده فيما بعد مساعدة كبيرة في المهام التي انتدبته لها وزارة الصحة.

عيادة خاصة :

قبل أن تمضي سنتان على حصول الدكتور علي إبراهيم باشا علي دبلوم الطب، استطاع أن يفتتح بالاشتراك مع صديقه الدكتور عبد الحميد محمود عيادة خاصة. وكان نصيب الدكتور علي إبراهيم باشا من الأعباء المالية مائة جنيه كان قد اقتصدها من قبل لتحقيق هذا الأمل، وحرص علي إبراهيم علي أن يجهز عيادته الناشئة بأحدث الآلات المتوفرة في ذلك الزمن.

في بني سويف :

وفي عام (1903) قرر المدير الإنجليزي لمصلحة الصحة المصرية تعيين علي إبراهيم مديرا لمستشفى بني سويف بالنيابة. والحق أن الله سبحانه وتعالى قد أتاح لعلي إبراهيم فرصة ذهبية في هذا الموقع. ففي بني سويف بدأ الدكتور على إبراهيم باشا يحقق مجده الجراحي، إذ جاءه عمدة إحدى القري المجاورة بابنه، وكان مصابا بحصوة في المثانة، فقرر علي إبراهيم إجراء العملية في اليوم التالي، ودهش العمدة حين علم بأنه سيعود إلى قريته مصطحبا ولده، مع أن عملية الحصوة كانت إلى ذلك الحين تستدعي بقاء المريض في المدينة قريبا من المستشفى والطبيب إلى أن يأذن الله له بالشفاء.

بداية الشهرة :

ذاع خبر الدكتور علي إبراهيم باشا في بني سويف ومصر الوسطي، وكأنما كانت عملية الحصوة معجزة من المعجزات حققها الدكتور على إبراهيم باشا ، وكان الدكتور على إبراهيم باشا  الشاب يشير بإجراء عمليات جراحية نصح أستاذه بعدم إجرائها، ثم يقوم بإجرائها فتنجح العملية وتضيف إلى نجاح علي إبراهيم نجاحا جديدا.

أجنبي في وطنه :

ووجد الدكتور علي إبراهيم باشا نفسه في موقف لا يحسد عليه في مدينة أسيوط عاصمة الصعيد، فلم تكن شهرته التي طبقت الآفاق بمصر الوسطي لتجدي نفعا أمام العقيدة الأسيوطية الراسخة في الاقتناع بالأطباء الأجانب وحدهم، ولم يكن هناك أجنبي عن الأجانب إلا علي إبراهيم، وفي أسيوط عدد كبير من عيادات هؤلاء الأطباء، بل إن فيها مستشفى الأمريكان، وليس للأسايطة حاجة إذن إلى علي إبراهيم.

الحظ في الصيف :

وما أن أقبل الصيف حتى واتت الأقدار الدكتور علي إبراهيم باشا بالخير، إذ سافر الأطباء الأجانب إلى بلادهم لقضاء عطلة الصيف، ولم يبق في أسيوط غير الدكتور على إبراهيم باشا، ولم يلبث الناس أن اضطروا للذهاب إلى هذا المصري الذي تركه لهم الأجانب في بلدهم، فاكتشفوا حين جربوا علاجه العبقرية الفذة التي حرموا أنفسهم منها طوال الشتاء. ولم يكن يوم يمضي إلا ويحقق علي إبراهيم إضافة جديدة إلى رصيده من الحنكة والبراعة والمهارة والقبول عند الناس. وأخذت شهرة علي إبراهيم تنتشر حتى طبقت آفاق القطر المصري كله، وصار المرضي يحجون من كل حدب وصوب إلى أسيوط حيث علي إبراهيم.

الهواء ينقل العدوى :

وفي أسيوط أجري الدكتور علي إبراهيم باشا بالاشتراك مع الدكتور طود ثاني أبحاثه الطبية، وقد أثبت الدكتور على إبراهيم باشا  في هذا البحث إمكان انتقال العدوي إلى جروح العمليات بواسطة الهواء في بعض الظروف وعلي الأخص في الأشهر التي تهب فيها رياح الخماسين، وكانت مثل هذه النتيجة في مثل هذا الوقت غريبة علي الأفكار، ونشر هذا البحث في بعض المجلات الطبية الإنجليزية، وترتب عليه أن تقرر إنشاء غرف مغلقة للعمليات الجراحية في سائر المستشفيات الأميرية.

نظام الممرضات :

ولم يكن هذا أعظم ما حققه الدكتور علي إبراهيم باشا في أسيوط، ولكنه حقق في عاصمة الصعيد إنجازين طبيين آخرين لا يقلان أهمية عن هذا الإنجاز. ففي أسيوط استن علي إبراهيم للطب المصري نظام الممرضات، ولم يكن هذا النظام موجودا قبل أن يتفق الدكتور على إبراهيم باشا  مع أحد الأديرة في أسيوط علي إرسال راهبات للتمريض بالمستشفى نظير مكافأة شهرية، وأرسل علي إبراهيم إلى مصلحة الصحة خطابا بما فعل طالبا منهم صرف هذه المكافأة، فعارضوه ولكنه تشدد وأرسل لهم خطابا أبدي فيه اعتزامه دفع هذه المكافأة من جيبه الخاص في حالة رفض المصلحة تحملها.

استئصال الطحال المتضخم :

أما الإنجاز الجراحي الأهم  فكان قيام الدكتور علي إبراهيم باشا بإجراء عملية استئصال الطحال المتضخم سنة (1907)، ولم يكن هذا إنجازا في حد ذاته فحسب، ولكن قيمته تزداد إذا علمنا أن أول عملية استئصال طحال متضخم تم إجراؤها في قصر العيني علي يد الدكتور ريتشارد سنة (1911). وقد بلغ الدكتور علي إبراهيم باشا قمة المجد الطبي والجراحي في أسيوط، وأصبح دخله من مستشفاه يربو على أربعمائة جنيه في الشهر الواحد بعدما كان أربعمائة مليم، واشتهرت عبقرية علي إبراهيم في أرجاء القطر المصري كله برغم أنه كان في أسيوط، بل إن الناس ظلوا يسمونه بعدما انتقل إلى القاهرة بالأسيوطي، وظل هذا اللقب يلازم جراحنا الكبير طوال حياته.

عودة إلى قصر العيني :

عاد الدكتور علي إبراهيم باشا إلى القصر العيني حين قدم الدكتور علي لبيب مساعد كبير الجراحين في قصر العيني طلبا باستعفائه من منصبه هذا، عرض أولو الأمر على الدكتور علي إبراهيم باشا شغل هذا المنصب، فلم يتردد ولم يتوان، وطار إلى القاهرة مغامرا بما حقق من شهرة واسعة وربح جم في أسيوط، ومضحيا بما انتهي إليه من صيت ذائع وسمعة ناصعة في الصعيد.

العمليات علي الجثث :

بدأ الدكتور علي إبراهيم باشا يدرس التشريح من جديد، ولم يتخلف مرة واحدة طوال سنتين عن قضاء عطلة الأسبوع في المشرحة، واستأذن أستاذه الدكتور كتنج في إجراء العمليات الجراحية التي توصل إليها الجراح الألماني الكبير «كوخر» علي جثث الموتى.

وأخذ الدكتور علي إبراهيم باشا يجري هذه العمليات علي جثث الموتى عملية بعد عملية، ومرة بعد مرة حتى تمكن من هذه العمليات إلى حد كبير، وهنا تجلي عزم الدكتور علي إبراهيم باشا الذي أخذ يدرس عمليات «كوخر» مستعينا بالمجلات الطبية

ولم تمض علي الدكتور علي إبراهيم باشا سنتان في مدرسة الطب حتى شارك الأستاذين الكبيرين مادن وفرجسون في بحث عن «التصريف الليمفاوي في علاج داء الفيل»  وقد نشر البحث في المجلة الطبية البريطانية سنة اثنتي عشرة (1912).

حروب البلقان :

وفي أواسط أكتوبر سنة اثنتي عشرة وتسعمائة وألف (1912) أعلنت حرب البلقان، ونشأت في مصر جمعية الهلال الأحمر المصرية. ولم يكن نشوء هذه الجمعية إلا تعبيرا عن الروح المصرية الأصيلة في الحرص علي القيام بأعمال الخير والمشاركة في ضروب البر ومسايرة الأمم في سبيل التعاون الدولي الإنساني، وكان أول أعمال هذه الجمعية أن هيأت العدة لإرسال بعثتين إلى مواقع الحروب، واستطاعت جمعية الهلال الأحمر المصرية أن توفد بعثتيها هاتين في فترة مبكرة من الحرب (نوفمبر 1912) .

توجهت البعثة الأولي تحت رئاسة اللواء الدكتور سليم موصلي باشا إلى قرية « سازلي بوسنة» في  شمال غرب الآستانة، وكانت مركزا لتجمع الجرحى والمصابين من قوات الدفاع عن «شطلجة».

أما البعثة الثانية فقد رأسها الدكتور علي إبراهيم باشا وتوجه بها إلى إسطنبول مضحيا بما بلغه في القاهرة من مجد جراحي مؤثل، ومن عمل مستمر مثمر، تاركا راحة الخلود واطمئنان الاستقرار إلى متاعب الجهاد من أجل التخفيف من آلام الناس.

علي إبراهيم في إسطنبول:

واستطاعت البعثة التي على رأسها الدكتور علي إبراهيم باشا أن تنشئ في إسطنبول مستشفى مركزيا تجري فيه العمليات الجراحية الكبرى. وقد حقق هذا المستشفى تقدما كبيرا من النجاح بفضل مهارة علي إبراهيم الجراحية، وقدراته الإدارية التي هيأت له أن يتولى في أثناء هذه الحروب قيادة ثلاث وحدات طبية من وحدات الجيش العثماني، وأن يقوم بإجراء مئات العمليات كل أسبوع في كل من هذه الوحدات.

ويعود الدكتور علي إبراهيم باشا من حروب البلقان برتبة البكوية من الدرجة الثالثة سنة (1913)، وسرعان  ما يمنح برتبة البكوية من الدرجة الثانية في السنة نفسها، كما يختار عضوا في المجلس الأعلى لجمعية الهلال الأحمر. ويستأنف علي بك إبراهيم كفاحه وجهاده في قصر العيني.

الهلال الأحمر :

وما أن اندلعت الحرب العالمية الأولي سنة (1914) حتى نشأت جمعية الهلال الأحمر المصرية مرة ثانية، وكان الأمير أحمد فؤاد (السلطان ثم الملك فيما بعد) على رأس الجمعية في هذه المرة، وقد حرص على أن يكون الدكتور علي بك إبراهيم عضوا في مجلس إدارة الجمعية، وأن يتولى أمر مستشفى جراحة أسسته الجمعية في ذلك الوقت للعناية بجرحي الحرب الذين تطوح بهم الأقدار إلى مصر.

الاستقلال القومي :

وفي هذه الأثناء التي اندلعت فيها الحرب العالمية الأولي (1914 ـ 1918) كان الدكتور علي إبراهيم باشا يخوض حربا ضارية في سبيل تحقيق الاستقلال القومي في مجال الطب، وكان علي إبراهيم يجاهد وهو يملك زمام المبادرة في يده فيما يتعلق بمجاله، بينما كان الساسة المصريون يكتفون في جهادهم من أجل الاستقلال بالحصول علي الوعود المعسولة والتصريحات المكتوبة، وقد ذهب علي إبراهيم يحاول جمع كلمة الأطباء لإنشاء جمعية أو نقابة، ولكن جهوده لم تفلح بسبب التعنت الذي لقيه من جراء عدم تعاون الأطباء الأجانب مع الأطباء المصريين، وكانت للأجانب الكفة الراجحة في ذلك الوقت، وكانت لهم جمعية قصروها علي أنفسهم وسموها الجمعية الطبية الدولية.

المجلة الطبية المصرية :

ولم ييأس الدكتور على إبراهيم باشا  ولم يترك فكرته، ولكنه احتال لها عن طريق آخر وأخذ يعقد الاجتماعات مع زملائه من الأطباء المصريين وعمل علي القضاء علي الخلافات التي كانت موجودة بين بعض فئاتهم، ثم كان الاجتماع التاريخي في أول سنة (1917) حين دعا علي إبراهيم صفوة من زملائه في عيادته الخاصة بشارع الصنافيري، وتمخض اجتماع هؤلاء الأطباء العشرة عن قرارهم بإصدار المجلة الطبية المصرية، واكتتبوا فيما بينهم بخمسمائة جنيه مصري أوقفوها علي إصدار المجلة. وحمل علي إبراهيم علي عاتقه أن يكون صاحب امتياز المجلة، وتولي الدكتور أحمد عيسي بك رئاسة التحرير، وصدر العدد الأول من المجلة الطبية المصرية في إبريل سنة (1917)  وقد ضم  هذا العدد الأول من هذه المجلة العريقة أول  أبحاث الدكتور علي إبراهيم باشا الطبية باللغة العربية، وكان موضوعه عن «بلهارسيا الحالب» أجراه الدكتور علي إبراهيم باشا بالاشتراك مع الدكتور أنيس بك أنسي.

محاولات نقابية باكرة:

وفي سنة ثماني عشرة وتسعمائة وألف (1918) عاد الدكتور علي إبراهيم باشا يكرر محاولاته في إنشاء نقابة الأطباء أو جمعية طبية، وحاول في اجتماع عقد في الجامعة الأهلية أن يجمع بين الأطباء الأجانب والمصريين في إنشاء نقابة مختلطة فلم يفلح سعيه في هذه المرة أيضا.

الجمعية الطبية المصرية:

ثم كان يوم الجمعة السادس عشر من يناير سنة عشرين (1920) حين اجتمع اثنان وأربعون طبيبا مصريا بدار الجامعة المصرية، بدعوة من الدكتور علي إبراهيم باشا وزملائه الذين أصدروا المجلة الطبية المصرية، واتفق الجميع علي إنشاء الجمعية تحت اسم (الجمعية الطبية المصرية)، وانتخبوا من بينهم لجنة تدير حركة الجمعية وتهيمن علي أعمالها (أي مجلس الإدارة)، وكان علي إبراهيم حصيفا بعيد النظر حين عمل علي إسناد رئاسة الجمعية إلى الدكتور عيسي باشا حمدي ناظر مدرسة الطب في عهد الخديو إسماعيل وشيخ الأطباء بلا منازع في ذلك الوقت، وانتخب علي إبراهيم وكيلا أول، والدكتور علي لبيب وكيلا ثانيا، والدكتور نجيب إسكندر كاتبا للسر، والدكتور محمد كامل الخولي مساعدا لكاتم السر، والدكتور محمود ماهر بك أمينا للصندوق، والدكاترة: محمد طاهر ونجيب بك محفوظ ومحمد صالح وسالم هنداوي ومحمد سامي كمال أعضاء، وحدد الأطباء المؤسسون الهدف من إنشاء الجمعية بأنه (إحياء اللغة العربية الطبية والتمشي بها مع العلم الحديث والاهتمام والبحث بنوع خاص في الأمراض المصرية البحتة والأمراض الأخرى التي تتشكل بأشكال مختلفة عند تغير إقليمها عندنا ، والنهوض الأدبي بما يليق بكرامة الطب والأطباء)، وهكذا يتضح لنا إلى أي مدي كان هؤلاء الأطباء الرواد يضعون في اعتبارهم عاملي القومية والوطنية، ويفهمون هذين العاملين الفهم الحق، ويتلمسون الطريق إلى تحويل الإيمان بهما إلى واقع عملي.. كل هذا قبل أن تمتلئ الساحة السياسية المصرية بالمفاهيم الواهمة في هذين الشأنين، كذلك ينبئنا الهدف في الثالث عن اضطلاع الجمعية الطبية بوظيفة النقابة التي لم تكن قد نشأت بعد.

وأخذ الدكتور علي إبراهيم باشا يبذل جهده ما وسعه الجهد في النهوض بالجمعية من شتي النواحي طوال السنوات الست الأولي من عمرها، إذ تعاقب علي رئاستها الدكتور عيسي حمدي باشا حتى انتقل إلى رحمة الله في الثامن عشر من أغسطس سنة 1924، فخلفه المغفور له الدكتور سعد بك الخادم وبقي رئيسا بالنيابة خمسة شهور، ثم تولي الدكتور ظيفل باشا حسن رئاسة الجمعية في يناير 1925 ولم تطل مدته إذ اختاره الله إلى جواره في إبريل (1925) . وتولي علي إبراهيم رئاسة الجمعية في يناير سنة 1926، و ظل يتولى هذه الرئاسة عاما بعد عام بإجماع الأصوات حتى توفاه الله.

نهضة علمية قومية :

احتضن الدكتور علي إبراهيم باشا الجمعية ومجلتها، أو قل المجلة وجمعيتها باعتبار الأسبقية إلى الوجود. وقد ظلتا تتخذان من عيادته في شارع الصنافيري مقرا دائما طوال ثلاثة وعشرين عاما انتهت بالفراغ من بناء دار الحكمة. واستطاعت الجمعية المصرية بفضل الله الذي أجراه علي يد علي إبراهيم أن تقوم بأنشطة ضخمة في مجالات متعددة فنظمت لقاءات علمية أسبوعية تركت فيها الحرية للباحثين من حيث اللغة والموضوع مشترطة أن يكون التجديد رائدا للجميع، واستقدمت من أوروبا أقطاب الطب عاما بعد عام لإلقاء محاضرات فيما تجردوا له وتفردوا فيه، وأجرت مسابقات علمية في فروع شتي من الطب وخصصت للفائزين في هذه المسابقة مكافآت مجزية.

المؤتمرات الطبية العربية :

على أنه لا ينبغي لنا أن نترك الحديث في شأن الجمعية الطبية المصرية من دون أن نذكر طرفا من نشاط هذه الجمعية على المستوي العربي، وهو النشاط الذي نجح علي باشا إبراهيم في السير به خطوات واسعة و قوية إلى الأمام.

فبعد سنة من توليه الرئاسة واظبت الجمعية على عقد مؤتمرات سنوية تحرت في الترتيب لها أن تنتقل بها لا بين أمهات المدن المصرية فحسب، ولكن أيضا بين عواصم الأقطار الشقيقة، فعقدت مؤتمراتها السنوية في القدس وبيروت ودمشق وبغداد، كما عقدتها في القاهرة والإسكندرية والأقصر. وكان من نتيجة ذلك أن نشأت صلات وطيدة بين أطباء هذه البلاد العربية، فتقاربت أفكارهم فيما يتعلق ببرامج الدراسة، وأتيحت لهم الفرصة لتبادل العلم والمعرفة ودراسة كل جديد، ومناقشة المصطلحات الطبية والعمل على توحيدها والاستنارة بالجهود المتفرقة التي بذلت في كل بلد من بلدان العروبة.

ومن الحق أن نقول إن جهد الجمعية في هذا المجال لم يكن إلا إرهاصا قويا بالتقاء العرب واجتماع كلمتهم، وقد سبقت الجمعية بخطواتها في هذا الشأن الإجراءات والاجتماعات السياسية التي انتهت بإعلان قيام جامعة الدول العربية.

مجلة رائدة تصنع مكتبة زاخرة :

أما المجلة الطبية المصرية فقد خطت خطوات واسعة في سرعة هائلة، وكان علي باشا يختص هذه المجلة بأبحاثه القيمة ضاربا بذلك المثل والقدوة لزملائه من علمائنا الأفذاذ، ثم انتقل علي باشا بالمجلة من محيطها المحلي إلى محيط عالمي حين أفسح فيها المجال لنشر بعض الأبحاث باللغات الأجنبية سنة (1930)، وإذ ذاك أخذت المجلة الطبية تتبوأ مكانها في الدوائر العلمية العالمية، فأخذت هذه المراكز في أنحاء العالم تبعث في طلبها، وتتبادل مع الجمعية مطبوعاتها، وبلغ عدد الهيئات والجمعيات التي أخذت في تبادل المطبوعات مع المجلة أكثر من مائة وستين، وعندئذ بدأت الجمعية في تكوين مكتبتها العلمية الضخمة  المتميزة بدورياتها، ، كما تتميز هذه المكتبة ببعض المجموعات الأثرية من كتب الطب.

دار الحكمة :

ثم إن علي باشا إبراهيم ظل يجاهد من أجل إنشاء مبني للجمعية الطبية المصرية يكون بمثابة مركز اجتماع الأطباء والتقاء المشتغلين بالمهن الطبية، حتى استطاع سنة (1932) أن يحصل علي قطعة الأرض التي أقيمت عليها «دار الحكمة»، ووافقت الحكومة علي تأجير هذه المساحة التي تبلغ ألفا ومائتين وأربعة وخمسين مترا بإيجار اسمي جنيه واحد في السنة، ثم اجتهد علي باشا في اختيار أروع التصميمات لمبني الدار ووضع الحجر الأساسي في سبتمبر سنة (1936)، واستطاع أن يحصل من الحكومة علي إعانة قدرها عشرة آلاف جنيه سددت فيما بعد من الإعانة التي كانت وزارة المعارف تمنحها للجمعية الطبية المصرية، وتولي المهندس المعماري القدير مصطفي فهمي باشا الإشراف علي البناء حتى خرجت «دار الحكمة» آية من آيات العمارة الإسلامية. وقد تكلف بناؤها أكثر من عشرين ألفا من الجنيهات، واختير لها هذا الاسم تيمنا باسم المعهد الطبي الذي أنشأه الخليفة المأمون في بغداد، والفاطميون في مصر في عصور الإسلام المزدهرة.

وهكذا أتيح للجمعية الطبية ولمجلتها ولمكتبتها وللجمعيات الطبية الأخرى التي نشأت في أعطافها أن تنتقل إلى المقر الذي يليق بها في حي الطب والأطباء.

 وحين أنشئت النقابة فيما بعد وجدت في مبني «دار الحكمة» رحابة الصدر التي وسعتها.

الجمعيات الطبية :

وكان علي باشا إبراهيم يشجع قيام الجمعيات الطبية المتخصصة في إطار الجمعية الطبية المصرية الأم، فأسس مع ثلاثة وخمسين ومائتين من زملائه وتلامذته الجراحين جمعية الجراحين المصرية سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة وألف (1932)، وجمعية الأمراض العقلية والعصبية سنة (1934)، والجمعية المصرية للأمراض المتوطنة وطب البلاد الحارة سنة (1935) وجمعية تاريخ الطب سنة (1935)، وجمعية جراحي الأسنان سنة (1935)، وجمعية مكافحة الدرن سنة (1936) وجمعية أخصائي المسالك البولية سنة (1939).

زعيم الأطباء في ثورة سنة 1919 :

وانتهت الحرب العالمية الأولي، واندلعت ثورة سنة 1919 مطالبة بالاستقلال لمصر وبجلاء الإنجليز عنها. وكان الأطباء في بادئ الثورة بمعزل عنها، أو قل إن إسهامهم فيها كان في حدود الإسهام الفردي، وسرعان ما جمع علي إبراهيم جموع الأطباء في عيادته الخاصة بالصنافيري وحضهم علي الاستمرار في الثورة. واستمرت مصر في حالة من الغليان حتى صدر تصريح فبراير 1922)، وتوالت الأحداث السياسية بعد ذلك من تكوين الأحزاب وإجراء الانتخابات وقيام البرلمانات وتشكيل الحكومات، وعلي إبراهيم في شغل عن هذا بواجبه الأسمى في رعاية المريض والحنو علي المصاب وبتطبيب الجروح وتجبير الكسور.

لكن هذا لم يمنعه من المشاركة برأيه يوما بعد يوم في القضايا السياسية والوطنية المطروحة، ولم يمنعه أن يبدي تأييده للأحرار الدستوريين في مطلع حياتهم السياسية، وأن يدخل انتخابات البرلمان فيفوز بمقعد دائرة عابدين في ثاني انتخابات برلمانية، وهي الانتخابات التي أجرتها حكومة زيور سنة خمس وعشرين (1925)، حتى إذا انعقد البرلمان صباح الرابع والعشرين من مارس وانتخب سعد زغلول باشا رئيسا لمجلس النواب، تضايقت الحكومة والقصر، وصدر قرار الملك بحل مجلس النواب بعد تسع ساعت فقط من عمره، وكانت هذه الساعات التسع هي كل إسهام علي إبراهيم في عضوية مجلس النواب.

مع سعد باشا والنحاس باشا :

واصل الدكتور علي إبراهيم باشا سيره في الطريق المهني القويم و على هذه الحال من بذل الجد والاجتهاد في عمله من دون أن يعزل نفسه عن مجتمعه، ومن دون أن يضع نفسه في قالب من القوالب التي اتخذها المبرزون من أبناء المجتمع لأنفسهم.

هذا، وقد ظل علي إبراهيم صديقا لسعد زغلول يحظى بتقديره وتوجيهه ومساعدته طوال حياته، كان سعد ينصح علي إبراهيم بالابتعاد عن السياسة حتى يحافظ على أولويته وريادته للجراحة ، وقد اخذ علي إبراهيم باشا بهذه النصيحة بعد تجربته السياسية القصيرة في رحاب الأحرار الدستوريين .

وكان زعيم الأمة النحاس باشا زميلا لعلي إبراهيم باشا في فصل الدراسة بالمرحلة الثانوية، وظل الرجلان يحتفظان كل منهما للآخر بالود والتقدير طيلة حياتهما، حتى إذا مات الدكتور علي إبراهيم باشا كان الزعيم مصطفى النحاس في مقدمة المشيعين.

و بالإضافة إلى هؤلاء كان علي إبراهيم صديقا وفيا وناصحا مخلصا لكل الزعماء المصريين، يلم بهم عندما يلم المرض بهم، ويلمون به من دون أن يلم بهم المرض.

تمصير وظائف التدريس :

ويكافح علي إبراهيم في كلية الطب من أجل تمصير التعليم الطبي والحصول علي وظائف التدريس للمصريين، وظل  يكافح حتى استطاع أن يقنع الدكتور كيتنج مدير المستشفى بوجهة نظره، وانتزع للمصريين ست وظائف رئيسية في أقسام المستشفى المختلفة، واستمر علي هذا المنوال في سعيه الدؤوب من أجل هدفه السامي.

أول أستاذ مصري للجراحة :

وفي سنة أربع وعشرين (1924) اختير  الدكتور علي “بك” إبراهيم لشغل وظيفة أستاذ الجراحة، وكان بهذا أول مصري يشغل هذا المنصب، ثم اختير الدكتور على إبراهيم باشا  في عام ستة وعشرين (1926) وكيلا لكلية الطب عقب قيام الجامعة المصرية وانضواء مدرسة الطب تحت لوائها.

عمادة الطب :

وفي اليوم الثلاثين من شهر أبريل 1929 عقد مجلس كلية الطب جلسة خاصة لانتخاب عميد للكلية يخلف مستر مادن. وكانت ظروف المدرسة إلى ذلك الحين قد سارت علي تولي الإنجليز أمر العمادة، وعلي الرغم من ذلك ومن بقاء نصف كراسي المجلس مع الأطباء الإنجليز، فقد أجمعت الآراء علي انتخاب علي بك إبراهيم عميدا للكلية، و وافق المجلس علي نص قرار تقدم به أحد أعضاء المجلس هذا نصه: «تقديرا لما أظهره علي بك إبراهيم من المقدرة الخارقة للعادة في إدارة الكلية وتنظيمها في المدة التي كان فيها وكيلا للعميد، واعترافا بالمجهودات العظيمة التي بذلها في إعادة تنظيم الكلية، وفي نجاحها المطرد في الأعوام العشرين الماضية، رأي المجلس أن مصلحة الكلية والتعليم الطبي في مصر يقضيان بأن ينتخب عميدا للكلية». وسرعان ما اعتمدت الرئاسة العليا للجامعة نتيجة الانتخاب، وتولي علي إبراهيم عمادة الطب.

أحد عشر عاما من العمادة :

كان من حسن حظ كلية الطب أن يتولى علي إبراهيم أمرها، وأن تمتد الفترة التي ظل فيها علي رأس هذه الكلية حتى عام أربعين (1940)، ولم يكن انتخاب علي إبراهيم لمنصب العمادة في سنة (1929) حدثا هينا في تاريخ الكلية، إذ كان انتقال عمادة الطب من الأجنبي إلى المصري في ذلك الحين أمرا خطيرا تحتاج الكلية في تعزيزه وتأييده إلى أن تستشفع بالجهود العظيمة التي بذلها ابن البلد في إعادة تنظيم الكلية طيلة عشرين عاما بدأت منذ وضع قدمه فيها مساعدا لكبير الجراحين سنة تسع (1909).

وعلي الرغم من أن جهود علي باشا إبراهيم في كلية الطب ومستشفياتها غطت كل الجوانب التي ينبغي لمثله أن يعني بها، فإن أعظم ما حققه الدكتور على إبراهيم باشا  هو تمصير هيئة التدريس بكلية الطب. ولعل أروع ما في هذا الإنجاز هو الطريقة التي أتمه بها علي إبراهيم الذي تولي إدارة الكلية وليس بين أساتذتها من المصريين إلا ثلاثة، ثم تركها وليس بين أساتذتها من الأجانب إلا أربعة، وقد تم كل هذا من غير إخلال بمستوي التعليم أو بكفاءة المدرسين بل ارتفع مستوي الدراسة. والسر في هذا أن علي باشا اتخذ سبيلا إلى هدفه مقرونا بمنتهي الحكمة اللازمة لمقتضيات التدريس في ذلك الحين، فلما عاد طلبة البعثات الناجحون ألحقهم بوظائف التدريس الصغرى، يتمرنون فيها تحت إرشاد الأساتذة، حتى إذا سنحت الفرصة رقي منهم من ثبتت كفاءته ترقيا تدريجيا بلا طفرة ولا تعجل، وكان من محاسن التوفيق أن نضوجهم وافق اكتمال مستشفى المنيل الجامعي، فلما ضوعف عدد الأقسام وزيد عدد الطلبة إلى ضعفيه وجد من الأساتذة المصريين ومن المساعدين الأكفاء من سدوا الفراغ من غير احتياج إلى الاستعانة بعناصر أجنبية.

. تقدير الكفاءات :

علي أن أبرز ما كان في قيادة الدكتور علي إبراهيم باشا لهذا المجتمع العلمي الوطني الواعد  في ميدان الطب ما تتناقله الأجيال عنه من بعد نظره في تقدير الكفاءة التي يمتاز بها العاملون تحت إدارته. ولم يكن ـ رحمه الله ـ يدخر وسعا في تهيئة السبيل أمام من كان يوليهم ثقته، حتى أتيح لهؤلاء أن يصلوا برعايته الأبوية إلى المركز الذي يستطيعون فيه أن يخدموا العلم والتعليم بما تأهلوا به من صفات نفذ علي باشا إلى معرفة كنهها وتقدير كفايتها، ومن ثم كان لعلي إبراهيم تلاميذه الذين شقوا برعايته المجال العلمي حتى وصلوا إلى أعلي الدرجات وأرفع المناصب.

بناء قصر العيني الجديد :

أما مجهودات علي إبراهيم في مجال إنشاء مباني الكلية، فقد كانت من أكبر أعماله وأكملها. ولا نزاع في أن كلية طب قصر العيني كلها من إنشاء علي إبراهيم.. ذلك الرجل الذي وضع لإحيائها برنامجا محكما، ونظاما دقيقا. وكان أول ما عني به الدكتور على إبراهيم باشا  أن ينشئ مستشفى حديثا يتسع لألفي سرير، بعد أن تبين له أن المستشفى القديم لا يصلح لكلية طب من الطراز الأول. واستطاع علي باشا أن يحصل علي الأرض اللازمة لإقامة مشروعه الضخم من الملك فؤاد الأول، فحصل علي هذا الجزء الشمالي من جزيرة الروضة الذي تمتد فوقه الآن كلية الطب ومستشفى المنيل الجامعي. وقد وضع الملك فؤاد الأول حجر الأساس للبناء الجديد في السادس عشر من ديسمبر (1928) في أثناء الاحتفال بانعقاد المؤتمر الدولي لطب المناطق الحارة وعلم الصحة، والذي وافق الاحتفال بالعيد المئوي لمدرسة طب قصر العيني، وتولي علي إبراهيم أمر قصر العيني وبدأ البناء، وكان ينقصه كل شيء.. المال والرجال والمعدات، ولكن طبيعة الرجل العظيم ساعدته أيما مساعدة في الصبر علي المكاره والأذى والجلد في تحقيق هدفه الأسمى، ومازال علي إبراهيم يبذل جهده هنا وهناك حتى استطاع أن يقيم هذا الصرح التعليمي الضخم علي أقوم ما تكون الإقامة ولم يكن الرجل يلقي في عمله هذا التقدير ولكن الكثيرين ممن لم تكن لهم سعة خياله وبعد نظره قاوموه، وحسبوا عمله إسرافا لا مبرر له، ودعوا إلى إنشاء عدة مستشفيات صغيرة، ولكنهم نسوا ـ كما قال أستاذنا الدكتور كامل حسين ـ أن تعلم الطب وتقدمه يحتاجان إلى مؤسسات هائلة ومعدات لا تستطيع تملكها المستشفيات الصغيرة، ولو نجحوا في مقاومتهم له لأصبحت كلية الطب غير قادرة علي مجاراة غيرها من الكليات الدولية الأخرى، ذلك أن هذا الذي بناه علي إبراهيم ليس مستشفى فحسب، ولكنه بمثابة محكمة عليا للحالات التي يصعب علي المستشفيات الصغرى أن تتولاها، وهو بهذا يؤدي خدمة كبري لا غني عنها إن أردنا للتعليم الطبي في مصر رقيا مطردا.

المتاحف :

وأقبل علي إبراهيم علي قاعات الدرس ومتاحف الكلية، فبعث فيها روح التجديد والكمال والنظام، وأتاح مسايرة العصر ومضارعة أحدث المؤسسات العلمية على المستوي الدولي. والحق أن متاحف قصر العيني لو جمعت في مكان واحد لألفت مجموعة من أكبر وأهم مجموعات المتاحف في العالم أجمع.

وعند ذكر متاحف الكلية يجمل بنا أن ننقل هنا فقرات للمغفور له الدكتور أحمد عبد النبي، يحدثنا فيها عن موقف حدث له في العشرينيات حين ذهب يوم جمعة إلى الكلية للاستذكار مع زميليه الدكتور عبدالله الكاتب ووديع دمتري. يقول: « فراعنا  أن رأينا مناديا ينادي علي باب الكلية يقرع جرسه وينادي ببيع مجموعة من نماذج الجبس تمثل مختلف الأمراض بالمزاد العلني، وكنا نسمع من أساتذتنا أنها مجموعة نادرة وأن مثيلاتها في العالم قليل، فقر رأي ثلاثتنا علي الحيلولة دون ضياعها. ودخلنا المزاد ونحن طلبة لا يملك الواحد منا دراهم معدودة. ورست علينا تلك التحفة النادرة بمبلغ مائة وخمسين جنيها، حتم علينا أن ندفع منها عشرة في المائة في الحال، فجمعناها من بعضنا بمساعدة المرحوم  خليل أفندي عبد الخالق ضابط المدرسة، وجلسنا مغتبطين نفكر فيما عسانا أن نفعل في تدبير باقي المبلغ، فهدانا التفكير إلى الاستعانة بأستاذنا علي باشا إبراهيم، وقابلناه بعيادته وبثثنا شكوانا وكان الوقت وقت الغداء. فهنأنا وطمأننا قائلا: «ستحتفظون بهذه المجموعة، وستبقي لكم لا ينازعكم فيها أحد». وقام من فوره وقابل معالي وزير المعارف العمومية في ذلك الحين الذي تعطف فأوقف البيع، وقدم المجموعة هدية لنادي طلبة الطب».

الدراسات العليا :

وكان علي باشا ـ كما قدمنا ـ حفيا بالدراسات العليا في كل فرع من فروع العلم وفي كل تخصص من تخصصات الطب، ولعل البعثات العلمية لم تبلغ في يوم من الأيام القدر الذي وصلت له في عهد الدكتور علي إبراهيم باشا ، ثم إن الدكتور على إبراهيم باشا  لم يكتف بإرسال البعثات فحسب ، ولكنه سرعان ما أنشأ مستوي رفيعا للدراسات العليا في قصر العيني نفسه، كذلك ما لبثت كلية طب القاهرة أن فتحت الدرجات العلمية العليا لأبنائها، ويومئذ كان علي باشا إبراهيم أول من منحت الجامعة المصرية درجتي الماجستير والدكتوراه الشرفيتين في الطب سنة (1930).

الاعتراف الإنجليزي :

لم يترك علي باشا إبراهيم عمادة كلية الطب إلا بعد أن نهض بها إلى مكانة مرموقة على المستوي الدولي حتى أصبحت من أكبر مدارس الطب في العالم وأعلاها مستوي وأبعدها شهرة، وأصبحت كلمة «قصر العيني» مفتاحا سحريا لكثير من الأبواب الطبية العالمية. ويروي الدكتور عبد الرزاق السنهوري أن علي إبراهيم كان يعتبر اليوم الذي حصل فيه علي اعتراف إنجلترا ببكالوريوس الطب المصري من أسعد أيامه.

علي باشا والسياسة :

علي أن العوامل السياسية قد أثرت في مجهودات علي باشا إبراهيم سلبا أو إيجابا. فلم يكن طريق علي إبراهيم في أغلب الأحيان سهلا ممهدا ولا خاليا من العثرات أو العقبات، ولعل أصعب هذه العقبات علي نفس الوطني المصلح ما يلقاه من عنت المسئولين في الحكومات المتعاقبة، وعدم التفاتهم إلى رعاية المستقبل العلمي لمثل هذا المعهد العريق، وكثيرا ما كانوا يطلبون إلى علي إبراهيم تنفيذ بعض التعليمات التي كان الدكتور على إبراهيم باشا  يراها علي حقيقتها، ويعرف البواعث إليها، ويقدر مدي الضرر الذي سيلحق بالتعليم والعلم إذا ما استجاب لها. ولم يكن علي باشا عندئذ يواري في الحق أو يداري علي الباطل، وإنما كانت إرادته الصلبة تتجلي في قوة لا تعرف الهوادة، وكان يضع روحه علي يده، ومنصبه علي اليد الأخرى دون خوف أو وجل من أجل ما يراه حقا وواجبا.

أما الناحية الإيجابية، فإنه لولا النفوذ الشخصي الذي تمتع به علي باشا لدي الملك والحكومات المتعاقبة والسياسيين علي اختلاف مشاربهم لما استطاع أن يمضي في إصلاحاته وإنجازاته بالسرعة التي مضي بها.

ويحسن بنا عند تقدير فضل علي إبراهيم علي كلية الطب أن نفترض فرضا لم يقع. فلو قدر لكلية الطب أن يكون عميدها ممن لا يعنون إلا بما فيه فائدة عاجلة، أو ممن ليس لهم الأفق الواسع الذي كان لعلي باشا ، لظلت كلية الطب مجرد مدرسة صغيرة تعد طائفة من حاملي الشهادات الذين يمتهنون مهنة مقصورة عليهم بحكم الشهادة، ومستشفى لا يتميز علي سائر المستشفيات إلا بانتسابه بحكم الموقع إلى مدرسة الطب.

طب الأسنان :

وفي الأثناء التي تولي فيها علي إبراهيم أمر كلية الطب سواء في موقع الوكالة أو العمادة لم يأل ـ غفر الله له ـ جهدا في النهوض الصادق بالشقيقتين الصغيرتين طب الأسنان والصيدلة، وقد كانت مدرسة طب الأسنان منذ أن أنشئت عام (1925) تابعة لوزارة المعارف، ثم ضمت إلى كلية الطب سنة سبع وعشرين (1927) وعلي إبراهيم وقتئذ وكيل الكلية، فأولاها رعايته وحباها بالكثير من نشاطه وعنايته، وسار بها في مدارج الرقي بخطوات واسعة فلم يتقدم العهد به في عمادته للكلية بضع سنوات إلا وكانت مدرسة طب الأسنان قد شبت عن الطوق وبلغت غاية الكمال، وأصبحت من أرقي المعاهد في تخصصها كما أصبحت المصدر الأول لتزويد الوطن بأصحاب هذه المهنة.

النهوض  بمهنة الصيدلة :

أما مدرسة الصيدلة فكانت قد وصلت إلى درجة من الإهمال انعدم معه كيانها أو كاد، فما أن تولي علي باشا إبراهيم إدارة المدرسة حتى أخذ في تنظيم برامج الدراسة فيها  وإعداد الأساتذة الأخصائيين لكل مادة، فأكثر من البعثات العلمية حتى بلغت اثنتي عشرة بعثة في مختلف علوم الصيدلة، وساعد علي استكمال أدوات المعامل وأجهزتها، وسعي جهد طاقته إلى أن وفق في إقامة مبني خاص لمدرسة الصيدلة تجمعت فيه جميع أقسامها، وألحق بالمدرسة متحفا للعقاقير والمواد الطبية المختلفة، وحديقة للنباتات الطبية لتسهيل دراستها و التعرف علي طرق زراعتها، ثم أنشأ الدرجات العلمية لخريجي الصيدلة تشجيعا لهم علي البحث العلمي والإقبال عليه والاستزادة منه، ولم يكن ذلك كل فضله علي هؤلاء الخريجين، ولكنه ساهم معهم بأكبر قسط في تأسيس الجمعية الصيدلية المصرية سنة ثلاثين (1930) لتكون ـ وقد كانت بالفعل  ـ بمثابة مجمع علمي لهم، يتبادلون فيه أبحاثهم وآراءهم في شئونهم العلمية والفنية، ثم بذل جهده في تكوين مكتبة للجمعية ولصيادلتها تضم الدوريات العلمية الدولية في علومهم المختلفة، وأعانهم خير عون علي إصدار المجلة الصيدلية. وقد قابل الصيادلة جهود علي باشا إبراهيم معهم بالعرفان والتقدير فمنحوه الرئاسة الفخرية لجمعيتهم.

توثيق العلاقات العربية :

وقد استأنف علي باشا إبراهيم في كلية الطب ما بدأه من قبل ومن بعد في توثيق العلاقات الطبية العربية، فمهد الطريق لخريجي الطب في معهدي دمشق وبغداد إلى دخول امتحان ممارسة المهنة والانتظام في تلك الدراسات العليا في قصر العيني.

خليفة أحمد لطفي السيد :

وكان نظام الجامعة المصرية في أول عهدها يقضي بأن يتولى منصب وكيل الجامعة واحد من عمداء الكليات بالإضافة إلى العمادة، وكان الدكتور علي باشا إبراهيم هو هذا العميد الذي تولي منصب وكيل الجامعة منذ عام 1929، وكان مدير الجامعة في هذه الفترة هو الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل، وقد تحقق للجامعة المصرية خير أجواء البحث والعلم والإبداع والمشاركة الاجتماعية في ظل هذين الرجلين بعقليهما الراجحين، وحكمتهما السديدة، وخبرتهما الطويلة ونفوذهما الواسع وعملهما الدؤوب وتعاونهما المثمر.

وكثيرا ما كان لطفي باشا السيد بحكم انتمائه للحزبية وعمله السياسي يبتعد عن الجامعة بعض الشيء للاشتراك في الوزارة أو العمل السياسي، وكان علي باشا إبراهيم حينئذ يتولى أمر الجامعة بأكمله في حزم واقتدار.

مشروع القرش :

وفي أثناء الفترة التي تولي فيها علي باشا إبراهيم عمادة الطب ووكالة الجامعة، شارك الرجل بنفسه وبمنصبه مشاركة فعالة في جميع الأنشطة الوطنية في شتي المجالات الاجتماعية والاقتصادية والشبابية، ففي أواخر (1931) بدأت مجموعة من الشباب الوطنيين «مشروع القرش» وذهبوا يستعينون بعلية القوم فلم يجدوا من هو  أحن من صدر علي إبراهيم، الذي احتضهم، وشجعهم أيما تشجيع، وفي العام التالي تأسست جمعية القرش تحت رئاسة علي إبراهيم، وفي العام الثالث (1933) حمل علي باشا عبء الإشراف علي مؤسسات الجمعية التي اتسع نشاطها، واستطاعت أن تقيم مصنعي القرش للطرابيش وغزل الصوف. ولم يكن الحجم الحقيقي لنشأة الجمعية يكمن في إقامة هذه المصانع فحسب، ولكنه كان يعبر تعبيرا صادقا عن رغبة الشعب المصري في أن تكون له صناعاته الوطنية، وأن يدعم بالاستقلال الاقتصادي سعيه إلى الاستقلال السياسي. وليس من شك في أن علي إبراهيم بتكوينه وأعماله وشخصيته وسلوكه كان أول المؤمنين بمثل هذا المفهوم، ومن ثم تلاقت رغبات الشباب في نفوس طلاب الجامعة، بالروح المتوثبة في نفسية علي باشا إبراهيم الذي لم يبخل علي مشروع القرش بأي شيء، حتى أنه خصص طابقا من عيادته ليكون مقرا لجمعية القرش، إلى أن تمكنت الجمعية من تدبير مقرها الدائم.

وأنا شيخ الشحاذين :

وفيما كانت الجمعية في أول عهدها بالنشاط، ذهب بعض الشباب إلى علي باشا إبراهيم متبرمين، وقد استنكفوا أن يمروا بالطوابع علي الناس ليجمعوا القرش، كأنهم من الشحاذين، وهنا لم  يجد الدكتور علي باشا إبراهيم حرجا في أن يبين لأبنائه طبيعة العمل الاجتماعي  وما يتطلبه من تحمل لنظرة الجمهور ، ثم ختم حديثه إليهم بقوله: «.. وأنا شيخ الشحاذين»! فانصرف الشباب من عنده وهم أكثر ما يكونون حماسة لمشروعاتهم.

في الخدمة الاجتماعية :

ولم يكن مشروع القرش في واقع الأمر إلا حلقة من الحلقات في سلسلة الجهود الاجتماعية التي بذلها علي إبراهيم في كثير من الجمعيات والهيئات. وقد كانت جهوده في المجال الاجتماعي تغطي مجالين: الأول هو المجال الاجتماعي المتصل بالطب كأنشطته في الجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية ذكري لورد كتشنر، وجمعية الهلال الأحمر، وجمعية الإسعاف، وجمعية المواساة الإسلامية بالإسكندرية. والمجال الثاني هو المجال الاجتماعي العام، وقد تقدم الدكتور علي باشا إبراهيم للخدمة الاجتماعية العامة معتمدا على معارفه التي امتزجت علي حد تعبير الدكتور محمد زكي عبد المتعال فتولدت عنده المقدرة، (ولابد من اصطحاب المقدرة في الطموح للمثل العليا، لا كمجرد ظاهرة عاطفية بل باعتبارها حقيقة واقعة. فاستمد المقدرة والطموح من مواهبه، باذلا من نفسه، منكرا ذاته، مضحيا في سبيل الجماعة حتى أصبح سائر وقته مؤديا عمله، مواصلا القيام بواجبه).

مشروع القري ومحو أمية أربعين ألفا :

وفي (1933) بدأ مشروع «القري» نشاطه برعاية الدكتور علي إبراهيم باشا  وتحت رئاسته، وكان من أبرز معاونيه في هذا المشروع العلامة الكبير محمد فريد وجدي، والشيخ عبد الوهاب النجار، والدكتور علي مصطفي مشرفة، والدكتور محمد مظهر سعيد.

كان هدف المشروع هو (انتشال القرية المصرية من بؤسها الحاضر)، ووضعوا برنامج المشروع علي أساس النهوض بالقرية في خمسة مجالات، الأول: نشر التعليم (بتعليم الفرد مبادئ القراءة والكتابة والحساب)، والثاني: نشر التعاليم الصحية (بالعناية بالمسكن ومياه الشرب والتغذية والنظافة وصحة الطفل والوقاية من الحشرات.. إلخ)، والثالث: التعاليم الاجتماعية (بإضفاء الناحية الجمالية علي القرية، والحد من هجرة أهل الريف إلى المدن والقضاء علي المشاحنات بين القرويين، ومكافحة العيوب الاجتماعية، وبث الاعتقاد في أهمية مصر من الناحية الزراعية وأهمية فلاحتها، وتزويد الفلاحين بمعلومات تاريخية عن مصر ومجدها القديم)، والرابع: في التعاليم الاقتصادية (بتوجيه الفلاح إلى الوسائل المثلي في تدبير الدخل، وتشجيع المصنوعات الوطنية، وترقية المصنوعات القروية والمحلية)، والخامس: في التعاليم الزراعية (بنشر روح التعاون الزراعي، وتنويع الزراعات.. إلخ). وقد اتخذ مشروع القري هذا الأسلوب العلمي لتحقيق أهدافه. فأبان عن خطته بالتفصيل في كتيب زود به جنوده في الإصلاح، وحدد الخطط التنفيذية لتحقيق أهدافه النظرية على نحو واضح ودقيق ووضع منهجا مبرمجا في سبيل محو الأمية، وحرص علي أن يجري في نهاية العام تقييما للقري التي تولي أمر إصلاحها، وأن يفاضل بينها في كل مجال من مجالات النشاط، وهكذا استطاع مشروع القري أن يخطو خطوات واسعة إلى الأمام في سبيل تحقيق هدفه، واستطاع أن يمحو في عامه الأول فقط أمية أربعين ألفا من أهل الريف.

في مجلس الإذاعة  المصرية :

وحين أنشئت الإذاعة المصرية (1934)، وأطلق عليها اسم «الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية» اختير الدكتور علي إبراهيم باشا عضوا في مجلسها الأعلى، وترأس لجنة البرامج، فوجه الإذاعة توجيها صادقا نحو الأغراض السامية وترك من بصماته ما يزال باقيا إلى اليوم، أو قل إنه ترك من البصمات خير ما في الإذاعة اليوم،  وبخاصة فيما يتعلق بالخريطة الإذاعية المنظمة للبرامج ، حيث أفسح الدكتور علي باشا إبراهيم المجال لمشاهير قراء القرآن الكريم، وجعل أكبر همه المحافظة علي تراث الموسيقي والأغاني كما خصص من الخريطة الإذاعية جزءا كبيرا للمحاضرات الثقافية والأحاديث العامة في شتي المجالات لسائر طبقات الشعب. علي أن أعظم ما استطاع علي باشا تحقيقه في هذا الشأن مساهمته بالابتعاد بالإذاعة عن معترك السياسة الحزبية، وتوجيهه لها شطر إحياء المشاعر القومية.

المجمع المصري للثقافة العلمية :

وفي سنة 1930 شارك الدكتور علي باشا إبراهيم مع صفوة من قادة الفكر والعلم والأدب في مصر في تأسيس المجمع المصري للثقافة العلمية، واختار هؤلاء علي باشا رئيسا للمجمع في الدورة الأولي، وألقي في هذه الدورة خطاب الرئاسة عن (الثقافة العلمية وأثرها في الصحة العامة). وأعيد انتخاب الدكتور علي إبراهيم باشا رئيسا للمجمع في دورته السادسة سنة 1935، وكانت كلمته في هذه المرة عن (السجاد)، وفيما بين ذلك وفيما بعد ذلك إلى أن توفاه الله ساهم عالمنا الجليل بجهد ضخم في نجاح هذا المجمع، وتوطيد أسسه مما مكن المجمع من الاستمرار في أداء رسالته حتى  عصرنا .

مجلس البحوث :

ولما أنشئ المجلس الأعلى للبحوث سنة (1936) من أساطين العلم والصناعة والاقتصاد، اختير الدكتور علي إبراهيم باشا عضوا فيه، وقد سمي هذا المجلس فيما بعد بمجلس فؤاد الأول الأهلي للبحوث، ونشأت بالتبعية له مراكز البحوث القومية.

ولاشك في أن مجلس البحوث قد أفاد بآراء جراحنا الكبير وخبراته وخلفياته العلمية والإدارية.

في رئاسة الهلال الأحمر :

وفي سنة (1936) أيضا اختير الدكتور علي إبراهيم باشا  رئيسا لجمعية الهلال الأحمر، بعد وفاة الدكتور شاهين باشا ، وهي الجمعية التي أعطاها الدكتور على إبراهيم باشا  جهده المستمر منذ إنشائها (1914) بل منذ نشأتها الأولي سنة اثنتي عشرة (1912) وفي أثناء حرب البلقان، ونهض علي باشا بجمعية الهلال الأحمر  طيلة مدة رئاسته نهوضا مذهلا إذ استطاع أن ينشئ مستشفى جراحة العظام، ذلك  المبني العربي الضخم في شارع رمسيس الذي احتل بفضله مكانة مرموقة بين المستشفيات التخصصية في العالم، بل لقد صار هذا المستشفى بفضل تشجيع علي إبراهيم معهدا عاليا لجراحة العظام والإصابات في مصر.

وفي صعيد آخر شجع علي باشا إبراهيم سيدات الطبقة الراقية علي المشاركة في أعمال جمعية الهلال الأحمر بالوقت والمال، فأتاح لهن وأتاح للجمعية بهن قدرا كبيرا من أعمال البر والإحسان حتى أدهشت سيدات الهلال الأحمر القوم بما بذلنه من جهد وتضحية وإيثار في كفاح «بعوض الجامبيا» والحمي الراجعة وإغاثة عشرات الألوف من المصابين بهذه الأوبئة التي اجتاحت بلادنا العزيزة في فترات متعاقبة.

وكان علي باشا إبراهيم يتخذ من جمعية الهلال الأحمر سبيلا إلى نشر الثقافة الطبية بين الشباب والمثقفين، وبخاصة قواعد الإسعافات الأولية، وهو المنهج الذي لا تزال الجمعية حتى يومنا هذا توجه جزءا كبيرا من جهدها إليه، وكذلك كان علي باشا إبراهيم يعني بأن تكون جمعية الهلال الأحمر مدرسة رفيعة المستوي في تخريج الممرضات الجديرات، وحين ترك علي باشا إبراهيم رئاسة الجمعية بالوفاة ، كانت أموالها قد تضاعفت في هذه السنوات العشر إلى أكثر من عشرة أضعاف.

مستشفى العجوزة :

أما مستشفى العجوزة، ذلك الصرح الضخم الذي يطل على نيل القاهرة، فقد أشرف علي باشا علي بنائه وتجهيزه حتى صار إلى تلك الصورة التي هو عليها من الشموخ والجمال والعظمة، وقد كان علي باشا إبراهيم منذ (1924) عضوا في مجلس إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية التي أنشأت هذا المستشفى.

وكان الدكتور علي إبراهيم باشا ينوي أن يتخذ لنفسه في مستشفى العجوزة جناحا خاصا يجري فيه عملياته، ذلك أنه ظل من دون مستشفى خاص به، وإن كان هو أول من سن سنة العيادات الخاصة، وكان يجري الكشف علي مرضاه في عيادته الشهيرة بالصنافيري، ويجري لهم العمليات الجراحية في المستشفى الإسرائيلي، ولكن الأجل لم يطل بعلي إبراهيم ليشهد مستشفى العجوزة أمجاده.

الاتحاد الملكي للجمعيات الطبية  :

وفي  أوائل الثلاثينيات استطاع علي باشا إبراهيم أن يجمع بين الجمعيات الطبية المتعددة التي اقتضاها نمو التخصص في مشروع الطب، والتي شجع هو نفسه علي إنشائها، ثم استطاع أن يحصل علي موافقة الملك فؤاد علي إنشاء الاتحاد الملكي للجمعيات الطبية مشمولا بالرعاية الملكية، وصدر بهذا المعني مرسوم ملكي 1933، وكان من أهم أغراض هذا الاتحاد إنشاء رابطة تضامن علمية وأدبية بين الجمعيات الطبية المصرية وتوحيد جهودها في سبيل تحقيق الصالح المشترك وتنمية روح الإخاء بين الأطباء في مهنتهم، والمحافظة علي المستوي الأدبي لهيئاتهم وسمعتهم والسهر علي مصالح المهنة..  وما إلى ذلك من الأغراض و الأهداف النقابية المعروفة ، وتولي علي إبراهيم باشا رئاسة هذا الاتحاد، والحق أن هذا الاتحاد كان الخطوة الأولي إلى إنشاء نقابة الأطباء، وقد كان للدكتور علي باشا الفضل في إنشاء النقابة أيضا.

إنشاء النقابة :

 

حتى إذا تولي علي باشا إبراهيم أمر وزارة الصحة تعهد مشروع نقابة الأطباء بالرعاية، وأضاف إليه كثيرا من التعديلات التي أوحت إليه بها خبرته الطويلة ومعرفته الصائبة لطبائع الأمور والإجراءات، وحرص كل الحرص على أن يتوخى كرامة المهنة، وكرامة صاحب المهنة، واستطاع علي إبراهيم أن يصدر قانون نقابة الأطباء محققا الأمل الذي طالما عاش في نفوس أبناء المهنة من الارتفاع بمهنتهم السامية إلى مقامها الأدبي الرفيع، فضلا عن تولي الأطباء زمام أمورهم، إذ أصبح مجلس النقابة المرجع الأولي في كل ما يتعلق بممارسة المهنة.

أول نقيب :

هذا وقد كان الدكتور علي باشا إبراهيم أيضا أول من انتخب نقيبا للأطباء، وهكذا أتيح لمجلس النقابة أن يرأسه رجل مستنير مثل علي باشا يوجهه التوجيه الحسن نحو كل ما من شأنه أن يصون كرامة المهنة والأطباء، ويهديه في انتهاج السبيل القويم نحو التقاليد النقابية الراسخة التي لم يكن للأطباء علاقة تنظيمية نقابية بها حتى ذلك الحين، والحق أن علي باشا سار بالنقابة شوطا بعيدا في توجيه السلطة التي منحها له القانون التوجيه السديد، فأصبحت هذه السلطة أمرا واقعا وواقعا قويا، كما أنها مكنت النقابة بالفعل طيلة عمرها من أن تواجه المواقف المهنية وقد ملكت في يدها زمام الأمور.

اتحاد المهن الطبية :

وحين أنشئ اتحاد المهن الطبية لأول مرة سنة 1940 في عهد وزارة علي إبراهيم تحت اسم «النقابة العليا الطبية»، انتخب علي باشا إبراهيم أول رئيس لهذا الاتحاد الذي يضم أطباء الأسنان والصيادلة والأطباء البيطريين، بالإضافة إلي الأطباء البشريين.

علي أن المجهودات النقابية التي قام بها علي إبراهيم قد سبقت توليه المناصب بزمن بعيد، ولعل أبرز جهوده في هذا المجال ما كان في السنوات  العشر الثانية من القرن العشرين حين سعي إلى إصدار القانون الخاص بتعاطي صناعة الطب في مصر، وكان هناك مشروع قانون شديد الإجحاف بالأطباء المصريين قدمه المستر «جودمان» فبذل علي إبراهيم مساعي كبيرة حتى تمكن من إقناع رشدي باشا بإيقاف صدوره فوافق له علي طلبه، ولما تولي طلعت باشا وكالة وزارة الداخلية للشئون الصحية رأي علي إبراهيم أن الفرصة سانحة لإعداد قانون جديد، وسعي لدي الرجل في ذلك، وأوعز إليه بتأليف لجنة لإصدار القانون،

في الوزارة مع حسن صبري :

وفي منتصف سنة (1940) كان هتلر قد تقدم في زحفه علي أوروبا إلى حد رهيب، وتزعزعت ثقة بريطانيا في نفسها، وكان علي ماهر باشا يتولى رئاسة وزارة ائتلافية في مصر ، ولم تكن الحكومة الإنجليزية تطمئن إلى خباياه، وكانت تظن به ميلا إلى الألمان، ووجه السفير البريطاني إنذارا إلى الملك بإبعاد علي ماهر، واجتمع أقطاب السياسة بدعوة من الملك لمناقشة الأمر، واستقر الرأي علي أن يتقدم رئيس الوزارة باستقالته، وكلف الملك حسن صبري باشا بتشكيل وزارة جديدة فشكلها في يونيو 1940)، واختير الدكتور علي إبراهيم باشا وزيرا للصحة العمومية في هذه الوزارة وفي الثاني من سبتمبر سنة أربعين (1940) أجري تعديل في تأليف الوزارة وبقي علي إبراهيم.

 ثم توفي حسن صبري باشا فجأة ، كما نعرف ، في البرلمان وهو يلقي خطاب العرش في نوفمبر (1940)،   وعهد الملك إلى حسين سري باشا برئاسة الوزارة فشكلها وبقي علي إبراهيم باشا وزيرا للصحة، وأصاب هذه الوزارة عدد من التعديلات بقي عليها علي إبراهيم في منصبه.

فلما شكل حسين سري وزارته الثانية في الحادي والثلاثين من يوليو سنة إحدى وأربعين (1941) ودخلها السعديون، وقلت نسبة المستقلين في الوزارة، ترك علي باشا إبراهيم وزارة الصحة.

وعلي الرغم من أن جراحنا الأكبر لم يقض في منصب الوزارة أكثر من ثلاثة عشر شهرا في فترة حرب حرجة، فقد كان عهده في الوزارة وعهدها به لامعا مزدهرا، ولم يكد علي إبراهيم باشا يتولى أمر وزارة الصحة العمومية، التي لم يكن لها من العمر أكثر من 4 سنوات حتى نظمها وقسمها إلى مصالح متكاملة تضم كل منها الأقسام المتجانسة في نوع عملها، فجعل من الوزارة وحدة كاملة التنسيق من غير تشعيب ولا تشتيت، ثم ألف لجانا مختلفة علي أعلي المستويات الفنية والإدارية لبحث المسائل الصحية مسألة بعد أخرى ، ولم يكن غرضه من هذه اللجان تمويت المسائل وتجميد الحلول ولكنه كان يمدها بثاقب رأيه وخبرته ويشاركها أعمالها ويستفيد أقصي استفادة من النتائج والتوصيات التي تنتهي إليها، وهكذا استطاع أن يحل المشكلات والمعضلات وينظم الأمور الروتينية بروح الجماعة والأسلوب العلمي، وقد ظلت تقارير هذه اللجان لفترة طويلة مرجعا دقيقا في الأمور التي تناولتها.

صحة الفقراء :

وكان علي باشا إبراهيم يوجه عناية خاصة إلى صحة العمال والفلاحين والطوائف الكادحة، فعمل علي وضع مشروع قانون للتأمين الصحي الإجباري للعمال ضد الأمراض، وأنشأ في وزارة الصحة مصلحة للصحة الاجتماعية جمع فيها أقسام رعاية الطفل والأمومة والأمراض الصدرية والأمراض التناسلية، ومكافحة المخدرات والمسكرات والدعاية الصحية، كما أنشأ قسما لرعاية العمال، وشكل لجنة للبحث في تنظيم العلاقة بين نشاط هذا القسم، والأنشطة المماثلة في الوزارات الأخرى، واهتم اهتماما خاصا بمسألة مياه الشرب، وتوسيع قاعدة المستفيدين منها لإيمانه العميق بأهميتها من الناحية الصحية، وعني ببحث مشكلة المياه الجوفية وآثارها علي صحة الفلاحين.

وكان لوزارة الصحة كغيرها من الوزارات والمصالح مجلس استشاري لا يباشر مهامه ولا مسئولياته، فأعاد علي باشا إبراهيم تأليفه برئاسته وكان يدعوه للانعقاد من آن لآخر ويعرض عليه السياسة العامة للوزارة وتقارير اللجان المختلفة.

الدستور المصري للأدوية :

وفي عهد الدكتور علي إبراهيم باشا صدر الدستور المصري للأدوية، وهو الدستور الذي بذلت جمعية الصيدلة بتوجيهه جهدها في إصداره تنظيما لفن العلاج، وإنهاء لحالة من الفوضى سادت تحضير الدواء في مصر بسبب رجوع الصيادلة إلى مختلف الدساتير الأجنبية المتباينة في أصولها، وقضاء علي أمر آخر لا يقل خطورة، وهو تلاعب أصحاب الصيدليات بصحة الجمهور.

وقد ساعد علي إبراهيم في إنشاء صناعة الدواء المصري خير مساعدة، ودفع بمشروع إنشاء شركة مصر للمستحضرات الطبية حتى خرج إلى حيز التنفيذ. و قد روي علي بك الكرداني أن الفضل الأكبر في هذا المجال يعود إلى الدكتور علي باشا إبراهيم ، وإلى الدكتور حافظ عفيفي باشا رئيس مجلس إدارة بنك مصر.

الإعلام الصحي :

وكان علي باشا مؤمنا بأهمية الدعاية الصحية، ولعله كان من السباقين إلى هذا الإيمان، فحشد الشباب الجامعي لبث المبادئ الصحية وكفاح العادات الخاطئة والخرافات، وأرسل أعضاء رابطة الدعاية الصحية في الأحياء الوطنية لتبصير الجماهير بما يدفع عنها غوائل الأوبئة والأمراض.

للعلوم الطبية الصغرى على نفس المستوي الذي تقوم به كلية الطب في العلوم الكبرى.

عضويته في مجمع الخالدين :

أما مجمع اللغة العربية فقد اختير الدكتور علي إبراهيم باشا لعضويته عام 1940، ضمن الأعضاء العشرة المعينين الذين رأت الحكومة أن تعين بهم المجمع على أداء وظيفته في مجال العلوم والفنون بعد أن أصدرت مرسوما بزيادة عدد أعضائه، وهم: الدكتور هيكل والشيخ مصطفي عبد الرازق والدكتور علي إبراهيم باشا والشيخ محمد مصطفي المراغي وعبد العزيز فهمي وأحمد لطفي السيد وعبدالقادر حمزة والعقاد وطه حسين وأحمد أمين. وكان علي باشا إبراهيم أول الأطباء والعلماء الذين دخلوا المجمع وسرعان ما قرر مجلس المجمع ضم الدكتور علي إبراهيم باشا إلى لجنة المعجم ، وإسناد مسئولية لجنة الطب إليه.

المصطلحات الطبية وتعريب الطب :

ما أن انتهي علي باشا إلى كرسيه في المجمع حتى بدأ يسعي سعيا دؤوبا في النهوض بتعريب المصطلحات الطبية، وكان يهدف إلى توثيق التعاون بين المجمع والجمعية الطبية في هذا الصدد، واقترح تشكيل لجنة مشتركة تتولي أمر المصطلحات، كما اقترح على المجمع أسماء الأطباء الذين توسم الخير في الاستعانة بهم علي أعمال هذه اللجنة، فقرر المجمع اختيار هؤلاء أعضاء في لجنة الطب.

وتقدم علي إبراهيم إلى مجلس المجمع بمذكرة شاملة في موضوع تعريب المصطلحات وتوحيدها، فأقرها المجمع. وداوم علي باشا علي موافاة المجمع بما انتهت إليه الهيئات الطبية المختلفة من مصطلحات عربتها، وتوصيات اتخذتها وقواعد استنتها وبخاصة تلك القرارات التي صدرت عن المؤتمر الطبي العربي الذي عقد في بغداد عام (1938).

ولم تقف جهود جراحنا الكبير في مجمع اللغة العربية على لجنة الطب ولكن تعداها إلى الإفادة بخبرته وعلمه في اللجان الأخرى المتصلة بثقافته.

مدير الجامعة :

لم يكد علي باشا يستريح بعد خروجه من الوزارة في آخر يوليو عام (1941) حتى اختير في الرابع عشر من سبتمبر مديرا للجامعة، ولم يكن علي باشا غريبا علي الجامعة ولا كانت إدارتها غريبة عليه، فقد قضي الرجل أحد عشر عاما من عمره فيها يجمع بين وكالتها وعمادة الطب وعضوية مجلسها ومجلس إدارتها، وكان علي إبراهيم ـ كما أسلفنا القول ـ يضطلع بأعباء إدارة الجامعة في أحيان كثيرة، ولم تكن منزلته عند الجامعيين بمنزلة عميد فحسب، ولكنه كان عندهم بمثابة المعلم الثاني بعد أحمد لطفي السيد باشا ، ولم يكن هناك من يملأ الفراغ الذي تركه لطفي باشا إلا علي إبراهيم، وهكذا كان تقليد علي إبراهيم مقاليد الجامعة من قبل الحكومة وضعا جامعيا صحيحا، واستطاع الدكتور علي باشا إبراهيم ،  على نحو ما قال أستاذنا الدكتور السنهوري ،  أن يواصل السير في الطريق الذي رسمه سلفه الكبير، فقاد الجامعة وساس أمورها في حكمة عالية وكفاية ممتازة، وقد آنس فيه أعضاء مجلس الجامعة سرعة البديهة وصفاء الذهن ولباقة التصرف، وكان له أسلوب في الاقتراب من المسائل المعقدة يجعلك تظن أن ما يعالجه منها هو أيسر الأمور وأهونها خطبا وأكثرها بداهة. ولم يكن يكثر من القول ولا يحب الأناقة فيه، ولكن القليل الذي يقوله في غير ما كلفة ولا تصنع، لا يلبث أن يفاجئك ببداهته وبساطته وسلامة منطقه، ثم لا يلبث أن يصيب موضع الإقناع من نفسك، ثم لا يلبث أن يتكشف فإذا به عصارة التفكير في هذا الأمر وثمرة التجارب.

وقد استطاع علي باشا إبراهيم أن ينأى بالجامعة عن السياسة والصراعات الحزبية طيلة السنوات الخمس التي تولي فيها أمورها، وقد كانت فترة من أحرج فترات تاريخنا الحديث، ولكن حكمة علي إبراهيم باشا مكنته من أن يجتاز بطلابه وجامعته هذه الأزمات في سهولة ويسر.

علي أن الجامعة قد تطورت في عهد علي إبراهيم إلى طورها الثاني، ذلك الطور الذي تتكاثر فيه الكائنات الحية وتبث آثارها في الكون من حولها ، وقد ترك أحمد لطفي السيد باشا مؤسسة الجامعة وقد وقفت المؤسسة الناشئة علي قدميها ثابتة راسخة في وجه التيارات. وجاء علي إبراهيم لينشئ من خلال الجامعة الأولي جامعتنا الثانية في الإسكندرية، ولم يكن هناك من يتصد لمثل هذا العمل غير علي إبراهيم الذي لم يكن يؤمن بالاحتكارات العلمية ولا بالتفرد في مجال، وحسبك أن هذا ليس إلا صورة من نفسيته التي كانت تبحث في كل زميل له وتلميذ عن الصفة العظيمة فلا يزال يشيد بذكرها فيه من دون أن يحسب حسابا لما اصطلح الناس على تسميته بتنافس أبناء المهنة الواحدة. ومن الثابت أن علي إبراهيم لم يكن هو الذي وقع قرار إنشاء جامعة الإسكندرية، ولكن علي إبراهيم مدير جامعة القاهرة كان صاحب الفضل الأوفى علي هذه الجامعة، ذلك أنه لم يبخل عليها بأستاذ ولا بمعونة ، ولم يقف في سبيل نموها مرة واحدة، ولو كان هذا النمو علي حساب الجامعة الأم، ولم يكن علي إبراهيم في هذا إلا رجلا جامعيا حقا يؤمن أشد الإيمان بضرورة انبعاث روح العرفان الجامعي إلى كل أرجاء الوطن، ولم يكن علي إبراهيم في هذا إلا الطبيب الذي يدرك كم تبذل الأم من حياتها لتري في وليدها الحياة التي تتمناها، ولم يكن علي إبراهيم في هذا إلا ملبيا لنزعة نفسية طالما ألحت عليه بأن يري في مسقط رأسه الإسكندرية كلية طب، وهي نفس النزعة التي كان يتوق إلى تحقيقها بإنشاء كلية طب ثالثة في أسيوط التي بزغ فيها نجمه وتحقق مجده.

المدير الأب :

وكان الدكتور علي باشا إبراهيم في أداء وظيفة مدير الجامعة كما كان من قبل وهو عميد للطب وأستاذ  فيها حريصا على أن يكون صاحب رابطة وثيقة الصلة بأبنائه من الطلاب ، يشاركهم آلامهم ويتعهد آمالهم،  وكان الطلاب يقدرون عطفه ولا يجدون في نفوسهم تجاهه إلا الألفة والمحبة.

كان الدكتور علي باشا إبراهيم حريصا على أن يرعي أبناءه الطلبة فينشئهم التنشئة الصالحة ويحنو عليهم ويرشدهم في شدائدهم ويقسو عليهم حين يضلون الطريق، وهم في الحالتين متقبلون للمعاملة التي يعاملهم بها لأنهم لا يعهدون فيه إلا روح الأبوة الصافية والأستاذية الحانية.

وقد كان الدكتور علي باشا إبراهيم حريصا  فيما بينه و بين نفسه ـ عن حب للعلم لا عن حب للسلطة ـ علي أن يبقي في منصبه بالجامعة إلى آخر أيامه، وقد كان ما أراد فتوفي وهو مدير للجامعة.

التكريم

حظي الدكتور علي باشا إبراهيم بكثير من التكريم في حياته وبعد مماته على الصعيدين المحلي والدولي. وقد أقيم له سنة ثلاثين (1930) حفل كبير ، وألقيت في هذا الحفل قصائد شوقي ومطران وكلمات الأدباء والزعماء. وعندما بلغ جراحنا الكبير الستين من عمره، وهو وزير الصحة دعت الجمعية الطبية المصرية إلى الاحتفال بهذه المناسبة في يوم الخميس العاشر من أكتوبر (1940)، ودعت الجمعية كبار الأطباء في مصر والشرق الأدنى إلى كتابة عدد من المقالات والأبحاث الطبية الطريفة خصيصا لعدد تذكاري من المجلة الطبية المصرية صدر في أكتوبر عام (1940) مصدرا بصورة الدكتور علي باشا وتاريخ حياته العلمية والعملية وسلسلة أبحاثه. أما وصف العيد وحفلاته، وما ألقي فيه من خطب وقصائد فقد نشر في العدد الثاني من المجلة في ديسمبر عام (1940). وجمعت الاشتراكات بإنشاء جائزة باسم الدكتور علي إبراهيم باشا تنفق علي الطالب المتفوق في السنة الإعدادية، واكتتبت الكلية في شراء تمثال نصفي لعلي باشا من نحت  الفنان محمود مختار.

وأقيم في يوم اليوبيل حفلان: حفل علمي في الصباح في كلية الطب ألقيت فيه نخبة من البحوث العلمية، وأعلنت فيه قرارات التكريم. وحفل عام في المساء في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، وفيه سلم أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي لعلي باشا إبراهيم نيشان المعارف من الطبقة الأولي، ثم أحيت المطربة أسمهان ، وفرقتها الموسيقية سهرة ذلك اليوم.

تفرغ للعلم :

ولم ينصرف علي إبراهيم عن دراسة الطب إلى أي أمر آخر، لا إلى هواية من هوايات الفتوة ولا إلى نزق من نزق الشباب، ولا إلى الراحة بعد تعب الدراسة اليومي، لكنه كان يزامل أساتذته، ويتلقى علي أيديهم ما لا يتلقاه غيره، وهكذا فطن الدكتور على إبراهيم باشا  إلى دقائق الأمور وأسرار العلوم، وتمرس بالبحث وهو لا يزال طالبا، ومن ثم بدأ يحس أنه تساوي مع الأساتذة وهو لا يزال في دور طلب العلم .

ولم يكن غريبا أن يعين علي إبراهيم مساعدا لأستاذه سيمرس وهو لا يزال بعد طالبا في السنة النهائية، فلم يكن هذا التعيين إلا قرارا رسميا بواقع عملي لا يقبل المراء لأنه في مجال العلم.

ولعل زهد العالم يتضح لنا أنصع ما يكون عندما نري الدكتور علي باشا إبراهيم يترك المجد والصيت والدخل في أسيوط ويعود إلى القاهرة ليشغل وظيفة مساعد كبير الجراحين في قصر العيني. وهذه النقطة بالذات قد تحتاج إلى قدر من التوضيح، فلم يكن سلك التدريس في المدارس العليا في ذلك الوقت يلقي ما يلقاه اليوم من التقدير والإقبال، ولكنه كان في مرتبة تلي مراتب وظائف الإدارة في الحكومة بدرجات عديدة.

طموح وحرية :

ولعل بعضا من طموح علي إبراهيم يتضح عندما نجده حريصا في كل مرحلة من هذه المراحل علي أن تكون له عيادته الخاصة وعمله الخاص، ولم يكن هذا حال الأطباء المصريين في ذلك العهد. إنما كان حال الأطباء الأجانب الذين كانوا يحتلون المنزلة الأولي بين أطباء مصر، وجاء علي إبراهيم ليفتح العيادة الخاصة وليسن سنة المستشفيات الخصوصية.

ولاء :

ولم يكن علي إبراهيم حريصا على عمله ولا على حياته قدر حرصه علي إيمانه وولائه، ولعل هذا هو ما دفعه إلى التطوع في حرب البلقان في جيوش الدولة العثمانية علي النحو ما أسلفنا.

أنشأ الطب المصري الحديث :

ثم انفسح المجال أمام جراحنا الكبير لتحقيق آماله في طب وطني، ومازال الرجل العظيم يجاهد جهادا بعد جهاد ويحقق إنجازا بعد إنجاز، ويجتاز عقبة بعد عقبة، ويمشي خطوة بعد خطوة حتى استطاع أن يشيد هذا الصرح الضخم من الطب المصري، مجلة ثم جمعية، ثم مستشفى جامعيا مصريا علي أعلي المستويات، ثم كلية طب مصرية الصميم والجوهر والأركان، ثم اتحادا ملكيا للجمعيات الطبية، ثم دارا للحكمة، ووزارة صحة، ونقابة أطباء، ثم نقابات وكليات طب خارج القاهرة. ولم يكن علي باشا في تحقيق هذه الإنجازات يتعجل النجاح لكنه كان رجلا عمليا بكل ما تعني هذه الصفة من المعاني، ولعل في هذا سرا من أسرار ذلك البناء الراسخ.

وقد نجح الدكتور علي باشا إبراهيم في تنمية الثقة في الطبيب المصري وفي الطب المصري حتى صارت هذه الثقة إلى هذه الدرجة الرفيعة التي بلغتها علي يديه، وإذا أردنا أن ندرك مدي النجاح الذي أحرزه علي إبراهيم في هذا الشأن، فما علينا إلا أن نعود بالذاكرة لنتأمل حال الطب المصري قبل علي إبراهيم علي النحو الذي سيأتي ذكره، أو نتأمل ـ من غير عودة ـ حال المهن الأخرى التي لم يتح لها نظير للدكتور علي باشا إبراهيم قادر على أن  يبث الثقة في ممتهنيها من المصريين، أو فلنقرأ عبارات بهي الدين بركات باشا حين يقول في الاحتفال بيوبيل علي إبراهيم: «عرفت علي إبراهيم، عقب أن غادر أسيوط وجاء إلى القاهرة مساعدا لأستاذ الجراحة في قصر العيني بعد أن كان له اسم عريض ملأ كل نواحي الوجه القبلي حتى نعت بعلي إبراهيم الأسيوطي».

الكم والكيف :

وبالإضافة إلى الدرجة الرفيعة التي تميز بها الدكتور علي باشا إبراهيم في جراحاته فقد كان كثير العمل، ويكفي أن نذكر أنه فيما بين عامي 1909 ـ 1945 قام رحمة الله عليه بإجراء حوالى خمس وثلاثين ألف عملية خصوصية، وبلغ عدد عملياته الخاصة في يوم واحد في المستشفى الإسرائيلي ثلاث عشرة عملية، وفي الفترة التي قضاها في أسيوط (1904 ـ 1909) أجري أكثر من مائتي عملية في حالات الاستسقاء.

وقد عاش الدكتور علي باشا إبراهيم ـ كما يقول الدكتور علي توفيق شوشة ـ عف اليد والضمير، مذكورا مشكورا بكل لسان، حسن الصحبة، مأمون السريرة، يكره عداوة الرجال، لكنه كان يكره الفرار إذا أكره علي النضال.

اهتماماته الفنية

علي أن هذا الرجل الجاد العملي ذا الوقت المزدحم كان مهتما أشد الاهتمام بفنوننا الجميلة. وكان ذواقة للغناء والموسيقي، محبا للأصوات العذبة الجميلة، وكان إلى هذا مفتونا بجمع التحف الإسلامية إلى الحد الذي يعبر عنه الشيخ عبد العزيز البشري بعباراته الظريفة التي يقول فيها: «سلطت عليه شهوة اقتناء (السجاجيد) وألوان الطرف وإحراز ما أبدعت يد كل فنان وكل ما افتتن فيه كل صنع حسان، ومن كل ما رثت فيه العصور، ونصل عليه لون الزمان، من دمي وتماثيل، وتصاوير، ونمارق و وسائد ومعاضد وقلائد، وخشب منجورة، وأحجار محفورة، ومزاليج أبواب، وسروج دواب ، وشرفات دور، وشواهد قبور، وضباب مصبرة ، وجرار مكسرة.. إلخ».

ولم يكن علي باشا إبراهيم يجمع هذه التحف حرصا علي جمالها فحسب، وإنما كان يجمعها ليكون منها مجموعات أثرية تدل دلالة كاملة علي طبيعة الفن الإسلامي وتطوره والمؤثرات التي أثرت فيه، وقد بذل جراحنا الكبير من وقته وماله وجهده الكثير حتى استطاع أن يجمع مجموعة لم تتوافر لغيره، بل لم تتوافر لكثير من المتاحف العالمية، وكثيرا ما كان جراحنا الكبير يتلقى عروضا شخصية من المتاحف العالمية لشراء مجموعته، ولكنه لم يستجب أبدا لأي من هذه العروض، وكان يوصي أولاده ألا يفرطوا في شيء من هذه المجموعة وأن يحتفظوا بها لمصر، وقد رأت أسرته أن تهدي هذه المجموعة إلى متحف الفن الإسلامي بالقاهرة، وشكل متحف الفن لجنة من الخبراء انتقت من مجموعة علي باشا إبراهيم ثمان وسبعين وثلاثمائة (378) قطعة خزف هي كل مجموعة علي إبراهيم الخزفية، وسبعا وعشرين ومائة (127) سجادة، واثنتين وأربعين (42) لوحة بلاط قيشاني، وستا وعشرين (26) قطعة خزف تركي، وستا وثلاثين (36) قطعة نحاس، ومن مارس سنة سبع وأربعين (1947) وحتى اليوم تقف هذه المجموعة الرائعة في متحف الفن الإسلامي شاهدا حيا علي مبلغ العلم والفن الذي بلغهما علي إبراهيم في هوايته الفنية.

وكما كان علي إبراهيم في طليعة المصريين المحبين للفنون الجميلة، فإنه كان في طليعة المؤسسين لجمعية محبي الفنون الجميلة سنة 1923 ومن أنشط القائمين علي أمرها وتوجيه نشاطها.

لحن الغروب :

هذا وقد ابتدأت صحة علي باشا إبراهيم في الاعتلال في أوائل سنة ست وأربعين (1946)، وتوفي يوم الثلاثاء ٢٨ يناير سنة 1947

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها


إعلان