الدوحة ترتدي مِعطَف الشتاء بينما أتوّعُك.
الطقس فاتِر و خَدِر تشعر به علي خَدِك رقيقاً كإيماءة حُب، الشارع يبدو وكأنه بكى طيلة الليل، أقِف في الهواء الطَلق بروح عارية مثل خيل ركضت منذ الأزَل فوق مَرج أخضر وانتهي بها الحال حيث لا وِجهَة، صوتي يخرج من مكان غائر وجريح، في تلك الأثناء يحضرني قول صديقي القديم -دوستويفسكي- أن “لابد لكل انسان مِن أن يجد ولو مكاناً يذهب إليه، لأن الانسان تمرّ به لحظات، لا مناص له فيها من الذهاب الي مكان ما، إلي أي مكان” آه يا دوستويفسكي كم أعرف جيّداً تلك الأيام التي يكون فيها المرء وحيداً تماماً بكل ما تحمل الكلمة من وَحشَة بينما يتمنى بصمت لو أن له وجهة واحدة يمضي اليها، لو أن له شخصاً واحداً يركض تجاهه.
ألتقط قلمي برشاقة مُعتاده كي أُكمِل ما شرعت في كتابته، يبدأ القلم في مشيته المتعجرفه بينما أتساءل: ما الذي يدفع انساناً ما لإنهاء حياته فجأة؟ وبينما أستغرق في التفكير اذ برياح شديدة تلفح وجهي ويتسرب البرد إلى أطراف جسدي وأرتجف مصحوباً برغبة مُلحّه لقول إنني “أشعر بالبرد”.
حسناً لنبدأ. قد يقول شخص ما: أشعر بالبرد وقد لا يقول شخص آخر أي شيء ولكننا نراه يرتجف وسنعرف حينها أنه يشعر بالبرد. ولكن ماذا عن الشخص الذي لا يقول شيئاً ولا يرتجف؟ ماذا عنه إذ تبدو كل معرفة به مستعصية؟ وكل ما يتعلق به غامض؟ إن كان صحيحاً أن بإمكاننا دوماً التعرف على -أي إنسان ولو إلى درجة بسيطة- فستكون المعرفة محدودة، ستكون معرفة لا تتجاوز ملامح الوجه بالقدر الذي يسمح به الشخص المعني بها ولا يسع المرء فعل شيء إزاء ذلك سوي المراقبة. إن حكمنا على الآخرين لن يتعدى ناتج التجربة وهذا يضعنا أمام جدلية مهمة ألا وهي: هل نحن بحاجة لنتعلم كيف نبصر الأشخاص حولنا، أم يكفي كيف نشعر تجاههم؟
من أكثر الأسئلة التي تضعني في حيرة
هل شعر بالضجر؟ هل اتخذ موقفا من الوجود؟
هل هي جرعة صمت زائده، أمّ أن الخيبات توالت عليه حتى أنهكته؟
هل هو الحظ العاثر الذي أفقده الشهيّة في الحياة فقرر الرحيل سريعاً؟
بإمكاننا إنقاذ إنسان لا يُريد أن يهلَك “ينتحر” لكن إذا أدركنا أن طبيعة انسان ما قد بَلَغَت حدّاً من اليأس والاكتئاب خُيَّل إليه معها أن راحته وخلاصَه في انتحاره حتى وان عَبَر عن ذلك مزاحاً. فما العمل؟
أولاً: حين تسأل شخص ما عن حاله اسأل وأنت مُهتم لمعرفة الإجابة الكاملة لا تسأل بُغية المجاملة فلا أحد يعيش حياته كما لو كانت نُزهة. العلاقات دَرب لم يَنجُ من وعثائه انسان. كُن أنتَ الليّن في القول، الطيّب في الفِعل، النظرة التي تواسي والقلب الذي يضم. افعل الأشياء الجيدة التي تستطيعها، وشَجِّع على تلك التي ليست في يدك.
ثانياً: لا تخبر شخصا تراه بعد فترة ويبدو متغيرا أو بدينا أو متقدما في السن بذلك، إنه يعرف كل ما حدث معه من تغيّرات، ويقاوم هذه الرهبة من كلمات وألسنة الآخرين، ويتوقع ألا يُجرح.
ثالثاً: لا تسأل أحداً عن عمره ولا وظيفته ولا دخله الشهري ولا حالته الاجتماعية ولا إيمانه وأفكاره مالم يخبرك بذلك بنفسه. لا تحكم على شخص أخبرك أنه مريض نفسي أو حزين أو يعاني أو متعب بأنه يمثّل أو يدّعي، أعط الجميع فرصتهم في البَوح وفرصتهم في مدى صدق هذا من عدمه ولا تُعيّر أحداً بمرضه.
رابعاً: الناس في فضاء الإنترنت يمنحون أنفسهم أهمية مبالغا فيها على الرغم من أن هذا الفضاء لا يحتمل كل هذا التضخم للذات. ومن أسوأ اللحظات التي تمر علي في مواقع التواصل حين يشارك شخص صورة شخصية له أو فيديو ويبدو فيها مبتهجاً فرحاً مشعاً واثقاً في نفسه، ثم يعلق الناس على المنشور بطريقة فَظّه بغية الانتقاص منه وسحق ثقته ومحبته لنفسه. لا أدري لماذا لا يصمت الإنسان عن قول رأيه المؤذي في الآخرين؟
خامساً: لا يُلام أحد على قَدَرِه وعدم توفيقه، نحن نسحق الشخص حين نلومُه على إخفاقه الذي ليس هو ذنبه وحده، لا يُلام لأنه استسلم لوضع ما أو شعور ومع الوقت انسحبت منه الرغبة والفضول والتطلع ووجد الحزن والاغتراب والضجر طريقه لروحه حتى استعذبه. إخفاقه الذي شارك في صنعه مجتمعه وظروفه وجغرافية التي لا يمكن أن يتجاوزها بمفرده. لا يمكننا بأية حال نعت الآخرين بالتقصير ونحن لا ندري كم من اليأس قد عاشوا.
سادساً: لا تقاطع حديث شخص مهما كان تافهاً، وعند الحديث مع شخص مصاب أو لديه عيب أو إعاقة أو شيء يحاول إخفاءه في مظهره، انظر مباشرةً لعينيه وعامله بعزّة وتسامٍ. وعندما يفعل أو يقول إنسان أمامك شيئا جيدا أثنِ عليه وأخبره بمكامن خيره ومواهبه وميزاته حتى وان بَدت لك قاصَره، يدين الناس للذين أشاروا إلى نجومهم بالفضل كله وهذا بدوره يعزز ثقتهم بأنفسهم ويحول دون شعورهم بالعدمية.
سابعاً: إذا أزعجك شخص مهما كان قربه وقرب الآخرين حوله تحدث معه على انفراد، لا تجعل سوء الفهم يتحول إلى عقدة ولا إلى كرنفال ولا تطيل الصمت. وإذا أحببت شخصاً واشتقت اليه أخبره بذلك ببساطة وتواصل معه فالحياة لا تنتظر، والكريم الذي يبادر وليس الذي يتظاهر بأنه خشبة. كُن حذراً أن ترسل أحدًا إلى حزن عميق بسببك وبشكل مُتعَمّد، كُن أنت الشخص الذي يختلق، ألف طريقة كي يطيّب الخاطر ويعتذر ولو لم يخطئ تمامًا.
ثامناً: ربت على كتف حزين وامسح علي قلب مكلوم من دون أن تسأل عن مبرراته. لا ينبغي لأحد أن يُشرّح الحزن، إنه ليس مادة ولا يمكن ادخاله للمختبر. الحزن موجود في أصل الأشياء الموعودة بالفناء، أتصور أنه الشعور الحقيقي الوحيد وبقية المشاعر خرجت منه وتفرعت عنه، في محاولة للسيطرة عليه أو التفاوض معه. ما ينبغي هو أن نتقصّد تلك الطرق التي تجعله جميلاً أو مسليًا أو مفيدًا أو منسياً. قُم أنت بهذا الدور تجاه الآخرين ما استطعت إلى ذلك سبيلا ربما هذا ما يحتاجه إنسان قد يأس ليعيد التفكير في ماهية حياته ويعزف عن الانتحار.
تاسعاً: لا تدع نفسك تذبل. طول أمد الوحدة قد يضعف النفس ويمرضها، فيعتقد الشخص أنه محصّن لأنه يعرف، لكن الوحدة شيئا فشيئا تصنع منه مخلوقا معطوباً ومضطرباً، تتبدى له نقائصه كلما أراد العودة إلى الناس من جديد وهذا أمر بالغ الخطورة. الإنسان الذي يتوحش يصير صعباً اعادة استئناسه حتى عليه هو نفسه، من الأفضل أن تصادق شيئا أو أحداً، حتى لو كانت مجرد قطة أو شخص افتراضي.
استوقفني حال الجدار وأنا أقرأ “فوجدا فيها جداراً يريدُ أن ينقضّ فأقامه” أَلَم يخلب لبّكم يوماً هذا الوصف؟ ورحتم تفكرون في إرادة الأشياء من حولكم؟ ما الذي خطر ببال ذلك الجدار لحظتها كي يريد بعد هذا الوقت أن ينقضّ وفي بعض القراءات “ينقاض”؟ أتَعِب؟ أتهالك؟ أيرسل تلميحاً؟ أينهار فحسب كما ينهار محارب فعل كل ما بوسعه؟ أندرك كَم حولنا من جدران مسكونة باليأس والوَحشة وكم حزينة هي؟ أتريد أن تنقضّ؟ أم نريدها نحن أن تفعل؟ ما الإرادة؟ أهي عملية طويلة أم قرار لحظة؟ أهي من الداخل أم من الخارج؟ إنه نص قرآني بديع، ويا لها من فكرة! بما إن السؤال يبحث عن فكرة والفكرة تحرضني لأسأل: هل شعرت يوماً ما أن عليك مغادرة المكانٍ وحسب، من دون قول إنك تتألم للحد الذي يمنعك من إضافة أي حديث أو ترك أَثر، فقط تترك المكان بأكمله وتمضي صامتاً، تمضي كحريق فاتن؟ أنا شعرت.
المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها