المشير الحائر بين الجيش والسياسة

ليس من الممكن لمن يكتب تاريخ المشير عبد الحكيم عامر، ولا لمن يقرأ هذا التاريخ أن يتجاوز الحديث المتعمق عن ثنائية الجيش والسياسة، وبصراحة شديدة فإن هذه الثنائية هي جوهر المرض كما أنها هي جوهر العرض. وفي معرض الحديث العلمي المتفحص عن تطور تاريخنا المعاصر فإن هذه الثنائىة تبدو أكبر معوق للتنمية والاقتصاد، كما أنها أكبر معوق للتقدم والاستقرار.

و الحقيقة التي لم ينتبه إليها الباحثون هي أن إشكالية الجيش والسياسة لم تبدأ في الظهور الصريح على سطح  السياسة المصرية  إلا بعد الوحدة السورية، ولهذا فإني آثرت أن يكون الحديث الخاص بالوحدة سابقًا على هذا الحديث عن الثنائية ، على الرغم من أن الترتيب المنطقي ربما يقضي في الظاهر بغير هذا. و على وجه العموم فإننا في تدريس الطب لا نرى عيبًا في أن يأتي الكلام عن العام بعد الخاص، بل ربما نراه على أنه المذهب الأصوب وبخاصة  إذا كان  ما هو خاص قد صبغ  ما هو عام بصبغته.

في حقيقة الأمر ، و رغم مضي الزمان أيضا ، فإن هناك حقيقة لا يمكن لأي ناصري ولا لأي عامريّ أن ينكرها ولا أن يقلل من حجمها، وهي أن التأثير الجبار للمشير  عبد الحكيم عامر في الحياة الداخلية وفي السياسة الداخلية اليومية كان واسعًا جدًّا وفعالًا جدًّا ومؤثرًا جدًّا، وليس هناك أي تجاوز في أن نقول إن تأثيره كان يفوق تأثير الرئيس عبد الناصر بحكم تحرر عبد الحكيم من البيروقراطية والمواعيد، والتراتبية، وهي أمور كان جمال الرئيس عبد الناصر قد تلذذ بها ، وتشبع بها ، وقيدته تمامًا، أما المشير عبد الحكيم فقد كان يوافق على الفكرة ، وعلى ما يجسد الفكرة من شخص أو تصرف  ويصدر موافقته في نفس اللحظة، بينما كان الرئيس عبد الناصر في حاجة إلى أن يدخل الفكرة  في إطار المذكرة والعرض والقرار السياسي والأمر التنفيذي المنفذ للقرار السياسي.

وهكذا كان الأمر الوجيه أو الاقتراح الذكي إذا ما ذهب إلى المشير عبد الحكيم ينفذ، وإذا ما ذهب إلى الرئيس عبد الناصر يدخل إلى ماكينة الحكومة أو دولاب البيروقراطية بكل ما يعنيه هذا من مسئولية ونفوذ وبيروقراطية في الوقت ذاته.. والذين عاشوا تلك الأيام يعرفون ذلك بلا شك، لكنهم لا يجدونه مكتوبًا بوضوح، ولهذا فإنهم فاقدون للثقة فيما هو مكتوب من تاريخ عرفوا حقيقته على أرض الواقع و عاشوها بأكثر مما هو متاح على الورق، وهكذا تتأكد القاعدة التي ألخصها بقولي إن كتابة التاريخ تحتاج شيئًا من الرواية، كما أن قراءة التاريخ تقتضي شيئًا من الروية.

وإذا كان لابد من مثل صارخ أو حاسم يبين هذه الحقيقة فهو موقف المشير عبد الحكيم عامر من تسريع العمل في بناء السد العالي حين تولى رئاسة اللجنة العليا للسد العالي ، ولولا قدرة المشير عبد الحكيم على الإنجاز  وتدبير متطلباته ما تحقق ما تحقق في كثير من مراحل بناء السد العالي نفسه .

تصوير نفوذ عبد الحكيم بطريقة مكبرة

 ربما يرتاع القارئ للتاريخ وأدبياته  حين يفاجأ بأن الرئيس عبد الناصر نفسه فيما بعد انتحار المشير لم يمانع في تصوير نفوذ عبد الحكيم بطريقة مكبرة أو مضخمة، وقد كان هذا جزءا مهمًا من سياسة الرئيس الماكرة أو الذكية أو الخبيثة في معالجة آثار الفترة الماضية.

وقد استلفت عبد الصمد محمد عبد الصمد نظرنا إلى تصريح للرئيس عبد الناصر ورد ضمن خطابه في مجلس الأمة عقب وفاة المشير عبد الحكيم عامر ، حيث اعترف بقلة حيلته وعجزه عن اتخاذ القرار في وجود عبد الحكيم.

 عبر النائب عبد الصمد عن هذا المعنى في إحدى فقرات كتابه «شموع لا تضيء» فقال:

«.. وقف (يقصد عبد الناصر) في افتتاح الدورة الختامية لمجلس الأمة في 23 نوفمبر 1967 وهي الدورة الختامية، بحكم ما حدث لا بحكم الدستور الذي كان يضعه ويكتب فيه ما يريد برضائه واختياره ثم لا ينفذ هذا الذي أراده وارتضاه، وقف في هذا المجلس (وكنت أسمع من الراديو في الزنزانة) ولم يطلب أن يقف الأعضاء دقيقة حدادًا على شهداء مصر في أبشع هزيمة تاريخية كان له الفضل الأول في أن تتم على يديه ونسي هذا التقليد، ولم يطلب الرحمة لصديقه مرة حتى يوم وفاته».

«وقال مخاطبًا الأعضاء: إنتم فاكرين إني كنت أقدر أعمل كل حاجة؟ وأجاب على تساؤله بقوله: ما كنتش أقدر أعمل كل حاجة!!».

«والمعنى الواضح أنه كان لا يستطيع تحقيق بعض أمانيه أو أعماله وآرائه، وأن الذي كان يمنعه من تحقيق هذا الذي عجز عن تحقيقه هو المشير عبد الحكيم عامر ومن معه الذين تخلص منهم ـ لأنه لم يطرأ أي جديد غير تخلصه من هذا الذي كان يمنعه من تحقيق كل ما يريد. فهل كان له برنامج إصلاحي بدأ العمل به بعد أن زالت القوى التي كانت تمنعه من تنفيذه؟! وهل تغير أي شيء في أسلوب حكمه أو في تصرفاته؟!».

المناصب القيادية في الحكومة والقطاع العام

يحدثنا ما تناثر من تاريخنا المعاصر عن أن أبرز صور التسلط على الحياة السياسية المصرية باسم الانتماء العسكري أو «العامري»، كان هو التدخل في شغل المناصب القيادية في كافة مؤسسات الحكومة والقطاع العام.

وقد كان هذا التدخل واضحًا جدًّا للمراقب العادي: في وجوده ، وفي سطوته ، وفي انتشاره ، وفي تكراره، ولم يقتصر على عامل واحد من هذه العوامل الأربعة. وكان هذا للأسف الشديد مصدر تخريب لخطط التنمية وتكوين الكوادر وتوظيف الكفاءات على حد سواء.

وليس أدل على هذا من أن موظفًا بنى مستقبله على أن يصل إلى موقع الرجل الأول في تخصصه، كان يعيش حياته الوظيفية على هذا الأمل، حتى إذا أوشك هذا الأمل على التحقق بحكم الخبرة الواسعة جاء قرار فوقي بتعيين شخص عسكري في هذا الموقع نظرًا للحساسية الأمنية أو الاستراتيجية… إلخ. وكأن المواطنين المدنيين خونة لا يؤتمنون على الرئاسات البيروقراطية.

 وربما ساعد على هذا التوجه أو السلوك عامل جديد لم يكن موجودًا من قبل، وهو نشأة كثير من الوظائف الجديدة التي ابتدعتها بيروقراطية الثورة، كوظائف المحليات بمستوياتها المختلفة، وكوظائف شركات القطاع العام بعد التأميم، وكالوظائف التي نشأت تلقائيًا بعد إنشاء شركات جديدة كثيرة في ظل الحرص على سياسات التوسع في التصنيع، وهكذا كان «خلق هذه الوظائف» مبررًا لشغلها، وكان العسكريون بالطبع أولى بهذه “المغانم”  كما هو معروف.

لكن المغرمين بالفلسفة أو بالتأمل المجرد يستطيعون القول (دون مجافاة للحقيقة) بأن الحاجة إلى شغل هذه الوظائف كان هو المبرر لإيجادها أو خلقها، أي أن طبقة المماليك الجديدة كان لا بد من استيعابها في وظائف متقدمة، ومن ثم أنشئت هذه الوظائف من خلال نظم بيروقراطية، ومن خلال سياسات التوسع و التضخيم في  الإدارة البيروقراطية و المظهرية لما تم تأميمه… إلخ.

فرض «الرداء العسكري» على الحياة المدنية

وأيا ما كان التفسير الأقرب إلى الصواب من بين هذين التفسيرين، وكلاهما صواب، فقد أدى هذا إلى فرض نوع من «الرداء العسكري» على الحياة المدنية، ونظرًا لأن هؤلاء العسكريين كانوا لا يزالون في شبابهم فقد امتد هذا التأثير لفترات طويلة، وقد بقي كثير من العسكريين يشغلون مناصب مدنية احتلوها منذ عهد الرئيس عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر وبقوا فيها طيلة عهد السادات، وحتى انقضاء أكثر من عشر سنوات من عهد الرئيس مبارك.

وهكذا كان تاثير سلوك أو نمط المشير عبد الحكيم عامر في توظيف العسكريين مدمرًا. ولا جدال في أن هذا النمط أو هذا الأسلوب قد تغذى بهدوء (وفي هدوء) على جوانب «محبوبة» في عبد الحكيم عامر، وإن كانت هذه السلوكيات قد قادت الوطن إلى أزمات لا تزال منتشرة، بل إنها تعاود الظهور من آن لآخر.
كانت النتيجة الطبيعية (أو التلقائية) لهذا التدخل العامري في شغل المناصب، أن نشأت تلقائيًّا ودون انتباه سياسة خطرة هي سياسة الانزلاق إلى التدخل العسكري أو (العامري) في السياسات العامة، دون أن تكون هناك توجهات فكرية دافعة أو حاثة على هذا التدخل.

ولعل هذا هو مكمن الفرق بين وجهة نظري ووجهة نظر الأستاذ أحمد حمروش في تقييم أثر عبد الحكيم عامر.

وهنا نأتي بقدر من الإيضاح إلى ما يمكن وصفه بأنه التدخل في السياسات التنفيذية في المؤسسات الانتاجية والخدمية.

وأنا أدرك بالطبع أنه لم يكن من الصعب أن تختلط أوراق السياسة أمام المشير عبد الحكيم عامر واللاعبين في معترك السياسة والسياسات من خلال معسكره، فقد كان من اليسير جدًّا أن تنزلق أرجلهم جميعًا إلى معترك السياسة لا لشيء إلا لأن أغلب الذين أصبحوا على قمة الممارسة السياسة الداخلية في كل التخصصات والوزارات كانوا في الأصل من العسكريين، فكيف يمكن لقائد هؤلاء جميعا (وهو المشير عامر) ألا يتصرف في السياسات الداخلية كيفما شاء، وهو الذي رشّح لكل وظيفة من هذه الوظائف من يتولاها من بين من يريد مكافأتهم أو من يريد إبعادهم عن القوات المسلحة.

لا علاقة للأيدولوجيا بعسكرة الحياة المدنية

لهذا السبب أو بهذا الفهم، فإني لا أميل إلى إدخال الأيديولوجيات (ولا إقحامها من باب أولى) في قضية تنامي نفوذ المشير عبد الحكيم عامر في السياسة الداخلية، لأن المسألة في نظري قد لا تتعدى الحدود اليسيرة أو البسيطة التي ذكرتها إلا بهوامش ضئيلة جدًّا.

ومع هذا فإني أعرف أنني سأهاجم في فهمي أو طرحي هذا، وسيؤخذ قولي على أني غير مدرك لأبعاد حركيات الطبقيات، وأسبابها ومظاهرها، لكني أعرف أن تشخيص مرض غير وجود ليس مهارة بقدر ما هو افتراء.

ومع وضوح حجة هذا الرأي، الذي أنا مقتنع به تمام الاقتناع، فإني أحب للقارئ أن يطالع الرأي المخالف لي من خلال قراءة تفصيلات عديدة في هذا التنظير الأيديولوجي الذي يقدمه أحمد حمروش في كتابه «قصة ثورة 23 يوليو الجزء الثاني»، حيث يروي لنا تفسيره لما حدث بطريقته المتأثرة بفهمه الايدولوجي بالطبع وبعدم ارتياحه إلى المشير عبد الحكيم عامر ورجال المشير عبد الحكيم عامر ، ودور المشير عبد الحكيم عامر كذلك.

وسوف نلاحظ أن أحمد حمروش مهموم تمامًا بظهور دور القوات المسلحة في الحياة العامة ولكنه مع ذلك يتعمد أن يهمل تقديم البديل الطبيعي الذي كان ممكنا ومتاحًا ومجربًا من قبل أن تقوم الثورة، حين كانت مجالس المديريات والمجالس النيابية تقوم بأدوار كثيرة يمكن لها (في كثير من أمور السياسة الداخلية )أن توجه وتساعد وتقوم.

ولكننا نرى أحمد حمروش وهو ينتقد عبد الحكيم ودوره يكاد يقدم لنا هذا الدور على أنه كان شيئًا متوقعًا وعلي أنه كان نتيجة طبيعية.. وكأنه كان لا بد من هذا الدخول.

دخول السياسة إلى صفوف الجيش

ننتقل إلى الضفة الأخرى من النهر، وهي وجود السياسة في صفوف الجيش في مقابل ما ناقشناه من وجود العسكريين في دولاب السياسة، ونحن نجد الأستاذ أحمد حمروش شجاعًا في محاولة التصدي لهذه القضية، وإن كان يتناولها من وجهة نظر ماركسية  لا تناسب حجم ما يتناوله .

ولنقرأ بقدر من التمهل قبل التأمل ما يرويه حمروش وما يراه حيث يقول:

«.. كانت القيادة العسكرية ترى أن دخول السياسة إلى صفوف الجيش خطر يحسن تفاديه.. وهي حقيقة عملية طالما لا يوجد كوادر حزبية قادرة على ممارسة دور الموجهين السياسيين في الجيش وطالما لا يوجد حزب سياسي بالمعني الحقيقي الذي يتيح تفرغ جيل من الشباب المؤمن بأهدافه، يدخل إلى الكلية الحربية فيتخرج ضابطا ملتزما عسكريا وسياسيًا أيضًا».

«غيبة الحزب السياسي كانت عاملا رئيسيا في عدم تنفيذ دخول رجال القوات المسلحة والشرطة والقضاء إلى التنظيم الجماهيري».

وبأسلوب يعتمد على المفردات الماركسية بلور الأستاذ أحمد حمروش هذا التوجه «القاتل» بكل وضوح ، ودون لبس:

«وأدت التناقضات التي ظهرت بين جمال الرئيس عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر ـ رغم بقائها مغلفة بالسرية وبعيدة عن التأثير في الحياة العامة، والحديث فيها لا يكاد يتردد إلا بين عدد محدود جدًّا ـ إلى خلق تناقضات جانبية بين القوات المسلحة وبين الاتحاد الاشتراكي، رغم أن قيادته كانت من العسكريين الذين خلعوا ثيابهم العسكرية. وبقيت المشكلة الدائمة هي العلاقة بين المجموعة العسكرية الحاكمة وبين الجماهير».

«واستمر التناقض قائما بين الرغبة في استمرار القمة العسكرية تمارس سطوتها، وبين الرغبة في اكتساب تأييد الجماهير».

«كان مركز السلطة الحقيقي في الدولة في يد دائرة القيادة التي تسلل إليها العسكريون عن طريقي المشير وشمس بدران مرة أخرى، بينما ضعف موقف العسكريين الآخرين من أعضاء مجلس القيادة يوما بعد آخر حتى تلاشى تمامًا.

ثم يقول الأستاذ أحمد حمروش:

«كان دور القوات المسلحة يعاود الظهور بصورة سافرة، مثلما كانت الحال في سنوات الثورة الاولي ولكن بطريقة مختلفة، فقد كانت معالم السلطة قد تحددت».

مظاهر عسكرة الأمن  
ننتقل إلى وجود القوات المسلحة في الحياة المدنية في شقها الأمني، الذي قد يبدو قريبًا من الحياة العسكرية، بحكم اتفاق القوات المسلحة والشرطة في الرتب وفي الانضباط والمهابة والسطوة والنفوذ.

 ولعلنا نبدأ بما عُرف على أنه كان بمثابة فرض توجه ما (أو طراز ما) من سلطة «عسكرية» على جوانب الأمن الداخلي، وهو ما تجلى في ازدواج أجهزة المباحث على سبيل المثال.

فمن العموميات السابقة التي أوردناها لتونا نقرأ ما يرويه الأستاذ أحمد حمروش عن نموذج محدد لهذا التدخل وهو نموذج المباحث الجنائية العسكرية، وعن دور هذا الجهاز في الحياة العامة، وكيف اختفى هذا الدور نفسه ثم عاد.

وسواء أكان الأستاذ حمروش مبالغا أم لم يكن، فإن نموذج إدارة الصراع في أمور الأمن على هذه الطريقة يستدعي كثيرًا من الدراسة بعيدًا عن التعجب، الذي هو رد الفعل الأول تجاه هذا الذي حدث على نحو ما حدث:

«وبعدما كانت المباحث الجنائية العسكرية قد اختفت منذ إبعاد أحمد أنور عن قيادة البوليس الحربي، وتتبيع وحداته لتشكيلات الجيش المختلفة، عادت مرة ثانية إلى الظهور لتمارس دورا تأديبيًا جديدًا».

«كانت المباحث الجنائية العسكرية التي يقودها حسين عرفة قد تعرضت [بعد ابتعاد أحمد أنور شقيق زوجته] إلى حصار البوليس الحربي لها بأوامر من شمس بدران، الذي كان قد بدأ ينمي قوات الصاعقة ويعمل في نفس الوقت على تصفية المباحث الجنائية العسكرية. وكاد يحدث احتكاك مسلح بين القوتين قال فيه حسين عرفة ـ حسب روايته: نحن نخدم جمال عبد الناصر، ورد قائد البوليس الحربي: ونحن ننفذ أوامر المشير».

المباحث الجنائية العسكرية

بلور الأستاذ أحمد حمروش ما لم يبلوره غيره من أنه كان هناك صراع مبكر خفي بين حسين عرفة (الذي اختفى ذكره وضعف أثره) وبين شمس بدران (الذي تصاعد نفوذه). وهو يوحي لنا أن كفة المشير عبد الحكيم عامر كانت الراجحة على كفة عبد الناصر، وهذا أمر طبيعي في نظر الأستاذ أحمد حمروش وروايته.

كذلك فقد تناول الأستاذ أحمد حمروش ذكر نموذجين بارزين لهذا التدخل السافر من سلطة عسكرية عُرفت باسم المباحث الجنائية العسكرية.. ومن العجيب أن حمروش الذي هوى الكتابة ومارسها لا ينظر إلى اعتقال الأستاذ إحسان عبد القدوس إلا على أنه أمر مناظر لاعتقال قائد المباحث العامة في الإسكندرية، الذي لم يذكر حتى اسمه:

«صفيت المباحث القديمة فعلا. وإذا كان أحمد أنور قد أصدر أمرا باعتقال إحسان عبد القدوس رئيس تحرير روز اليوسف في عام 1954 دون إبلاغ جمال الرئيس عبد الناصر أو عبد الحكيم عامر.. فإن شمس بدران قد أصدر أوامره باعتقال قائد المباحث العامة في الإسكندرية عام 1963 لأنه تجرأ على مساءلة ضابط من ضباط القوات المسلحة دون إبلاغ جمال الرئيس عبد الناصر أو المشير عبد الحكيم عامر أيضًا».

«وكان في هذا الموقف تكرار لأسلوب قديم، يظهر فيه جموح بعض العسكريين في السلطة واستهانتهم بالتقاليد والقوانين في غمرة اندفاعهم وحرصهم على تنفيذ ما يصدر لهم من تعليمات».

دور المباحث العسكرية في قضيتي حسين توفيق و الإخوان

استطرد الأستاذ أحمد حمروش راويا ما هو أفظع بكثير من اعتقال الجيش لقائد المباحث العامة في الاسكندرية، وهو ما قامت به المباحث العسكرية بقيادة حسن خليل من تدخل في قضية حسين توفيق واعتقالات الإخوان، والتدخل في المؤسسات العامة والعمليات الاستهلاكية من قبل.. فيقول:

«وكأنما انفلت الشيطان من عقاله، فقد بدأت المباحث الجنائية العسكرية تمارس دورها القديم، بتشكيل يتألف من 30 ضابطا، 500 جندي يلبسون ثيابا مدنية ويؤدون دور المباحث العامة، ومارس ضباطها سلطة الضبطية القضائية التي سبق أن منحت لهم، يقودها أحد أتباع شمس بدران، وهو الصاغ حسن خليل، الذي تولى قيادتها بعد أزمة المشير في 15 نوفمبر 1962».

«بدأ نشاط المباحث الجنائية العسكرية في مجال الحياة العامة عقب خطبة لجمال الرئيس عبد الناصر في مجلس الأمة أعلن فيها أنه سيوجهها إلى المجمعات الاستهلاكية، وبعد ذلك توالى تدخلها في:

● قضية حسين توفيق ومحاولته اغتيال عبد الناصر.

● اعتقالات الإخوان المسلمين.

● التدخل في مؤسسات القطاع العام مثل: مؤسسة المطاحن، وجريدة الجمهورية، وشركة سينا للمنجنيز… وغيرها.

● حادث كمشيش ولجنة تصفية الإقطاع».

هكذا يفسر الأستاذ أحمد حمروش ما عرفته الجماهير عن نشاط هذه المباحث المبتدعة.

الفائدة تعود على الرئيس عبد الناصر

أظن القارئ قد أدرك الآن ما أردت أن أُلفت النظر إليه من جوهر أزمة المشير عبد الحكيم عامر نفسه مع الحياة العامة، وهي أزمة صنعتها سلطته وما ترتب عليها من سطوة أتباعه، بينما كان نظام الرئيس عبد الناصر سعيدًا بهذا الذي يضاف إلى رصيد الضبط والربط من ناحية، وإلى تنامي الكراهية للمشير  عبد الحكيم عامر وسطوة الجيش الخاضع له من ناحية أخرى.

ومن الواضح أن حديث الأستاذ حمروش المستطرد لا يكاد يبتعد كثيرًا عن التفسير الذي قدمته حتى مع الرداء الأيديولوجي والنظري الذي يصور به الحقيقة بعد أن يجعلها ترتديه، ومع هذا فإني لا أزال حريصا على أن تظل هذه الأمور في حجمها الطبيعي، وفي حجم المشير عبد الحكيم عامر الطبيعي، وفي حجم شمس بدران الحقيقي.

عسكرة البرلمان

أعود فأضرب للقارئ مثلًا على صحة وجهة نظري في طبيعة التدخل العامري في السياسة بما حدث من عسكرة البرلمان ، و ذلك من خلال نص واقعة رواها الأستاذ أحمد حمروش نفسه، وأستأذن القارئ في أن أشيد مرة أخرى بإخلاص الأستاذ أحمد حمروش للفكرة وللوقائع حتى مع اختلافي معه في التفسير، وقد كان موضوع هذه الواقعة التي يرويها الأستاذ أحمد حمروش هو مناقشة حامية في مجلس الأمة (1964)، الذي كان يرأسه أنور السادات، وقد صور الأستاذ أحمد حمروش نفسه لنا كيف تشكل هذا المجلس ونسبة الضباط بين أعضائه وبين رؤساء لجانه.

على كل الأحوال فلنقرأ رواية الأستاذ أحمد حمروش مكررين الامتنان له على إيراده وتسجيله لتفصيلات هذه الوقائع:

 «وكانت عضوية الاتحاد الاشتراكي شرطا للترشيح لمجلس الأمة… ولم يكن للاتحاد حق الاعتراض على مرشح طالما هو عضو، كما كان الحال في الاتحاد القومي. كانت أول انتخابات للاتحاد الاشتراكي قد أجريت بعد عام كامل من إعلان الميثاق.. ومجلس 1964 ترشح له في البداية 3570 مرشحا في 175 دائرة لانتخاب 350 عضوا، وهو أكبر رقم تقدم للانتخابات في تاريخ مصر ثم تعددت الانسحابات وتقدم فقط 1748 منهم 512 عاملا، 481 فلاحا، 28 سيدة».

«نجح في انتخابات المجلس 31 ضابطا.. تولى 5 منهم رئاسة لجان من لجان المجلس البالغ عددها 18. وظهرت في صفوف المجلس آراء معارضة، تمامًا كما حدث في مجلس 1957 عندما طلب الصاغ محمد أبو الفضل الجيزاوي من رئيس المجلس عبد اللطيف البغدادي تخصيص مكتب للمعارضة».

حوار علي صبري وحلمي الغندور

أما المثل الذي يتحدث عنه الأستاذ أحمد حمروش فيأتي من المناقشة التي دارت حول تدخل الجيش في الأعمال المدنية.

ونحن نفاجأ بأن رئيس الوزراء علي صبري الذي لم يكن محسوبا على جبهة المشير عبد الحكيم عامر (بأي حال من الأحوال) قد اضطر إلى الدفاع عن تدخل الجيش في الأعمال المدنية.. ولكنه فيما يبدو لم يحر جوابا عندما تصدى له أحد أعضاء المجلس المخضرمين في العمل السياسي «حلمي الغندور» موضحًا لعلي صبري (في أدب) الشطط الذي انقاد إليه في دفاعه عن تدخل الجيش.

ومع أن هذه الواقعة تثبت ما ذهبت إليه منذ فقرات من أن الأمر لم يكن أيديولوجيا بقدر ما كان نتيجة طبيعية لتسلل أفراد الجيش إلى قيادة كل المواقع تقريبا، وبالتالي فإن من حق قائدهم الذي رشحهم لهذه المواقع (كمكافأة أو كاستبعاد لهم من الجيش) أن يرأسهم فيها ويوجههم، بعدما كان هو الذي وضعهم فيها.

مع هذا الوضوح فإن الأستاذ أحمد حمروش يجد نفسه يقر بأن دفاع علي صبري لم يكن عن اقتناع، وإنما كان تبريرًا لأمر واقع لا يسهل منعه أو تحاشيه.. وكأنما لو كان الأستاذ أحمد حمروش نفسه هو الذي تولى الدفاع لكان دفاعه قد صدر عن اقتناع.

وعلى فرض أن هذا قد حدث وكان حمروش رئيسًا للوزراء مكان علي صبري (وليس ذلك على الله بعزيز) وأبدى وجهة نظره التي شرحها في كتابه فبماذا كان حمروش يرد على (الحاج) حلمي الغندور إذا ما ساله ذلك السؤال الذي وجهه (الحاج حلمي الغندور) إلى علي صبري؟

صور الأستاذ أحمد حمروش التطور التاريخي الطبيعي لمثل هذا التسلط العسكري بأسلوب يخلو من الهجوم الحاد، ولا يخلو من الحصافة التي تستغل الفصاحة ومفردات الصحافة:

«كان تدخل المباحث الجنائية العسكرية يزداد وينتشر حتى وصل إلى حد الإشراف على مرفق النقل العام سنة 1964».

«واعترض بعض أعضاء مجلس الأمة في جلسة 2 ديسمبر 1964 على تدخل الجيش في الأعمال المدنية، ولو تحت شعار إصلاح الفساد».

«وتأزمت الأمور، وألقى علي صبري رئيس الوزراء بيانا يؤيد فيه نظرية الاستعانة بالجيش في بعض الأعمال المدنية، وضرب مثلا لذلك بمشاركة الجيش في تنظيم العمل في منطقة بناء السد العالي، والإسهام في تنفيذ مشروع الوادي الجديد تحت ظروف معيشية صعبة، والقيام بأعمال البناء والتعمير في بعض المدن والقري».

«وقال (علي صبري) أيضًا إن الجيش يسهم في تصليح العربات المعطلة في مرفق النقل العام وينظم حركتها.. واختار علي صبري نموذجا [من] الجيش والبحرية الأمريكية التي تقوم بأعمال الإنشاء وخاصة في المواني».

«ولم يقتنع بعض أعضاء المجلس بذلك لأن علي صبري لم يفسر سبب استخدامه في الأعمال البوليسية أيضًا.. وقال حلمي الغندور إنه مع تقديره لحسم الجيش في إصلاح الخطأ إلا أنه لا يتصور أن يكون الملجأ الذي نلجأ إليه كلما واجهنا انحرافا ما.. وتساءل عما يمكن أن نفعله لو فسد التعليم وهل يقوم بإرسال فرقة من الجيش للتدريس».

«دفاع علي صبري عن تدخل الجيش في أعمال السلطة التنفيذية لم يكن نابعا من اقتناع بذلك، وإنما كان تبريرا لأمر واقع لا يسهل منعه أو تحاشيه».

عسكرة المؤسسات الإعلامية

نأتي إلى القضية الجذابة في هذا الميدان، وهي القضية التالية في الأهمية لقضية تدخل الجيش في الأمن الداخلي أو الأمن السياسي بمظلته الواسعة أو بمفهومه الواسع الذي يتطرق إلى المباحث والأحكام القضائىة وعمل النيابة، ونعني بهذا قضية التدخل غير المدروس في المؤسسات الإعلامية.

وقد كان هذا التدخل في الإعلام بارزًا ومؤثرًا وصلت خيوطه العليا إلى المشير عبد الحكيم عامر نفسه، ذلك أنه مع الإحساس المبكر بالدور المتعاظم للمؤسسات الاعلامية كانت كل الفعاليات التنفيذية حريصة على التحقق والاستشعار بولاء الأجهزة الإعلامية لها، ولاء يضمن لها الدعاية ويحميها من الهجوم.

وإحقاقًا للحق فلم تكن العسكرية وحدها هي التي طلبت تأمين ظهرها من ناحية الإعلام، ذلك أن الدبلوماسية (في مرحلة تالية) فعلت الشيء نفسه.. وقد وصل الأمر في عهد الرئيس السادات أن الرئيس نفسه شجع في الفترة الأولى من حكمه على أن يرتبط الإعلام كمؤسسة وكوزارة بوزارة الخارجية ـ وهكذا اختير الدكتور الزيات كوزير للإعلام قبل أن يختار وزيرًا للخارجية، كما عمل الدكتور محمد مراد غالب كوزير للإعلام بعد أن عمل كوزير للخارجية.

وكان إسماعيل فهمي على سبيل المثال كثيرًا ما يطالب بأن يكون له رأي واضح في اختيار وزير الإعلام.. بل كان يرشح من يراهم جديرين بهذا المنصب.. بل إنه في أثناء حرب اكتوبر عُهد إلى الدكتور أشرف غربال (سفيرنا بواشنطن فيما بعد)، وكان مساعدًا لمستشار الرئيس لشئون الأمن القومي (أي محمد حافظ إسماعيل) بتسيير شئون وزارة الإعلام.

من الجدير بالذكر هنا أنه في عهد الرئيس عبد الناصر لم يكن مثل هذا الفهم قد نما إلى هذا القدر المؤسسي أو إلى هذا الحد واضح المعالم، حتى فيما يتعلق بعلاقة المؤسستين العسكرية والإعلامية، ولكن كان هناك مع ذلك، اعتقاد مبكر بأهمية أن يكون للمشير عامر (على سبيل المثال) رجال أو «حصة» من الشخصيات بين الإعلاميين.

وبالطبع فإن مستوى الإعلامي المطلوب أن يكون على صلة بالمشير لا بد وأن يكون من مستوى رئيس التحرير، أو هكذا صورت العلاقة للناس في وقت من الأوقات.. بل وصل الأمر عند المغرمين بالتقسيم إلى القول بأن الأمور كانت توحي بأن الأستاذ هيكل للرئيس عبد الناصر، و الأستاذ حلمي سلام للمشير، و الأستاذ فتحي غانم لعلي صبري.

ولهذا فقد كان من المتوقع ،بالنسبة لي على الأقل أو على سبيل المثال ، أن يبذل الأستاذ حلمي سلام جهدًا ضخمًا في رسم صورة جميلة أو وردية عن المشير عبد الحكيم عامر حين أتيح له أن يكتب حلقات كتابه «أنا وثوار يوليو»، ولكن يبدو أن الأستاذ حلمي سلام لم يكن قادرًا على القيام بهذا الدور البسيط أو لم يكن راغبا فيه، على الرغم من أن المشير عبد الحكيم عامر لم يبخل عليه بمساعدة ما، في الفترة التي كان عبد الحكيم فيها صاحب النفوذ القوي والفعال في الدولة، ويكفي أنه هو الذي أتى به رئيسا لمجلس إدارة دار التحرير ولبى له ، على حد الروايات الشائعة، طلباته المادية من أجل إدارة الدار، كما نفذ له، فيما هو شائع أيضًا، طلباته في نقل ما سمي بـ«العمالة الزائدة» من الصحفيين إلى شركات القطاع العام (باتا وأخواتها).

مع هذا كله فإن الأستاذ حلمي سلام لم يكن قادرًا على أن ينصف الرجل ولو بالتحيز أو الانحياز أو اصطناع طراز عامري العظمة  يصوغه أو يؤلف أجزاءه من بعض المظاهر العامة ، فضلا عن أن يتولى تبرير الأخطاء بطريقة مقبولة .

ومن الإنصاف أن نقول أن الأستاذ حلمي سلام كان على حق في هذا، ذلك أن المشير عبد الحكيم عامر تخلى عنه في وقت الذروة دون أن يدري أنه بتخليه عن حلمي سلام يتخلى عن نفسه.

وهكذا كان المشير عبد الحكيم عامر سيئ الحظ حتى مع الصحفي الذي قدمه للرئيس عبد الناصر ورجال الثورة وكان له بمثابة فرس الرهان.

ومن المؤسف حقيقة أن عبد الحكيم لم ينل فصلا من فصول كتاب حلمي سلام «أنا وثوار يوليو» الذي نال بعض زملائه أكثر من فصل فيه، ولم يتطرق حلمي سلام في هذا الكتاب إلى أمجاد المشير عبد الحكيم عامر إلا في حديثه عن فضله في ترشيح محمد نجيب لقيادة الثورة.

و ننتقل الآن إلى تفصيل القول في أحد الأمثلة الواضحة على اندفاع عبد الحكيم في الترويج لذاته أو لسياساته أو لجماعته إعلاميًا على قدر ما كان مسموحًا به في ذلك الزمان.

ونحن نجد المشير عامر يورط نفسه في موقف حرج ، حتى بدون أن يدفعه الرئيس عبد الناصر إلى التورط ، ولكن آثاره السلبية الغائرة ما زالت مستمرة إلى اليوم.. ذلك أن هذا الموقف كان متصلًا بأهل الثقافة والفكر من العاملين في الصحافة.

ففي لحظة من اللحظات التي تتكرر كثيرًا في أي جهاز إداري أبدى الرئيس عبد الناصر ضجره أو عبر عن هذا الضجر من مشكلات دار التحرير «المؤسسة الصحفية التي تصدر جريدة الجمهورية: جريدة الثورة»، وبسلامة نية لم يجد المشير عبد الحكيم عامر حرجا في أن يقترح تعيين صديقه القديم حلمي سلام رئيسًا لمجلس إدارتها لكي يصلح المعوج ويلم الشعث… إلخ، ولم يكن أمام الرئيس عبد الناصر إلا أن يوافق.

لكن جمعية المنتفعين بالرئيس عبد الناصر وجدت في هذه الخطوة انتقاصا من حقوق سيادتها، وهكذا بدأت تنتظر الفرصة للهجوم على رجل المشير عبد الحكيم عامر.. وكان الأستاذ حلمي سلام أسرع منهم في تمكينهم من نفسه، وذلك حين بدأ مباشرة في تنفيذ سياسة الاستغناء عن عدد كبير من العاملين في المؤسسة.

ويبدو أن الرئيس عبد الناصر بحسه الذي كان يجمع باقتدار بين صفتي «المنضبط» و«التآمري» قد نبّه مساعديه إلى أن يوزعوا هؤلاء المستغنى عنهم على مؤسسات إعلامية، ولكن هؤلاء المساعدين (وقد كانوا بارعين في لعبة السلطة وخبثها) وقد كانوا أيضًا على رأس المؤسسات الإعلامية دفعوا الأمور إلى اتجاه خطر (وقاتل لعبد الحكيم ولحلمي سلام في نفس الوقت)، وهو تحويل هؤلاء الصحفيين جميعا إلى موظفين في مؤسسات القطاع العام من أمثال شركة باتا، والكاوتشوك، وبيع الأسماك… إلى آخر هذه القائمة التي أصبحت (ولا تزال) مثار التندر والتفكه والأسى في الكتابات الأدبية المعاصرة.

وفي حقيقة الأمر فإن المسئولين عن الصحافة والإعلام وهم قريبون جدًّا من الرئيس عبد الناصر في ذلك الوقت، وعلي رأسهم الدكتور محمد عبد القادر حاتم، و الأستاذ محمد حسنين هيكل لم يكلفوا أنفسهم مغبة النصح والإرشاد ولا التوجيه فضلًا عن أن ينصفوا هؤلاء الصحفيين.

ومن ألطف ما يمكن عن هذه الواقعة أن الشاعر الكبير كامل الشناوي كان يمزح مع عبد الرحمن الخميسي بأنه صار «صرماتيا» (لأنه نقل إلى باتا، وهي شركة الأحذية) بعد أن كان أديبا، وذلك على عكس الأديب الروسي الشهير.

تورط حلمي سلام والمباحث الجنائية العسكرية في جريدة الجمهورية

ظل تورط حلمي سلام في موضوع نقل الكُتاب والصحفيين إلى وظائف غير صحفية مؤذيًا له وللمشير  عبد الحكيم عامر بدرجة أقل، لكني أرى هذا الإيذاء في حق عامر أكبر منه في حق حلمي سلام، وقد نسب إليهما في تاريخنا الصحفي المعاصر هذا الحدث الأسود.

ثم تورط حلمي سلام في حدث أسود تالٍ له وهو استدعاؤه للمباحث الجنائية العسكرية لجريدة الجمهورية للتحقيق في وجود اختلاسات.

وأيا ما كانت الواقعة فإن استدعاء المباحث الجنائية العسكرية كان ولا يزال كفيلًا بأن يجعل كل الصحفيين لا يتحفظون على الأستاذ حلمي سلام فحسب وإنما يكرهونه، ولا يكرهونه وحده وإنما يكرهون معه مصدر سلطته، أي المشير عبد الحكيم عامر بالتبعية.

وها نحن ننقل للقارئ ما يذكره الأستاذ أحمد حمروش (الضابط الذي تحول إلى كاتب صحفي) عن هذه الواقعة في كتابه «قصة ثورة 23 يوليو» حيث يقول:

«… ولم يكن المشير المشير عبد الحكيم عامر غائبا عن هذه التغيرات.. كان قد فرض قبل ذلك حلمي سلام رئيسا لمجلس إدارة دار التحرير ورئيسا لتحرير جريدة الجمهورية في أغسطس 1964 ومنحه دعما ماليا قدره 350 ألف جنيه رغم تعليمات جمال الرئيس عبد الناصر بعدم دفع أي إعانات للمؤسسات الصحفية».

…… …… …… ……

 وقد توقف الأستاذ حمروش ليقدم بطريقته تعريفًا بالأستاذ حلمي سلام لأم  يذكر فيه طبيعة العلاقة التي ربطت بينه وبين المشير عبد الحكيم عامر وجعلته محلًا لثقته، ولا يذكر فيه أن حلمي سلام كان ذا شأن قبيل الثورة  حتى إنه فاز مع الأستاذ هيكل بجائزة الصحافة ، و كان ذا شأن في مطلعها ،….الخ  وكأن الأستاذ حمروش يريد أن ينفي عنه كل ذلك ليفتح الستار على مشهده وهو يرتكب حماقة نقل الصحفيين من الصحافة إلى مؤسسات الدولة بعون من المشير عامر، وهذا مثل من أمثلة التجني على المخطئ، مع أن المخطئ ليس في حاجة إلى التجني، لا هو ولا المساند له، الذي هو المشير عامر في هذه الحالة:

«وحلمي سلام كاتب قريب من أفكار الحزب الوطني الجديد، وعلي صلة وثيقة ببعض رجاله ولكنه لم يكن عضوا في طليعة الاشتراكيين… وقد بدأ حياته في المؤسسة بموقف أثار عليه الصحفيين.. إذ إنه اشترط عند تعيينه تخفيف العمال في الدار بنقل بعض الصحفيين إلى مؤسسات صحفية أخرى».

«استدعى الدكتور محمد عبد القادر حاتم وزير الإعلام محمد علي بشير العضو المنتدب للدار وضابط سابق.. وأبلغه أن حلمي سلام قد سافر إلى بورسعيد وأنه سيعود بعد شهر ليجد هذه الأسماء ـ وقدم له قائمة بمائة وخمسين اسما ـ قد نقلوا إلى مؤسسات أخرى، وصدر الأمر فعلا على أنه تعليمات من الدكتور حاتم، وهو الذي أراد أن يتم الأمر سرا، مما أثار غضبه».

«نقل الصحفيون إلى مؤسسات غير صحفية في إدارات الشئون العامة.. وكان من بينهم أسماء معروفة: عبد الرحمن الخميسي، ونعمان عاشور، وعبد الرحمن الشرقاوي، وسعد مكاوي.. وغيرهم «150صحفيا وعاملا وإداريا».

وهذا هو تلخيص الأستاذ أحمد حمروش لفتنة دخول المباحث الجنائية العسكرية إلى دار التحرير:

«ولم تمض الأمور هادئة في مؤسسة دار التحرير… وظهرت المباحث الجنائية العسكرية في ميدان الصحافة أيضًا.. استدعاها حلمي سلام في 4 يناير 1964 للتحقيق فيما قيل عن وجود اختلاسات بالمؤسسة… وهجم أفراد المباحث على بعض الموظفين في مكاتبهم واعتقلوهم للتحقيق معهم».

«ورابط أفراد المباحث الجنائية العسكرية في دار التحرير لا يغادرونها حتى وصل الأمر بجمال الرئيس عبد الناصر إلى غايته (يريد الأستاذ حمروش أن يقول إن صبره نفد)، وقرر فصل حلمي سلام بعد نشره محضرا لجلسة سرية عقدها رئيس الجمهورية في مجلس الأمة ودعا إليها عددا محدودا من قادة القوات المسلحة والمحافظين ورؤساء تحرير الصحف يوم 17 مايو 1965».

«ودخل ذلك في باب الصراع الخفي بين الرئيس والمشير».

…… …… …… ……

أذكر هنا أنني لم أنتبه إلى المردود العميق لهذه الحقيقة بالقدر الكافي إلا حينما توفي حلمي سلام فلم يحظ بطنطنة الصحافة المصرية، التي تجيد وتطنب في الحديث عن الموتى من رجال الصحافة، وبالطبع فإن الأستاذ حلمي سلام لم يدفع الثمن وحده وإنما دفعه معه المشير عبد الحكيم عامر!

دور المشير في لجنة تصفية الإقطاع
نأتي الآن إلى دور المشير عبد الحكيم عامر في رئاسة لجنة تصفية الإقطاع، وهو دور لا يزال ملتبسًا. وقد خسر فيه المشير عبد الحكيم عامر أكثر مما كسب، بل يمكن القول إنه خسر فيه على طول الخط دون تحقيق أي مكسب.

وسنورد أكثر من رواية تضيئ الحقيقة حول هذا الموضوع.

ونبدأ بأن نشير إلى أن الدكتور ثروت عكاشة كان حريصًا على أن يورد في مذكراته أنه سأل الرئيس عبد الناصر عن السر في تكليفه للمشير بمهام كثيرة في الحياة المدنية، وأن الرئيس عبد الناصر أجابه بأنه لم يفعل هذا إلا إشباعا لرغبات المشير:

«ولعل جمال الرئيس عبد الناصر قد أراد بحديثه هذا إلى فيما يبدو أن يؤكد سلامة موقفه من المشير عبد الحكيم عامر بدءا ونهاية».

«على أني لم أتمالك نفسي من أن أطرح عليه سؤالا كان لا يفتأ يراودني ويثير حيرتي، وهو لماذا كان يعهد إلى المشير بأعباء مرهقة تحول بينه وبين التفرغ للقوات المسلحة، فهو تارة يوليه منصب نائب رئيس الجمهورية في الاقليم الشمالي، وتارة أخرى يعهد إليه بالإشراف على تصفية الإقطاع أو على قطاع البترول أو السياحة أو الإصلاح الزراعي.. إلى غير ذلك، وهو ما لا يقدر عليه أحد بمفرده؟».

«فأجابني يقول: إني ما أسندت إليه هذا كله إلا إشباعًا لرغبته، غير أني للأسف لم أجد منه عناية بشئون القوات المسلحة، إذ ترك أمرها لشمس بدران يعبث بها ما شاء له العبث».

ونأتي بعد هذه البداية التي يدافع فيها ثروت عكاشة عن الرئيس عبد الناصر إلى مفارقة طريفة وكاشفة عن أن الأمر كان خبط عشواء ولم يكن أمر فكر وتفكير.

يستلفت عبد الصمد محمد عبد الصمد نظرنا في كتابه «شموع لا تضيئ» حيث يقول:

 «ومن مفارقات القدر اللطيفة أن المشير عبد الحكيم عامر كان قد ضمّن استقالته في 1962 نصًا يفيد أنه تمت تصفية الاقطاع، وبعدها بأربع سنوات عين المشير عبد الحكيم عامر نفسه رئيسا للجنة تصفية الإقطاع».

هكذا ينتبه عبد الصمد إلى هذه الحقيقة وينبهنا إليها، ثم يفسر هذا التناقض بادئًا برواية انطباعه الشخصي حيث يقول:

«وعندما شكلت هذه اللجنة وأعلن عن رئاستها واسمها تألمت كثيرًا من أجل أول وآخر تناقض معلن لعبد الحكيم عامر! فقد ذكر في خطاب استقالته قبل أربعة أعوام أنه قد تم تصفية الإقطاع ولم يعد له وجود في مصر وطالب بالحكم الطبيعي الديمقراطي؛ إذ لا يوجد أي سبب لاستمرار حكم الفرد والأحكام الاستثنائية.. فهل أمطرت السماء مساحات هائلة من الأرض وأضيفت على الرقعة الزراعية وكونت إقطاعًا جديدًا؟!».

لكن عبد الصمد محمد عبد الصمد يحاول أن يبرئ المشير عبد الحكيم عامر من دوره في لجنة تصفية الإقطاع، أو أن يضع بعض المراهم على هذا الدور المحتقن الذي لم يكن له من مبرر.. ويبدو للقارئ هنا أن عبد الصمد نفسه يفرض رأيه هو نفسه على المشير ويستنطقه به فينسب إليه بعض ما قاله فيما سنقرؤه بعد قليل، والذي نرى فيه المشير عبد الحكيم عامر بلا حول وبلا قوة، ونرى أقصى ما يطمح إليه هو أن يقرأ الناس أقواله في محاضر الاجتماعات، فيدركون عندئذ أنه كان أكثر رحمة ورأفة ومعقولية من علي صبري.

وهذا هو قول المشير عبد الحكيم عامر الذي يستنطقه به عبد الصمد:

 «هي غلطة ما فيش كلام واندبيت فيها برضائي، لكن بكره الناس يقروا كلامي وكلام علي صبري في محاضر اللجنة ويشوفوا كان حيعمل إيه لو كنت رفضت رياسة اللجنة ورأسها هو، ودي يمكن اللعبة اللي نجح فيها جمال وخلاني أقبل رئاستها».

هكذا يلجأ النائب عبد الصمد محمد عبد الصمد إلى أن يفهمنا أن المشير عبد الحكيم عامر ضحى بصورته هو من أجل الناس.

ومن حق القراء اليوم أن يتعجبوا من مثل هذا الطراز من التضحية، كما أن من حقهم أن يسألوا ماذا كانت الجدوى من اللجنة إذا كانت الأفكار التي وراء وجودها على هذا النحو كانت متضاربة إلى هذا الحد!

أما الذين كتبوا مذكرات برلنتي عبد الحميد فيعلقون على رئاسة عبد الحكيم للجنة تصفية الاقطاع بالإشارة إلى تآمر الرئيس عبد الناصر على عبد الحكيم. وتستند المذكرات (أو تنطلق) في هذه الجزئية من البداية بما رواه صلاح نصر في مذكراته:

 «على أن ثمة نقطة هامة لا بد أن أذكرها.. لقد كان الرئيس عبد الناصر يهدف إلى شيء ماكر من إسناد رئاسة هذه اللجنة إلى المشير عامر.. لقد أراد أن ينال المشير عامر نصيبا من كراهية الناس، مثلما كرهوا من قبل جمال سالم في محكمة الثورة، وكما كرهوا كل من صور لهم على أنه عدوّ الشعب».

«هذا كلام صلاح نصر، وإني لأرى صدق ما يقول على ضوء أحوال المشير، وبعض العبارات التي سمعتها منه، وبعض الحوار الذي دار أمامي في جلسات أصدقائه بمنزلنا عندما يكون في زيارتي».

…… …… …… ……

«وقد يكون مناسبا ـ ونحن بصدد الحديث عن لجنة تصفية الإقطاع ـ أن أذكر حقيقة عرفتها من المشير وأصدقائه، وهي أن جمال عبد الناصر، عندما قرر تحديد الملكية، كان قد رأى أن يكون الحد الأقصى خمسة أفدنة، ولكن عامر قال له: «إذن أنت لا تعرف كيف يعيش الفلاحون؟! إن المائة فدان التي يملكها واحد، إنما يعيش منها في الحقيقة هذا الواحد وأبناؤه العشرة وزوجاتهم، وأن يكون الحد الأقصى خمسة أفدنة، معناه خراب بيوت هؤلاء الناس، الذين جئنا من أجلهم، ونحن نسعى إلى العدل، لا إلى خراب البيوت!!

وفي مقابل هذا كله فإن الأستاذ أحمد حمروش يمسك العصا من الوسط، ولا يرى في هذه المسئولية التي اضطلع بها المشير عبد الحكيم عامر في لجنة تصفية الاقطاع سوى صورة من صور الولاء للثورة وللرئيس عبد الناصر، ونحن نفهم أن حمروش كان يرحب بأية تصفية لأي صاحب رأس مال، لكنه لا يحب أن يصرح بهذا، كما أنه كان يرحب بأية فرصة لنقد أي تصرف تنفيذي خاطئ في تحقيق هدف يراه مفيدًا، لكنه لا يترك الفرصة بدون استغلال نظري جيد يشيد فيه بالأيدلوجية وينتقد الآلية.

وهكذا فإنه من اليسير القول بأن حمروش وعبد الصمد يكادان يتفقان مع التفاوت، ولكن كلًا منهما في ناحية، فحمروش يعطي عبد الحكيم سلامة النية، وعبد الصمد يعطي الرئيس عبد الناصر القدرة على المناورة.. أما صلاح نصر و  الذين مذكرات برلنتي فيتهمون الرئيس عبد الناصر بالتآمر، وأما ثروت عكاشة فيظهر الرئيس عبد الناصر مغلوبًا على أمره.

وهذا هو ما يذكره الأستاذ  أحمد حمروش في كتابه «قصة ثورة 23 يوليو» حيث يقول:

«ولعل وجود المشير عبد الحكيم عامر على رأس هذه اللجنة يجيب على تساؤل البعض حول حقيقة اتجاهاته الفكرية والاجتماعية… فهو رغم كل ما نبت من تناقضات بينه وبين عبد الناصر، ورغم أصوله الطبقية التي تعتبر متميزة قليلا عن زملائه فهو وعبد اللطيف البغدادي هما الوحيدان من أبناء العمد».

«رغم ذلك فإن المشير عبد الحكيم عامر كان مخلصا تمامًا لاتجاهات الثورة مؤمنا بتنفيذ خطتها.. لا يبذل جهدا كبيرا في مناقشة ما يتوصل إليه جمال عبد الناصر، ولعل هذا هو ما دفع الاتحاد السوفيتي عند زيارة خروشوف لمصر قبل سنتين إلى تقديم لقب بطل الاتحاد السوفيتي إليه وإلي جمال عبد الناصر».

ومن الجدير بالذكر أن  المهندس سيد مرعي في مذكراته «أوراق سياسية» أكد على هذا المعنى الذي يذهب إليه عبد الصمد محمد عبد الصمد ومذكرات برلنتي بكل وضوح حين تحدث عن لجنة تصفية الإقطاع، وذلك حيث قال:

«… ومن المفارقات المدهشة التي اكتشفتها من خلال تلك المحاضر أن المشير عبد الحكيم عامر نفسه كان يمثل العنصر المعتدل في مناقشات تلك اللجنة، وإلى حد ما، كمال رفعت وشمس بدران، أما المتشددون والمتطرفون في المعاملة غير الإنسانية للمواطنين وقتها فكانوا علي صبري وشعراوي جمعة وكمال الحناوي وعبد الفتاح أبو الفضل وصلاح نصر وعبد المحسن أبو النور وحمدي عبيد وسامي شرف».

وقد روى سيد مرعي نفسه في مذكراته بعض الأمثلة التي يمكن لها ترينا بالفعل [إذا أردنا] أن المشير عبد الحكيم عامر كان بالفعل بمثابة صمام أمان حين وضع على رأس هذه اللجنة:

«…وقد وصل التطرف إلى درجة أن طالب علي صبري في اجتماعات اللجنة بتخفيف الحد الأعلى للملكية الزراعية إلى خمسة وعشرين فدانًا، وأيده في ذلك عبد المحسن أبو النور، ولكن المشير عبد الحكيم عامر اعترض على هذا الاتجاه مبررًا ذلك بأنه «لا يجب أن نخرج عن الميثاق بأي شكل وإلا اهتزت الثقة في الحكم إلى الأبد».

«ووصل الأمر إلى حد أن أحد أعضاء اللجنة العليا لتصفية الإقطاع وهو السيد أحمد كامل، شكا إلى المشير المشير عبد الحكيم عامر في اللجنة من أن «طريقة التنفيذ تأخذ طابعًا إنسانيًا أكثر من اللازم، ولا بد من مزيد من العنف و«البهدلة» للملاك، ومن أنه اضطر أن يودع أحد الملاك بعد إبعاده عن القرية ومصادرة أرضه قائلا له: مع السلامة».

«وعندما سأله المشير: ولماذا قلت له «مع السلامة»؟، ورد أحمد كامل: لأن التعليمات تقضي بأن يكون الإبعاد دون عنف، ونريد أن ننفذ بالطريقة التي نراها. وهنا يقول عبد الحكيم عامر: نفذ ولكن بغير بهدلة للناس».

إهمال المسئوليات الرئاسية عن الجيش السوري

نأتي إلى موضوع مهم يتعلق بهذا الفصل، وهو إهمال الرئيس عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر لمسئولياتهما الرئاسية عن الجيش السوري، ولا بد أن نشير إلى هذا الموضوع إشارة سريعة  مع أننا تحدثنا فيه بالتفصيل في مواضع أخرى.

يمثل هذا الموضوع النقيض لكل الذي ذكرناه عن حالة الجيش والسياسة في مصر، إذ أن تطبيق المنطق ذاته في سوريا كان بمثابة كارثة لا تزال سوريا تعاني منها حتى الآن، ونحن نورد رأينا من واقع ما كُتب مبكرًا عن هذه الجزئية، وعلى الرغم من هذا فإن أحدًا لم يعن ببيان الحقيقة، ونحن نؤكد على ما نراه في هذا الصدد بما ورد من شهادة أكرم الحوراني الذي لا يدافع عن الرئيس عبد الناصر ولا عن المشير عبد الحكيم، وإنما هو يتعجب من أن يفقد الرئيس عبد الناصر نفسه السيطرة على الجيش السوري إرادته.

وقد أشار الحوراني إلى تعجبه واندهاشه من نجاح المشير في إبعاد الضباط السوريين الناصريين المؤثرين عن الجيش باختيارهم وزراء:

«أما بالنسبة للمشير عبد الحكيم عامر فقد كانت التعديلات الوزارية التي جرت عام 1960 للمجلس التنفيذي السوري مناسبة لإسناد بعض الوزارات إلى عدد من ضباط الجيش السوري والموالين له، وهم: أكرم الديري، وطعمة العودة الله، وجمال الصوفي، وأحمد جنيدي، فأصبح المجلس التنفيذي الذي تشكل من هؤلاء العسكريين ومن بعض الفنيين برئاسة المهندس نور الدين كحالة في قبضة المشير عبد الحكيم عامر».

تشككُّ  الرئيس في تنمية المشير لعلاقته مع السوفييت

ذكر الأستاذ أكرم الحوراني في مذكراته أن الرئيس عبد الناصر كان قد بدأ يتشككُّ في تنمية المشير عبد الحكيم عامر لعلاقته مع السوفييت:

«وكنت قبل ذلك قد سمعت أن المشير يحاول إنشاء علاقة مميزة مع السوفييت، وأن الرئيس عبد الناصر يراقب هذه العلاقة بحذر شديد، ولربما كان مجيء عامر لحضور هذا الاجتماع يعود إلى هذا السبب».

وقد عبرّ الحوراني أكثر من مرة عن اندهاشه الشديد لقبول الرئيس عبد الناصر بإبعاد عامر للضباط الناصريين عن الجيش.. وعن هذه الجزئية (التي ظلت محيرة له ) قال الحوراني:

«ومن المدهش ألا يدرك الرئيس عبد الناصر ـ بالنسبة لمصلحته ـ أن قيمة هؤلاء الضباط الذين اصطنعهم وزراء (في مارس 1960) هي بقاؤهم في الجيش، وهو لا يجهل بأنه ليس لهم أي قيمة سياسية أو خبرة فنية أو كفاءة علمية أو إدارية يستفيد منها النظام، ولا شك عندي أن شطب هؤلاء الضباط من الجيش وتعيينهم وزراء كان بدافع من المشير عبد الحكيم عامر».

«… انفعل الرئيس عبد الناصر كثيرًا من هذا التساؤل وقال: لنخرج إلى الحديقة، وطلب من المشير عامر أن يشاركه في لعبة الجولف، فوقفت جانبا مع الآخرين أتفرج على هذه اللعبة، وكان عبد اللطيف البغدادي يشجع المشير عبد الحكيم عامر على سبيل المزاح فقال له الرئيس عبد الناصر بين الجد والهزل:

«إياك يا عبد اللطيف أن تتفق مع المشير، فأنا رجل صعب، ولا قبل لكما بي».

المجد لا يقبل القسمة على اثنين

و هكذا نرى  بوضوح أن خبرة السياسيين  والمؤرخين و النفسانيين و الصحفيين مهما بلغت تظل عاجزة عن أن تفهم أو تتفهم أو تفسر العواطف الإنسانية حين تجتمع فيها عوامل التقريب مع عوامل النفور، وتتصارع عوامل الود القديم مع آفاق المجد الذي لا يقبل القسمة على اثنين.

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها


إعلان