ظل كمال الدين حسين طيلة حياته مهموما بالشأن العام و بالحياة العامة، وبحكم أنه كان من الأشخاص المبادرين الذين يدفعهم الإيمان إلى العمل فقد ظل معنيا بحقيقة الانتماء وبأن عليه أن يؤدي لوطنه دورا ما، و كان إحساسه بالألم يتزايد إلى درجة كبيرة حين يرى نفسه ، وقد أصبح لا يؤدي أي دور ، بينما كان هو نفسه في وقت من الأوقات (عن قريب ) يؤدي كل شيء بحماس و إنجاز و إعجاب وتصفيق من الناس ، و باختصار شديد فإن كمال الدين حسين ظل يبحث للدافعية عن مدفعية وهي عبارة كفيلة بالتصوير الدقيق لتاريخه في نصف عمره الثاني وقد فكرت كثيرا أن أجعلها عنوانا لهذا الحديث لكني آثرت العنوان الذي يدل بألفاظ مهذبة على انتقاله و انتقال أدواته وطابع هذه الأدوات .
لا شك في أن كمال الدين حسين كان شجاعاً ومبادراً ومخلصاً لكنه في الوقت نفسه لم يكن مبارزاً لأسباب كثيرة أهمها أنه لم يكن هناك من يرغب في أن يُبارزه، كما أنه لم يكن هناك من هو مضطر إلى أن يبارزه، كما أنه لم يكن هناك أحد يرغب في أن يهاجمه، ولم يكن هناك أحد على استعداد لأن يهاجمه.
وفضلا عن هذا فإنه لأسباب عملية مفهومة لم يُصنف باعتباره معارضاً لعبد الناصر ولا للناصرية، كما أنه لأسباب عملية أخرى فإنه أيضا لم يصنف باعتباره ناصريا سابقاً ومشاركاً في الناصرية، وهكذا كانت المعارضة التي يقوم بها كمال الدين حسين، إن وجدت لا تعدو أن تكون خصاماً مع لا خصام، ووفاقاً مع لا وفاق، وهكذا انتهى أمرها سريعا على الرغم من القيمة التاريخية لصاحبها.
ونستطيع أن نقول الشيء نفسه بكل حذافيره عن المعارضة التي كانت توجه أو تصوب إلى كمال الدين حسين في ثنايا كتابات الناصريين التقليدية.
وحين تولت الانتخابات البرلمانية 1979إسقاط كمال الدين حسين في دائرته تم ابتلاع الأمر بسرعة (ولا نقول بسهولة فقد تكفلت السرعة بالسهولة )في إطار ما هو معروف من سياسة حكومات 1952 في إدارة الانتخابات بأسلوب تختلف نسبة التزوير فيه مع احترامه لطابع التزوير وأهمية التزوير، ومع أن أداء الوزارة في إدارة انتخابات ١٩٧٩ كان انتكاسا لما تحقق في ١٩٧٦ فإن الباحثين والمثقفين المصريين رأوا في الأمر عودة إلى مسار حكم ثورة ١٩٥٢ ، وسواء أكان كمال الدين حسين قد رسب في انتخابات 1979 بإرادة الحكومة أو بإرادة الجماهير ، فإنه فيما هو ظاهر للناس انصرف تماماً عما كان قد شرع فيه من معارضة ، وذلك فإنه لم يؤسس كيانا ولا انضم لكيان، ولم يتبن سياسة معارضة ولم يدافع عن سياسة معارضة ، وهنا ظهر أن الحضن الشيوعي الذي لجأ إليه زميله خالد محيي الدين كان أكثر دفئاً من حضن المثالية لأن المثالية لا تملك حضناً من الأساس.
ربما نبدأ بما هو أحدث فنقول إن معارضته للسادات بدت وكأنها لا تعدو أكثر من أن تكون نوعا من إحساسه بالتفوق على الرئيس في مرحلة سابقة، أو على الأقل بنوع ما من التفوق، مع أن منطق التاريخ يقول إنه لم يعد لهذا التفوق معنى ظاهر في عصر جديد هو عصر الرئيس السادات نفسه. ومما يؤسف له أن كمال الدين حسين لم يخاصم منطق التاريخ في هذه الجزئية فحسب وإنما ظن أن التاريخ سيصحح نفسه، بينما التاريخ بطبعه لا يمانع في تأصيل الأخطاء وتجذيرها.
ومن المهم في دراسة المكانة التاريخية لمثل هذا الرجل ألا نبخل بأي جهد أو وقت في استقصاء ما يتطلبه التتبع لحياته السياسية، وأن نلجأ إلى ما توفره لنا المصادر التي أتيحت لنا.
ولعلنا نبدأ في تأمل لحظات الموازنة بينه أو المواجهة وبين زملائه الآخرين أو الحوار العلني معهم أو تبادل الرسائل والاتهامات إن جاز استخدام هذه الكلمة الأخيرة.
من الطريف أن الرئيس جمال عبد الناصر في صراعه المبكر مع المشير عبد الحكيم عامر ، وهو صراع بشري طبيعي ومتوقع ، كان يُلوّح دائماً بورقة إسناد قيادة الجيش إلى كمال الدين حسين، لكنه في هذا التلويح كان من الذكاء بحيث لا يقول إن كمال الدين حسين سيحُل محل المشير عبد الحكيم عامر قائداً للقوات المسلحة لكنه كان يقول إنه سيُسند قيادة الجيش إلى كمال الدين حسين ، وقيادة الطيران إلى عبد اللطيف البغدادي.
لم يكن هذا الأمر مفاجئا ولا سراً فقد بدأت الإشارة إليه في مرحلة مبكرة بعد قيام الثورة حين كُلّف كمال الدين بقيادة الجيش الشعبي بالموازاة لتكليف المشير عبد الحكيم عامر بمنصب القائد العام للقوات المسلحة، وفيما يبدو أن كتالوج الانقلابات العسكرية كان يحض على ضرورة تكوين جيش استثنائي أو حرس ثوري بالإضافة أو بالموازاة مع الجيش الرسمي، لكن طبيعة المصريين التي نعرفها لم تكن تتطلب هذا الأمر و لا تتقبله على هذا النحو الجذري فلم يعرف عن الجيش الرسمي أي رغبة و لو ضعيفة في مقاومة الاتجاه الديماجوجي السائد في مصر سواء كان هذا الاتجاه حصاداً لثورة أو لانقلاب عسكري أو لغير ذلك.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الفكرة أعادت طرحت نفسها بقوة في حرب 1956، ومع أن بداية هذه الحرب سرعان ما انتهت بأقصى سرعة بالانسحاب المصري التام من سيناء ومن مدن القناة فإن الحاجة المعنوية إلى الإيحاء بوجود مقاومة شعبية أو وجود قدرة جيش بديل كانت تتطلب مثل هذا الإعلان عن تكوين مثل هذا الجيش على وجه السرعة والثورية من قبل دراسة أو تخطيط ما يتطلبه هذا الجيش من تسليح ، و ذلك على الرغم مما هو معروف عن أن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد احتاط للأمر وسحب كل السلاح من المواطنين بعد قيام ثورة 1956 في تصرف مناقض تماماً لما كانت وزارة الوفد أو حكومة النحاس باشا قد توسعت فيه من توزيع السلاح على المواطنين بالمواكبة مع اتساع المقاومة الشعبية للمحتل الإنجليزي ومعسكراته أو مستعمراته في منطقة قناة السويس.
ونحن نعرف بالطبع أن كيانات الجيش الشعبي الذي أعلنت عنه ثورة يوليو في مرات عديدة كانت سرعان ما تذوب حتى وإن بقي معها مقر ساكن أو موظفون روتينيون أو رمزيون من قبيل الضابط جمال نظيم الذي عرفتُه في أوائل حياتي وهو يشغل درجة نائب وزير الشباب بينما هو شيخ، يستدعي له الموظفون الذين يعرفوننا به وبقيمته (من التاريخ ) أنه كان قائد تنظيم الفتوة.
وعلى كل الأحوال فإن مذكرات البغدادي وغيره لم تغفل الإشارة إلى تلويح الرئيس جمال عبد الناصر بتولية كمال الدين حسين أمور الجيش وهو تلويح كان يتوقف عند التصريح به فحسب.
وردت هذه الشكوى ضمن ما كان الرئيس يرويه للبغدادي من قصص خلافات المشير عبد الحكيم عامر :
” …………….. والقصة الخامسة هو أن كمال الدين حسين كان قد عين قائدًا لجيش التحرير، وقد تم هذا بالاتفاق مع عبد الحكيم قبل أن يجتمع مجلس الثورة لمناقشة الموضوع ـ على حد قول جمال ـ ورغم هذا فقد حورب كمال بواسطة اللواء عبد الفتاح فؤاد وضباط آخرين من الجيش. وأصر جمال أن يطلب من كمال ترك جيش التحرير. وأما عبد الحكيم فلم يحاول وقف هؤلاء الضباط عند حدهم. ولكنه بدلًا من هذا ذهب إلى جمال وقال له: “الضباط بتقول هل فيه قيادتان عسكريتان في البلد؟ ولاّ كمال هو القائد العام المنتظر؟».
هذا هو ما يرويه البغدادي نفسه في حديثه لمجلة نصف الدنيا (1996) حيث يقول:
“عندما حدث الانفصال قال عبد الحكيم عامر: شوفوا واحد غيري يمسك الجيش فأنا لا أستطيع مواجهة الضباط والجنود بعد ما حدث، وكنا قد فكرنا بعد حرب 1956 أن يترك عبد الحكيم الجيش ثم تراجع عبد الناصر عن هذه الفكرة، وبعد الانفصال واقتراح عبد الحكيم أن يترك الجيش، عرض عبد الناصر عليّ أن أشرف على سلاح الطيران ويتولى قيادة الجيش كمال الدين حسين”
“وكان لعبد الحكيم ضباط في الجيش موالون له فقلنا لعبد الناصر: لا بد أن نتخلص منهم أولا ثم تتولى أنت منصب القائد العام وأتولى أنا الطيران وكمال حسين يتولى الجيش، ونقوم بعملية تطهير للجيش”
” ولكنه رفض ولم ينفذ الفكرة”.
فكما قال زكريا محيي الدين: لو توليت أنت وكمال حسين هذين المنصبين فستصبحان أخطر على عبد الناصر من عامر الذي أولاه عبد الناصر قيادة الجيش لأنه صديقه الصدوق، رغم أنه لم يكن الشخص المناسب ولكنه اختاره ليؤمن له نظامه ويؤمنه هو شخصيا».
ذكرنا في استعراض حياة كمال الدين حسين أنه اعتزل الحياة السياسية (في مارس1964) حيث قدم استقالته النهائية للرئيس عبد الناصر مع زميله عبد اللطيف البغدادي، وبدءا من إعادة تشكيل المناصب العليا في مارس 1964 غاب اسم كمال الدين حسين نهائيا من مناصب نواب رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء… إلخ.
اختفى اسم كمال الدين حسين من الاخبار نهائيا ، وتعارف الجمهور العربي على أنه كعادة المبعدين في عهد الرئيس عبد الناصر ذهب وراء الشمس ، و فجأة تواترت الأخبار المؤكدة عن صدور قرار الرئيس جمال عبد الناصر باعتقاله، وتحديد محل إقامته، وتردد أن السبب أنه أرسل للرئيس عبدالناصر رسالة يدور كل محتواها حول كلمة اتق الله التي كانت موضوعا للرسالة ، كانت هذه الرسالة في 12 أكتوبر 1965 وقد شاع أنه استنكر فيها موجات القبض العنيف و العشوائي على الإخوان المسلمين، والتعذيب الشديد الذي تعرضوا له ، كما أنه اعترض فيها على الفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان .
بعد تحديد إقامة كمال الدين حسين فإنه كتب رسالة شهيرة (نشرت تفصيلاتها فيما بعد سنوات) في ٢٥ أكتوبر 1965 إلى صديقه ورفيق سلاحه المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة وهو يومها الرجل الثاني في البلاد، وقد رد عليه المشير عبد الحكيم عامر برسالة مطولة نشرها أنصار المشير فيما بعد .
و يتوافق تاريخ رسالته للرئيس وتحدد إقامته وتبادل هاتين الرسالتين بينه وبين المشير عبد الحكيم عامر مع وجود زميلهم زكريا محيي الدين على رأس الحكومة (بدأ رياسته للوزارة في أكتوبر 1965)، وكانت هذه الموجة من اضطهاد الرئيس عبد الناصر للإخوان و اتهاماتهم بمثابة رد فعل عنيف من الرئيس عبد الناصر تجاه ما أحس به ( وكان ذكيا و محقا) من القلق والإحباط نتيجة ما صحب تشييع المواطنين لجنازة الزعيم مصطفى النحاس باشا من هتافات حماسية شقت عنان السماء طوال ذلك اليوم الصيفي الطويل معبرة عن المشاعر المكبوتة في أثناء غياب الرئيس نفسه ، و توافق هذا مع ضرورة خطب ود السوفيييت بتمكين الشيوعيين و اضطهاد الإخوان المسلمين .
لنقرأ رسالة كمال الدين حسين إلى صديقه المشير عبد الحكيم عامر
” اليوم، أصبحت، يا عبد الحكيم، أعتقد أنه لا حياة لي في بلدي الذي بتّ أرى فيه جزاء كلمة (اتق الله) هو ما أنا فيه، (وما أهلي فيه)، عندما قلت لكم اتقوا الله، قصدت أن تتقوا الله في هذا الشعب الذي قمنا لخلاصه واسترداد حريته.
” قلت لكم اتقوا الله، بعد أن ألجمتم جميع الأفواه، إلا أفواه المنافقين والمتزلفين والطبالين والزمارين. قلت لكم اتقوا الله في الحرية التي قضيتم على كل ما كان باقيا من آثارها، وكنا نأمل أن تتفتح لها براعم نامية، نطمئن حين نمضي من هذه الدنيا أننا قد أدينا أمانتنا، فنترك بعدنا هذه البراعم، وقد نضجت وأصبحت قوية قادرة على الصمود.
” قلت لكم اتقوا الله، لأنكم أردتم استنعاج هذا الشعب، وأنا لم أكن أرضى بذلك، ولذلك، أصبحت، الآن، لا أطيق الحياة في هذا الجو الخانق.
” أنا آسف أن تتحول ثورة الحرية إلى ثورة إرهاب، لا يعلم فيها كل إنسان مصيره، لو قال كلمة حرة يرضي بها ضميره ووطنه، إنني لن أستعطف أحداً، ولن أخاف إلا الله، وأنا حين أكتب إليك الآن، لا أطلب شيئاً غير الرحيل عن هذه الأرض، التي يئست من أن تقال فيها كلمة حق، فضلا عن أن يقام فيها ميزان عدل.
” يا عبد الحكيم، ألم أقل لك، في مارس الماضي، ما هي ضمانات الحرية، فقلت “نحن ضمانات الحرية”، وقلت لك إنني لا أثق في ذلك، وهذه الأيام تأتيني بالبرهان بأن للحرية ضمانات وأنتم الضمانات، كل شيء جائز.
ألم أقل لك، يومئذ، إنه إذا لم يتنازل عن تألهه وفرديته [الضمير يعود على الرئيس جمال عبد الناصر]، فلا فائدة للعمل معه، فهل، يا ترى، الذي جرى لمواجهة كلمة اتق الله هو دليل لهذا التنازل؟ كلمة صريحة أقولها لك، يا عبد الحكيم، أنا أرثي لهذه الحال، ومع ذلك، أتمنى أن يهديكم الله، لا تغضب أنت الآخر يا عبد الحكيم، راجع نفسك ولا يغلبك الهوى والغرض، راجع ضميرك قبل ثورة 23 يوليو، وعلى مدى سنين من هذه الثورة، ثم انظر أين ينتهي بكم الطريق، طريق الحرية أقدس ما منح الله للإنسان.
” يجب أن تعلم يا عبد الحكيم رأي الناس فيكم وما يحسون نحوكم، لقد أصبحتم ويا للأسف في نظر الشعب جلاديه، نتيجة تدعو للرثاء وحصاد مر لثورة 23 التحريرية الكبرى، تتجرعه الملايين المستذلة بعد ما وضعت في تلك الثورة وقيادتها آمالها وأعطتها الكثير واستأمنتها على الكثير، على الحرية، ولكن أين الأمانة الآن، والله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، لقد بُددت الأمانة، لقد وئِدت الحرية، ونعيش هذه الأيام وكأننا في ليل لا يبدو له فجر.
” يا عبد الحكيم، لا تتصور أنني مبتئس بما جرى، ولكنني حقيقة أشعر بالأسف، وأقول “يا حسرة على الرجال. يا خسارة على الثورة”، وأشعر بذنب واحد، هو أن ثقتي غير المحدودة فيكم مكنت الطغيان أن يسلب هذا الشعب حريته وكرامته وإنسانيته، ومهما كانت الشعارات الزائفة التي ترددت، والادعاءات التي تقال، فالناس جميعا يعرفون حقيقتها
والسلام”.
بعث المشير عبد الحكيم عامر برده إلى كمال الدين حسين في 4 نوفمبر 1965 و بدأ عبد الحكيم رسالته (الجوابية) بالتنبيه على أنه سيكون صريحا مع صديقه (أي كمال الدين حسين) لأن الصراحة كفيلة بالفهم الصحيح فضلًا عن أنها لا تزعجه وعن أنه اعتادها، ولست أدري (الضمير لكاتب هذه السطور ) متى حدث هذا التعود، ولو كان قد حدث حقيقة هل كان من الممكن أن تحدث هزيمة 1967 قبل أن ينقضي عامان على كتابة وتبادل مثل هذه الرسالة الصريحة؟!
على كل الأحوال فإننا نقرأ الرسالة لنكتشف أن ما يتصوره المشير عبد الحكيم عامر “صراحة». لم يكن كذلك ولا جزءًا من ذلك، وإنما هو شقشقة خطابية باصطلاحات سياسية فحسب، بل إننا نكاد نقول إن عبد الحكيم عامر في الغالب لم يصل إلى فهم ما يعنيه كمال الدين حسين بكلماته وتنبيهه الذي أرسله إليه.. و نحن نرى عبد الحكيم عامر، يواجه صديقه كمال الدين حسين (مبكرًا جدًّا) بلهجة خطابية تبدو عاقلة، لكنها منفعلة جدًّا في ذات الوقت، وهو يلخص انطباعه تجاه موقف صديقه في أن يستنكر عليه أن ينخدع في الإخوان المسلمين وسيد قطب. وهو يصف لصديقه [مؤامراتهم] من واقع ما وصفتها الأجهزة الأمنية من مبالغات أو افتراءات، ومن واقع ما قدم للناس على أنه نتائجها، وهو يقفز إلى ذكر هذه النتائج بافتراض حدوثها كما لو كانت تحققت! متبعًا أقسى أسلوب في الاتهام والافتراء، وهو أسلوب اتبعته ثورة 23 يوليو على الدوام.
ونرى المشير عبد الحكيم عامر (في رسالته لكمال الدين حسين) وهو حريص على أن يعاقب الإخوان المسلمين بما نسب إليهم زورًا من نوايا لا من أفعال، ونراه يدينهم ويحكم عليهم من واقع هذه النوايا المصورة، ثم إنه بناء على ذلك وتأسيسًا عليه كان يلوم كمال الدين حسين أن يتعاطف مع قوم نسبت إليهم مثل هذه النوايا.
ويصل المشير عبد الحكيم عامر إلى أن يستعدي كمال الدين حسين على الإخوان باسم “الأخوة والوفاء والمبادئ الاسلامية والإنسانية»، (وكأنه يتحدث إلى صديق في فريق أو إلى عضو في جماعة سرية)، وهو حديث إن جاز أن يكون بين شخصيتين كعبد الحكيم وكمال، فإنه لا يليق بالمستوى التنفيذي والسياسي الذي وصلا إليه، فقد كان كلا منهما نائبًا لرئيس الجمهورية، وكان كمال كما نعرف قد أصبح رئيسًا للوزراء كما كان عبد الحكيم قد أصبح قائدًا عاما للقوات المسلحة!
وعبارات المشير عبد الحكيم عامر في هذا الشأن أوضح من أن تحتاج إلى تقديم أوشرح، فهي عبارات مباشرة بسيطة قصيرة مصاغة على هيئة أسئلة استنكارية موحية ، وإن كانت منكرة ، وهو يقول فيها:
“عزيزي كمال..
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
“لقد تعودت ألا تزعجني الصراحة، لأن الصراحة هي الطريق إلى الفهم الصحيح، ودعني أيضًا أن أصارحك القول، وقد تعودت أن أقول ما أعتقد ولا أخشى في ذلك إلا الله وضميري».
“إن طبيعة الرسالة التي تلقيتها منك كانت بمثابة صدمة عنيفة قد نسفت في نظري جميع القيم والروابط التي تجمعنا، وفي رأيي لم يكن هناك ما يبررها على الإطلاق فهي مرسلة، وسأعبر عن ذلك مخلصا وصادقا: “من كمال رسول الله إلى عبد الحكيم كسرى أنو شروان”؛ أي من نبي مؤمن إلى قائد ملحد، وأنت لست نبيا ، وما كنا نحن بملحدين كافرين. فنحن نؤمن بالله واليوم الآخر».
“وكنت أنتظر أن تكون رسالتك في مثل هذا الوقت وهذه المؤامرات الإجرامية التي تدبر والتي كان الغرض منها التحطيم والقضاء على نفوس بريئة والرجوع بها إلى الخلف سنين طويلة».
“كنت أنتظر على الأقل أن تستنكر ذلك وما عهدت فيك عدم الوفاء وما عهدت أن ترى الأمور بهذه الطريقة الغريبة التي لا أعلم ولا يعلم إلا الله كيف وصل بك الأمر إلى ذلك، تتشكك في كل شيء وترى صورًا قاتمة لا وجود لها.. ماذا ألم بك؟ لا أعلم.
ربما نتوقف هنا لنتدبر حقيقة مرة وهي أن ما كان يقوله المشير عبد الحكيم عامر كان هو عكس الحقيقة، وهو أمر مفارق ومؤسف، فعبد الحكيم هو الذي تصور صورًا قاتمة لا وجود لها ودفع ثمن تصوراته بعد أقل من عامين كما نعرف، لكن التاريخ (في الحقيقة) لا يبدو مقروءا على هذا النحو لمن يشارك في صنعه.
وتتواصل نصائح عبد الحكيم عامر التي قدمها (من مقعده الوثير) لصديقه كمال الدين حسين، وإذا نظرنا بقدر من التأمل البسيط إلى النص الذي كتبه عبد الحكيم أو كاتب رسالته، لوجدناه وقد استسهل أن يبدو وكأنه قد انساق تمامًا إلى ترديد كلام الإعلام المحرض على الإخوان وعلى غيرهم، والمؤمن بشيء هلامي لا وجود له في الواقع، وهو ما يتعارض مع الوطنية المجردة بل ومع التدين أيضًا، بينما تقول رسالة عبد الحكيم عامر أنه مؤمن مثالي:
“ارجع إلى نفسك يا كمال وتأمل كل شيء بهدوء وبنفس خالية من الغضب والنزعات، فكر في الأمور بعيدًا عن المؤثرات وبعيدًا عن كلام المغرضين وهمساتهم وافتراءاتهم، الذين لهم هوي والذين لا يبغون إلا مصلحة ذاتية من ورائك، وقد وجدوا في شخصك الأمل الذي يحقق لهم الأمل وهذه الأهداف، فهم يدعون الكلام باسم الحق وهم لا يريدون إلا الباطل».
“إن المؤامرة الأخيرة التي دبرها الإخوان المسلمون المتعصبون مؤامرة لا يمكن وصفها إلا بأنها جريمة ضد شعب بأسره بل جرائم قتل باسم الإسلام.. دماء تسيل، وخراب يعم باسم الإسلام، هل هذه هي الحرية التي يطالب بها هؤلاء الذين يريدون فرض أنفسهم على الناس بالدماء والخراب”
” والله هذا لا يقره دين ولا يقره ضمير ولا يقره أي شخص عنده إنسانية».
نجد المشير عبد الحكيم عامر وهو يؤكد لصديقه كمال الدين حسين عقيدته الراسخة في اتهام سيد قطب حتى أنه تجاوز في هذا الاتهام كل الحدود المعقولة، ونجد عبد الحكيم يتساءل هل يريد سيد قطب أن يكون نبيا، أو ظل الله على الأرض؟ ويبدو عبد الحكيم واثقًا ومتماسكا في هذا النص الذي كتب له على هذا النحو “المتياسر في فهمه»، و”المتحامل في اتهاماته»، والمعتمد على أكاذيب ومبالغات لا يمكن لسياسي حقيقي أن يبني عليها رؤية أو مناقشة.. وبطريقة الدبة التي قتلت صاحبها يلخص عبد الحكيم في رسالته معاناة الجماهير، دون أن يلتفت إلى أن نظام الحكم الذي يدافع عنه هو الذي خلق هذه المعاناة وغذاها وأدامها. ولو أن أحدًا أراد تصوير الانتكاسات التي وصل إليها حكم ثورة 23 يوليو أو الحكم الناصري فيما قبل هزيمة 1967 ما وجد نصًا أبدع من هذا في مقابل الأرقام المبالغ فيها التي يؤثر بعض الكتاب الشيوعيين إيرادها عن معدلات التنمية الكاذبة … ، وهو يقول:
“إنني تابعت التحقيق خطوة خطوة، والمؤامرة فيها أكثر مما نشر حتى الآن أيريد سيد قطب أن يصنع من نفسه نبيا ينزل عليه الوحي يأمره بقتل الناس وتدمير البشر، أهو ظل الله على الأرض ينهي حياة ما شاء من العباد، لا أعلم كيف لم يحدث في نفسك هذا العمل الألم كل الألم؟
وكيف اكتفيت بإرسال خطابك لي بالمعني الذي سبق أن ذكرته لك؟ هل فكرت ماذا كان سيرتب على نسف محطات الكهرباء فقط؟ توقف المستشفيات، وفاة المرضي رجالًا ونساء وأطفالا، القاهرة بلا ضوء، بلا مصانع يعمل فيها آلاف العمال …. أصبحوا عاطلين».
“الناس لا تجد قوت يومهم بل لا يجدون حتى الماء ليشربوه. مجاري تطفح في الشوارع وفي المنازل، أوبئة تفتك بأرواح لن تعوض طبعًا. باسم ماذا يحدث كل هذا ؟ بأمر من يحدث كل هذا كيف تعوض مثل هذه الخسارة قبل سنوات طويلة؟ أما الأرواح فلن تعوض طبعًا، باسم ماذا يحدث كل هذا؟ بأمر من يحدث كل هذا؟ حكم من هذا؟ حكم من جعلوا أنفسهم خليفة الله في الأرض؟ إنه اغتيال لشعب ولحريته ولحياته ولتقدمه بل أيضًا لمعاشه اليومي».
ثم يلجأ المشير عبد الحكيم عامر في رسالته التي تبني جوهرها ، مثل غيرها من النصوص التحريضية، على اتهامات مقولبة، إلى وضع كمال الدين حسين في الجهة الأخرى من معركة الثوار مع الإخوان ، ويتحدث عبد الحكيم في رسالته لصديقه كمال الذين حسين عن اعتقاده الواثق في استمرار استحقاقه هو وعبد الناصر للثقة التي كان كمال الدين حسين قد وضعها فيهم ، وأنه ـ أي كمال ـ لم يخطئ بوضع ثقته فيهم لأنهم يحافظون بالفعل على مصالح الشعب.
ويؤكد المشير عبد الحكيم لصديقه كمال الدين حسين أن الثورة مهما أخطأت فإنها تصحح أخطاءها بدون قسوة أو انتقام (ومن العجيب أن عبد الحكيم نفسه أصبح بعد أقل من عامين أكبر ضحية للقسوة والانتقام).
كما يلجأ المشير عبد الحكيم (دون وعي سياسي في الغالب) إلى ترديد فهم شمولي مغلوط للحرية، فيقول في رسالته إن الذي يقضي علي الحرية هو التعصب مهما كان رداؤه وليس مجرد قانون، ويهاجم المشير عبد الحكيم عامر ما يزعم أنها آراء الإخوان في هذا الصدد ويصفها بالكفر بالقيم الإنسانية والبشرية، وهو يقول:
“وماذا يكون شعورك وأولادك في منطقة تتفجر منها مواد النسف؟ ماذا يكون شعور كل أب كل أم كل أخ؟ فكر قليلًا يا كمال دون تحيز ودون غضب لأن هذا هو حكم الطغيان بكل معانيه حكم الغابة بكل صوره، هذا هو الإرهاب بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى مروع».
“هل الأخوة والوفاء تعنيان تأييدك لهذا العمل أو تعنيان أنه كان يجب عليك استنكاره؟»
“هل المبادئ الإسلامية والإنسانية تقر أنك لا تقف لتحارب كل هذا بكل قوتك بدل أن تؤيده في خطابك الاول الذي يدل معناه على ذلك؟».
“أي معنى ذلك أنك توافق على قتلنا، وهذا في رأيي أبسط الأمور، فلكل أجل كتاب، ولكن كيف يطاوعك ضميرك وكيف تقنع نفسك بالموافقة على اغتيال شعب؟».
“تعرضت في كلامك عن الثقة فينا، وأنا بدوري أقول إنك لم تخطئ بثقتك فينا وكل ما أريده منك وأرجوه أن تفكر بعيدا عن كل مؤثر أو مظهر ولا تجعل أي تصرف شخصي أو تصرف بسيط يؤثر على جوهر المواضيع».
“إننا ، ومن جانبي أيضًا ، سنعمل على المحافظة على مصالح شعبنا وسنحافظ عليه ضد أي محاولات من هذا الطابع بكل وسيلة ممكنة، وكما ذكرت حقا في خطابك الأخير أن الناس يعرفون الحقيقة، ولكن ليست الحقيقة التي تتصورها أنت والتي طبعًا يصورها لك بعض الناس الذين تعتبر أن كلامهم لا يقبل المناقشة».
“وتقول إنك تريد أن تخرج إلى السعودية؟ لماذا هل هي بلد الحريات؟ هل هي بلد الإسلام؟».
“ما هذا يا كمال؟ عجيب والله هذا التفكير إن النبي ﷺ كان بشرا ومات كما يموت البشر، وإن جلوسك بجانب قبره لن يعطيك شيئًا».
ثم ها هو المشير عبد الحكيم عامر يبدأ على طريقة الصحفيين (عندما يتولون كتابة المقالات الحماسية) في نصح صديقه كمال الدين حسين، بما كان الأولى أن ينصح به نفسه، ويصل عبد الحكيم عامر (للأسف الشديد) إلى أن يتصور نفسه من ملاك الحقيقة المطلقة وإلى أن يضع صديقه بين شقي الرحي طارحًا عليه التساؤل الساذج: هل يوافق على أن يتولى هؤلاء (الحيوانات الكاسرة) بتعصبهم وقسوتهم الحكم؟ أم أن الواجب هو منعهم من الوصول إليه، حتى لو كان ذلك بالاسلوب القاسي الذي ينتقده كمال الدين حسين، لأنه لا يعلم (الحقيقة) على حين ما يبرره المشير عبد الحكيم عامر لأنه يعلم (الحقيقة).
ويقول المشير عبد الحكيم عامر في هذا الصدد:
“لا تخدع نفسك يا كمال، جرد نفسك يا كمال من كل الاعتبارات مليا وستري الأمور بغير هذه العين، خصوصًا بالنسبة للحقائق التي سردتها لك ولا تقبل جدلا».
“ثم بعد ذلك تكلمني عن قانون ويزعجك أن يصدر مثله وهذا ليس موضوعا جوهريًا ومهما أخطأت الثورة يا كمال فإنها تصحح دائمًا أخطاءها».
“ولكنها ما كانت قاسية وما كانت منتقمة وأنت تعلم ذلك وشاركتنا في أفكارنا وفي قراءاتنا وفي جميع الأحداث التي مرت بشعبنا منذ يوليو 1952 وتعلم جيدا كيف نفكر وكيف نتصرف».
“إن الذي يقضي على الحرية ويقتلها هو التعصب مهما كان نوعه ومهما كان شكله ومهما كانت الشعارات التي يحتمي فيها؛ إن كان تحت اسم إسلام أو تحت اسم إصلاح أو غيره، أن بلادنا يتآمر عليها الاستعمار والرجعية. ألا يكفي ذلك حتى تخرج هذه الفئة لتضع البلاد تحت رحمته وتجعلنا في قبضته مرة أخرى ربما إلى سنين طويلة لا يعلم إلا الله عددها؟».
“وهل هذا مفهوم الحرية؟ وهل هذه هي الحرية التي أعلنها الإسلام؟ أنا أقول كلا وألف كلا، بل إن هذا هو الكفر بعينه بكل القيم البشرية والإنسانية بأكملها».
“أتوافق يا كمال على أن يحكم مثل هذا الشعب مثل هذه الحيوانات الكاسرة التي نزعت من قلوبها الرحمة. تعصب أعمي لا يرى إلا في القتل والتهديد وسيلة لكل شيء وبأمر من ظل الله على الأرض سيد قطب، وهل هذا هو حكم الله؟
“إن الله بريء من القتلة والسفاحين.
” لماذا أنت عاتب إذن؟ أليس عتبي عليك أكثر وأعظم؟ أليس من حقي وأنا بشر ولست نبيا ولا أدعي أنني أوتيت من الحكمة كلها أو بعضها، أليس من حقي أن أصاب بصدمة حين أجد أن هذا هو أسلوب تفكيرك الجديد وهذا ما يقره ضميرك، وهذا ما تراه حقًا؟».
ثم يصور عبد الحكيم عامر نفسه وهو يواجه زميله وصديقه كمال الدين حسين باعتقاده في ضعف أمله في أن يستمع إليه ، ومع هذا فهو يقول له إنه لا يزال حريصا عليه ، وأن حرصه هذا هو الذي جعله يمنع عنه الناس حتى لا يتصلوا به لكي لا يؤذيه هذا الاتصال، وإذن فهو لا ينكر أنه أقام من نفسه قيما على صديقه ولكنه فيما يصفه بأنه صدق شديد ، يفسر له أنه يفعل ذلك من منطق الحب، وهو فيما يبدو حب بلا أمل، كما تقول الرسالة نفسها:
“إنني يا كمال كما تعرف لا أخاف أحدًا ولا أخشى إلا الله وضميري، ولولا سفري لفرنسا لجابهتك بهذه الحقائق مع ضعف أملي أنك ستستمع لما أقوله وتقتنع بالحقائق الملموسة، إننا لم نمنع الناس عنك إلا خوفا عليك.. وخوفا على الناس ألا تنتهي المأساة البشرية التي كانت تعمل على ثلاثة عشر عامًا”.
“أرجو أن تصفو إلى نفسك وتفكر في هذه الآراء وتطرح المسائل الصغيرة جانبا، وطبعًا أنت حر في أن تأخذ بها أو تلقيها في عرض البحر ولكن لي الحق أن أكتب إليك ناصحا بأمانة وصدق كما كتبت إليّ لائما وناصحا”.
“ربما تذكر أنك كنت في الحكم وجميع السلطات في يدك سياسية وتنفيذية، وهذه حقيقة وكنت حر التصرف، وهذه حقيقة أيضًا ، ولم يحدث طوال هذه الفترة أن اختلفت على المبادئ التي نثور عليها الآن بل كنت متحمسا لها وكنت أشد تطرفا، هذه حقيقة أيضًا ربما تذكر القوانين الاشتراكية سنة 1961 والآراء التي أبديتها أنت شخصيا في الاجتماع بالإسكندرية، وكنت يا كمال متطرفا لحد كبير ومتحمسا للقوانين أشد التحمس.. حقيقة أيضًا».
“ماذا تغير إذن بعد ذلك حتى تتحول هذا التحول المفاجئ المتطرف أيضًا، وفجأة يصبح كل شيء خطأ وتصبح الحريات مغتالة على حد تعبيرك الذي لم أهضمه مطلقا.. فجأة حدث كل ذلك.. ما الذي غير أفكارك بهذه السرعة الكبيرة.. ما الذي أخل [بتوازنك] لهذه الدرجة .. حتى تنقلب أفكارك فجأة».
وتصل رسالة المشير عبد الحكيم عامر إلى جملة لا يكتبها إلا يساري متمرس على توجيه التهم بسرعة وقسوة، ولا يجد عبد الحكيم أي حرج في أن يتهم صديقه كمال الدين حسين بأنه يعطل عقله عن المناقشة، وينبهه عبد الحكيم إلى أن تطبيق أي نظام يحتاج إلى إعادة التقييم.. وعند هذه النقطة يبدأ عبد الحكيم عامر يصور نفسه في موقع الناصح الذي يتولى توجيه النصائح القاسية إلى كمال الدين حسين بأن يتقي الله في نفسه وفي شعب مصر وفي حياة الناس وأرزاقهم.
ويقرن المشير عبد الحكيم عامر هذه النصائح بقوله إنه كان مترددًا في أن يكتب لكمال الدين حسين لأنه يعرف ما وصل إليه من رأي، ولكنه مع هذا ” تنازل” و فضل أن يكتب إليه ويقول:
“.. ولكنك يا كمال أصبحت دكتاتورًا تريد فرض رأيك فحسب».
”لقد تناقشنا أكثر من مرة في أفكارك وتطارحنا الحجج والبراهين.. وصدقني والله ما وجدت في آرائك التي أصر على أنها ظهرت فجأة شيئا منطقيا أو سليما.. وجدت لديك إصرارا غريبا وعقلك يرفض أن يناقش.. بل تصميما فقط على ما أنت فيه».
“إن تطبيق أي نظام في حكم الشعوب يحتاج منا جميعا لإعادة النظر في خطواتنا من حين لآخر، فجل من لا يخطئ».
المشير عامر يصفه بالدكتاتورية
ثم يصل المشير عبد الحكيم عامرإلى أن يصف صديقه بالدكتاتورية :
“وأظن ألا تعتبر نفسك معصوما من الخطأ.. ولا أظن أن يصل بك الأمر إلى هذا الحد.. ولكن كل الشواهد تدل على غير ذلك.. فأنت تريد فرض رأيك، ورأيك أنت فقط في نظرك الصحيح، وهذه هي الدكتاتورية في أعنف مظاهرها يا كمال.. وهذا هو قتل الحريات وضربها ضربة قاصمة».
“كل منا يرى عيوب غيره، وحبذا لو فكر في عيوب نفسه.. لماذا لا تحاول أن تجابه نفسك وتعرف عيوبك كما تبحث عن عيوب الآخرين وتبالغ فيها إلى أقصي الحدود.. إن فعلت أو حاولت بالنسبة لنفسك يكون حكمك على الأمور أقرب إلى الصواب ولا تختلط الأمور في ذهنك هذا الاختلاط الفظيع».
ثم إن عبد الحكيم يصل إلى أقصى ما يمكن من اتهامات الأصدقاء المقربين لبعضهم بعضا، حيث يذهب إلى أن حالة صديقه كمال الدين حسين النفسية هي التي أثرت عليه، و يصحب هذا أن يصل عبد الحكيم عامر إلى أن يتبادل المواقع مع صديقه كمال الدين حسين فيصبح هو من يدعوه إلى تقوى الله في نهاية رسالته؛ على نحو ما كان كمال الدين حسين قد بدأ رسالته بدعوة عبد الحكيم إلى تقوى الله… وهو يصل في تعميق هذا المعنى وتقمص أدبياته إلى أن يقول:
“لا تجعل حالتك النفسية تؤثر على تفكيرك..».
“ولا تجعل لكلام من حولك قدسية.. وهم في كلامهم معك في قرارة أنفسهم يعملون طلبا للنفوذ وطلبا للسطوة وللشهرة.. وعندي على ذلك أمثلة كثيرة واقعية، أمثلة حية غير مبنية على استنتاج أو على كلام الغير».
“إذا فكرت جيدا وحللت كل شيء لنفسك بصراحة ووضوح ستجد أنني كنت خير ناصح حتى ممن تظن أنهم أقرب وأخلص الناس إليك، وأعود مرة أخرى وأقول كيف تتصور أن تولد الحرية في ظل الدماء والخراب.. وأن يكون لفئة من الناس أن يتكلموا ويفعلوا باسم الله مفوضين منه.. [يفعلون] ما شاءوا.. هل هذه هي الحرية.. هل هذا هو طريق الحرية أو الديمقراطية»؟
“أقول بدوري يا كمال اتق الله في نفسك.. اتق الله في شعب مصر.. اتق الله في حياة الناس وأرزاقهم.. ولا تظلم نفسك ولا تظلم الناس معك.. لقد حاولت جهدي أن أشرح لك الحقيقة وإن كانت مرة، ولكنك دفعتني إلى ذلك دفعا..
“وأقول وأنا مرتاح الضمير إنني أديت الأمانة.. ولعلك ترى الأمور على حقيقتها بعيدا عن المؤثرات التي وقعت [فيها] فترة من الزمن، وإن حدث ذلك كان نصرا عظيما لك على نفسك وكان نعمة وبركة من الله للجميع».
“وقد ترددت أن أكتب خوفا أن تكون قد سددت أذنيك لا تريد أن تسمع أحدا إلا إذا حدثك على هواك وعلى ما تحب.. ولكنني قررت أن أرد عليك قدر جهدي ومناقشة الموضوعات التي أثرتها ليست صعبة.. فقد ناقشتها معك مرارا وما اقتنع أحد من الذين ليس لهم غرض بما تقول يا كمال..
“والسلام عليكم ورحمة الله».
ثم إن عبد الحكيم بعد كل هذا الذي وجهه إلى صديقه في الفقرة الأخيرة لا يجد أي حرج (بل يجد الفرصة) في أن يكتب لكمال الدين حسين في نهاية الخطاب ملحوظتين ينبهه فيهما بشدة إلى أهمية أن يتسق مرة مع التاريخ ومرة أخرى مع الواقع وهاتان الملحوظتان:
٠ ملاحظة: إنني أخشى حكم التاريخ عليك أن يقول كمال حسين انقلب على الحكم متبنيا أفكارا جديدة لأنه ابتعد عن السلطة التنفيذية والسلطات التي يمارسها.
٠ ملاحظة: كتبت إليك هذا لتعرف الجانب الآخر من الصورة التي قد تكون تاهت عنك وسط خضم المتكلمين والمحدثين، وإني أكتب لك ما أعتقده وعن صدق والحديث طويل ولا يتسع له حتى هذه الصفحات القليلة ولكن لعل الله يجمع ما تفرق ويهدي ويرتق الصدع .
إنه على كل شيء قدير.
عبد الحكيم عامر
4/ 11/ 1965
المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها