اللائكتاتورية أو العلمانية في صيغتها الفرنسية

تواجه فرنسا موجة غضب عربية وإسلامية جراء تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تسيء للنبي محمد
تواجه فرنسا موجة غضب عربية وإسلامية جراء تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تسيء للنبي محمد

تاريخ فرنسا الصراعي بين الحروب الدينية ودستور رجال الدين المدني والذي كانت تقرضه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمواطن منذ 1789 ومقدمات الدساتير الفرنسية انتهاء باتفاق لشبونة.

في تعريفها اللغوي الأول تكون اللائكية أوالعلمانية: مبدأ فصل الدين عن الدولة، أي فصل المجتمع المدني عن المجتمع الديني، حيث لا تمارس الدولة أي سلطة دينية ولا الكنيسة أي سلطة مدنية.
لكنها تصبح في تعريف آخر: مبدأ إنسانيا يؤسس لنظام للحريات والحقوق الإنسانية في تجرد للسلطة المدنية الديموقراطية والخالي من أي تدخل ديني. فيصير من واجبات دولة الحق ضمان مبادئ المساواة والتضامن والازدهار بين مواطنيها عن طريق نشر المعرفة وممارسة حرية الضمير. هنا يحدث بعض الخلط حيث تصير اللائكية/ العلمانية في فهوم البعض تعبيرا عن الإلحاد أو اللأدرية أو اللادينية في عموميتها، فنخرج من واجب تجرد الدولة إزاء معتقدات مواطنيها إلى ممارسة نوع من التفتيش فيها.
فإذا كانت العلمانية ليست وحدة متجانسة في تعريفاتها فإنها  ليست كذلك أكثر في تطبيقاتها العملية. فمثلا يختلف التمثل العلماني للدولة الفرنسية عن جارتيها البلجيكية والإنجليزية.

 

ففي بلجيكا مثلا، حيث تتجذر ثقافة فرونكوفونية أيضا إلى جوار الفلامانية والألمانية، تكمن علمانية الدولة في تجردها وحيادها ومع ذلك فهي تعترف بمعتقدات وديانات مواطنيها والمقيمين فيها بل وتسهر على تنظيم سيرها وتمويلها أيضا.

أما في الحالة الإنجليزية، فإن توضيحا دلاليا يفرض نفسه أولا حيث يستعمل مصطلح” ” Secularism بدل
La laicité “”   الشائعة في الأدبيات الفرنسية ومعقل المفهوم ذاته، والذي يأخذ أساساته من فلسفة جون لوك  John Lock ، حيث يقر هذا المذهب أن الدولة تنتمي لمجموع الشعب وليس لأعضاء “عقيدة” معينة؛ مما يسمح لها أن تأخذ بعين الاعتبار التنوعات القصوى للسياقات الاجتماعية-القانونية  للمجتمع.
فتغطي العلمانية بذلك الوقائع التجريبية والمتعددة الأشكال على حسب الانفلاتات التاريخية والتوافقات التي وضعت الأطر المؤسساتية الفريدة التي ربطت حسب أنماط مختلفة مبدأ حرية الضمير بمبدأ اللاتمييز الديني.
أما اللائكية/ العلمانية في صيغتها الفرنسية والتي تهمنا هنا، فإن الديمقراطية الفرنسية في مستواها المفاهيمي تضمن تعددية المعتقدات الدينية وممارسة التعبد.

اليوم ومع بروز الإسلام خاصة كثانى ديانة في فرنسا من خلال مواطنين و/أو مقيمين مسلمين، فقد بدأت العديد من الأصوات العلمانية المتطرفة  تجهر بضروة تحيين هذا القانون وإعادة التفكير فيه وتعديله أيضا

لكن علمانية الجمهورية تحبسها في الفضاء المدني/ الخاص وتحتفظ في المجال العام بـ”مواطنة” في منتهى التجرد ترفض وبقوة كل أشكال الفكرة “الطائفية”.

وطبعا تاريخ فرنسا الصراعي بين الحروب الدينية ودستور رجال الدين المدني و الذي كانت تقرضه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمواطن منذ 1789 ومقدمات الدساتير الفرنسية انتهاء باتفاق لشبونة للحقوق الأساسية الأوربية والتي تعرج كلها على هذا الحق الأساسي الذي تلخصه المادة 18 من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في صيغته الحالية: “لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة”.

فقد انتهى المطاف بالجمهورية العلمانية الفرنسية إلى الاهتداء إلى قانون للعلمانية فيه الكثير من التسامح والمشهور بقانون 09/12/1905 بعد الشحن المجتمعي الذي خلقه القانون الذي سبقه بأربع سنوات سنة 1901.
بموجب هذا القانون الذي يعتبر معبد الجمهورية العلمانية، تم  تضمين حرية ممارسة التعبد، لكن دون الاعتراف ولا التمويل ولا التوظيف.
أما اليوم ومع بروز الإسلام خاصة كثانى ديانة في فرنسا من خلال مواطنين أو مقيمين مسلمين، فقد بدأت العديد من الأصوات العلمانية المتطرفة تجهر بضروة تحيين هذا القانون وإعادة التفكير فيه وتعديله أيضا.

حتى صار هذا الخطاب مؤسساتيا مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وزيرا للداخلية سنة 2003، حيث أثار جدل الهوية الفرنسية والإشارات الدينية في المجال العام والمدارس والهيئة الإسلامية المحاورة والممثلة للمسلمين. كما أن قانون 1905 نفسه ترك فراغات قانونية تخص بناء المساجد مثلا  و تفتح المجال للتمويلات الخارجية.

انتهى المطاف بالجمهورية العلمانية الفرنسية إلى الاهتداء إلى قانون للعلمانية فيه الكثير من التسامح والمشهور بقانون 09/12/1905 بعد الشحن المجتمعي الذي خلقه القانون الذي سبقه بأربع سنوات سنة 1901

أيضا الإشكال أن العلمانية الفرنسية تنقسم لواحدة قانونية يمثلها قانون 1905 وهي الواضحة وأخرى علمانية  دستورية في دستوري 1946 و 1958 أقل وضوحا مع تراتبية تقوي الدستوري مقابل القانوني، بالإضافة إلى التمثلات العلمانية في التطبيقات العملية وقد كنا شهداء قبل أسابيع كيف أن وجود طالبة نقابية في مجلس الشيوخ الفرنسي تمثل طلبة جامعة السوربون بحجابها، قد أحدث زلزالا سياسيا وإعلاميا سببه مجموعة من النواب بانسحابهم من جلسة الاستماع إليها.
وجود هذه الفتاة في الفضاء العام وفي أعلى مراتب الاندماج المجتمعي وحده كفيل بزلزلة المخيال العلماني الفرنسي الذي يحرم الفضاء العام على كل مظاهر التدين والتعبد وإشاراتهما في حين أن وجود العلمانية نفسه حيث تتجرد الدولة من تحيزاتها في حيادية يعلله وجود مواطنين ذاتيين في تمثلات تدينهم أو لادينيتهم، ومن هنا تصير الصيغة العلمانية الفرنسية في المجال العام عبارة عن لائكتاتورية: Une laictature تجمع بين اللائكية والديكتاتورية حيث لا يقبل معها  اجتهاد ولا مرونة ولا تطور إلا حين يأتي على مساحة ما فيها من تسامح.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها


إعلان