أصبح -وأضحى وأمسى وبات إن شئت- الحديث عن فيروس كورونا ملء السمع والبصر، تنقل وكالات الأنباء العالمية منها والمحلية أنباء المصابين والمفقودين جراء كورونا، إغلاق حدود ومجالات جوية، تعليق دراسة، وفرض حجر صحي، ونصائح مفادها “وليسعك بيتك”، ونداء مؤذنٍ “الصلاة في بيوتكم”، وهرج ومرج في الكوكب الذي لا حول له ولا قوة أمام فيروس لا يُرى بالعين المجردة.
سمعت الكلام ولزمت بيتي، أو بالأحرى غرفتي، وسعدت سعادةً تنافس سعادة الطلاب في فرنسا والأردن والمغرب وقطر والكويت ساعة سماعهم تعليق الدراسة، لم أفرح فرحي الأصيل بتعليق الدراسة في أم الدنيا، وأرجوك ألا تتهمني بتدني هرمون الوطنية وتراخي الروح المعنوية؛ فأنا مصريٌّ حتى الثمالة، وأذوب في هواها ذوبان قيس في حب ليلى العامرية.
بل إنني أعشقها عشقًا لم يخطر ببال بدر شاكر السياب يوم قال (الشمس أجمل في بلادي من سواها/ والظلام.. حتى الظلام هناك أجمل)، ولم أشارك أقراني –سأعد نفسي شابًا وليسمحوا لي وإن كنت أكبُرهم بعشرات السنين- من طلاب المدارس والجامعات لسبب بسيط، تأجلت الدراسة يوم الخميس الماضي جراء “عاصفة التنين”، ولم تكن الفرحة عارمة، كانت فرحة منقوصة، ثم عُلّقت لأسبوعين فقط!
قلت لنفسي: “تقعد في البيت أسبوعين أفضل من لا شيء”، وفجأة وعينك ما تشوف إلا النور، لكن الكهربا قطعت، ولم أجد فرصة للإمساك بكتاب، قلت “كده أحسن.. نشاهد فيلم بقى حتى يعود التيار”، ولفني حنين إلى مشاهدة فيلم قديم، مش قديم قوي، مرت عليه سنوات عشر.. ليس إلا! لا أدري مبعث مشاهدتي لفيلم “The Perfect Host 2010″، ولم يدر بخلدي أن يكون (كوفيد-19) المضيف المثالي لسنة 2020، وتابعت الفيلم والدنيا “خِرمس”، والشوارع “اسكُت.. هُس”، وباغتني سؤال “يا ترى فيه إنَّ في موضوع كورونا ده؟ يكونش كلام الصينيين صح، ويكون الأمريكان خلَّقوا الفيروس لينكدوا على الصين؟ كلام معقول لكن فين البراهين والدلائل والقرائن اللي تؤكده؟”، وحدثتني نفسي بصرامة “ركز بقى في الفيلم وافصل شويه”، وما كان عليَّ إلا مسايرتها والاكتفاء بالمشاهدة.
في الفيلم، يحاول الشاب الثلاثيني، جون تيلور، أن يهرب بعد عملية سطو نفذها على بنكٍ ما، وتقوده الصدفة النكدة إلى منزل يعيش فيه رجل بمفرده، ادعى تيلور أنه يعرف (جوليا) صديقة صاحب المنزل، واريك ويلسون، وأنها نصحته بطلب مساعدة واريك. يرتبك واريك لكنه لا يقوى على إغضاب جوليا، ويوافق على استضافة تيلور ويحسن إليه.
تتطور الأحداث بسرعة تضاهي تفشي كورونا في أرجاء الأرض، ويكشّر تيلور على أنيابه لمضيفه المضطرب المتردد واريك، ويظهر لنا أن تيلور سيدير المنزل وفق قوانينه الخاصة، وأنه انفرد بهذا المعتوه المدعو واريك. تنقلب الأحداث دون سابق إنذار، ويمسك واريك بالدفة ويتلاعب بضيفه، يؤديه جسديًّا ومعنويًّا وبطرق عدة، لدرجة لم يتصورها تيلور، حتى إنه يتوسل إلى واريك أن يرحمه.
يُطلق واريك سراحه بعد أن يكشف له ورقة، لم تكن هناك جوليا من الأساس، واريك يكتب لنفسه خطابات بأسماء وهمية، ويضعها في صندوق بريده من وقت لآخر، وبها يصيد المتطفلين والمتناصحين. كانت صدمة قاسية للشاب المتهور، خرج من بيت كاد يلقى فيه حتفه، نجا بأعجوبة من قبضة واريك المختل نفسيًا وعصبيًا، وعليه الآن أن يتدبر أمره وأن يبحث عن سيمون دي مارش. لقد ألقى نفسه في المهالك ليدبر مبلغًا من المال، يريد لحبيبته سيمون أن تخضع لعملية جراحية تُنهي من خلالها ألمًا يُلِحّ على أمعائها، يريد أن يعيشا آمنين ماديًّا وصحيًّا.
بعد تمنُّع شديد، وافقت سيمون أن يسرق تيلور بنكًا تعمل فيه، لكن لكلّ منا خططه الخاصة، اكتشف أنها من أبلغت عنه، وأنها سرقت المبلغ لصالحها وتكتّمت على الأمر، نسي حبها وقرر أن يتتبعها ويقتنص المال، وبالفعل تمكن منها وأخذ المال، لكنه أنكد حظًا من خليفة حفتر وأبي القاسم الطنبوري، إذ تتبعه الضابط لسبب يختلف عن الإيقاع بالمجرمين، قبض الضابط على حقيبة الدولارات، وأطلق سراح تيلور، كان الضابط يدعى واريك نيلسون؛ إنه الذي استضاف تيلور وعذّبه الليلة الماضية!
وأنا أشاهد الفيلم -طبعًا أنت لم تنسَّ أن النور قاطع- ويدوب شاشة اللاب توب تُريك أطراف أصابعك، لكنني سمعت أصواتًا من حولي، لم تكن موسيقى الفيلم التصويرية، ولا أصواتًا عادية أو حتى قريبة من لغة الشارع، كانت أصواتًا خمسة ميزتها بعد مجهودٍ قاسٍ من المتابعة والتركيز. كانوا يتباحثون في مغزى الفيلم، أعجبني كلامهم ولم أحاول مقاطعتهم، عصرت ذهني لأتذكر كل كلمةٍ قالوها.
حديثهم ذكرني بالندوات الأكاديمية “سيمينار Seminar”، قال أحدهم: “إن هذا الفيلم ليس جديدًا، أنا كتبت عنه من قبل”، لقد استرعى كلام هذا الرجل انتباهي، وخشيت أن يقول إنهم سرقوا فكرته، لكن جُلاسه كانوا ألمعيين، لم ينساقوا وراء وصلة الردح الصيني الأمريكي حول مبعث كورونا، سألوه في نفسٍ واحد “ما دليلك؟ اثبت لنا حتى نتيقن”. أجابهم بثقة واقتدار “حسنًا! سأخبركم بالقصة من طأطأ لمحطة حلوان، إنني دونت قصة رجلٍ نزل بأرضٍ يقطنها شخصٌ يقال له سِرْحان بن هزلة، أراد الغريب أن ترعى أغنامه في منطقة سِرحان؛ فنزل بغنمه دون أن يحسب حساباته، ومن حسب الحسابات في الهنا بات، لكن صاحبنا لم يكثرت”.
وواصل المدوّن إياه “هُب ويا الله! جاء سِرحان، وكان فاتكًا جبارًا، تنفات له بلاد وعباد، وخلّص على صاحبنا المستهتر، وبدلًا من أن يكون عشب أرض سِرحان أكلة شهية للأغنام، أمسى صاحب الأغنام لقمة سائغة في فم سرحان”. نظروا إلى بعضهم وقد زالت عن وجوههم روعة حبكة الفيلم، وأعجبتهم قصة المدوّن الغريب، وسأله أحدهم “الاسم بالخير يا طيّب؟”، ومن ردّه عرفت أن اسمه (ابن الأعرابي)، وقال له آخر: وهل لخبر سرحان هذا تتمة؟ قال: إي وربي!
واستطرد ابن الأعرابي: لقد هزّه الشِّعر فقال أبياتًا بعدما قتل صاحب الأغنام، فيه قوله (أبلغ نصيحة أن راعي أهلها/سقطَ العشاءُ به على سرحان/سقطَ العشاءُ به على متقمِّرٍ/طَلْقِ اليدينِ مُعاودٍ لطِعانِ)، والسِّرْحَانُ في اللغة هو الذِّئْبُ، والمُقْتَمِرُ الأسد، من يومها -يا سادة- ونحن نقول (سقط العشاءُ به على سِرْحَان) مثلًا نضربه في حق كل من استخف بآخر، أو استحقر شيئًا فكانت فيه مهلكته.
وكان بينهم مهتمٌ بالتوثيق؛ فصدّق مقالة ابن الأعرابي، وقال: هكذا وردتنا القصة من طرقٍ شتى، قرأتها في مجمع الأمثال للميداني، و”المستقصى في أمثال العرب” للزمخشري، و”نهاية الأرب في فنون الأدب” للنويري. كان جون تيلور ونظيره القديم كاشاة تبحث عن سكين جزار، وكثيرًا ما نرى من يتناصح حتى يُجدع أنفه، (كناطِحٍ صخرةً يومًا ليوهنها/ فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل).
عجبت لحديثهم، وكيف ربطوا بين الفيلم وبين قصتهم، وقبل أن أفيق من سكرتي تناول آخر طرف الحديث، نقل الحوار نقلة نوعية، قال بصوتٍ أجش اختلط بسعالٍ متواصل -وكأنما تمكن منه (كوفيد-19)- فلا يكاد يُبين، ومع ذلك آثر أن يشارك في الحديث. “حسبه صيدًا فكان له قيدًا” قالها ثلاثًا ثم زادت وتيرة سعاله، ولم نحتج إلى تفسير، إنه يقصد أن جون تيلور حسب صاحب المنزل صيدًا ثمينًا؛ فكان العكس تمامًا.
ولمَّا كان مثله لا يتطلب شرحًا، ارتأى أن يتحفنا بآخر؛ فقطع سعاله للحظات قال فيها “تحسبها حمقاء وهي باخس”، قالها وعاودته نوبة السعال؛ فغطيت وجهي بواقٍ طبي سميك، وطهَّرت يديّ بمطهرٍ كحولي، وحرصت أن أسمع تعليقهم على هذه الحمقاء، وأن أفهم مبرر الزَّج بها في موضوع يدور بين رجلين؛ الضيف تيلور والمضيف واريك.
ويا لخجلي من نفسي! لقد ربط الرجل مع سعاله المتواصل ووجهه المحموم ربطًا غاب عني بالكليَّة، إذ فهمت من حديثهم أنه قصد الشابة الحسناء سيمون!
وبدت نظرتهم الثاقبة، إذ إن المأسوف على شبابه تيلور خُدِعَ مرتين، الأولى والأعمق أثرًا من سيمون، والثانية من المضيف (الضابط لاحقًا) واريك، ومبعث خيبة تيلور الأشد أنه ظن سيمون فتاةً ساذجةً وقعت في شباكه، واستسلمت لمعسول كلامه، لكنها باغتته بما أخفته، وقد استخدمته وسيلةً لسرقة البنك، فما أتعسك يا تيلور! مهدور الكرامة في الداخل والخارج، وفي الوقت نفسه تتوهم نفسك الأسد الهادر والسبع الكاسر.
لم يهدأ صاحبنا الموثِّق حتى استولى على الكلمة، وقال بنرة خطابية: أنتم لم تشرحوا المثل، لكن لا بأس، ما دمت بينكم فلا خوفٌ عليكم من سوء فهم أو التباس معلومة. قالها وهو يدير عينيه فيهم، لكنه لم ينظر إليَّ كأنني من بينهم كنت شفافًا! ولم يترك لهم مجالًا للرد أو التعقيب، وواصل وأنفاسه تتلاحق خشية أن يقاطعوا تدفق فكرته: الباخس أيّ الظالم، ومنه قول الله تعالى (وشروه بثمنٍ بخسٍ)، ولهذا المثل قصةٌ تنطبق على حال سيمون مع تيلور الموكوس.
من دون أن يبتلع ريقه، قال: كان في بني العنبر رجلٌ، جاورته امرأة حسناء ممشوقة القوام، بمؤهلاتٍ عالية، فحسبها حمقاء لا تعقل شيئًا ولا تعرف من الدنيا إلا المانيكير والبديكير، وأن بمقدوره أن يأكل بعقلها ملبن وأن يستحوذ على مالها وذهبها، وشاركها في مشروعٍ ما، وفهمت مراده فنكدت عليه حياته حتى أخذت مالها، بل وتفاديًا للمشاكل دفع إليها من خالص ماله حتى تكفّ عنه؛ فلما عوتب في خداع امرأة، تنهد وقال: “تحسبها حمقاء وهي باخس”.
فهمتُ للتو فقط أنهم يخلعون هذا المثل على من يتباله وفيه دهاء، وكم كانت الشقراء سيمون داهية إذ خدعت تيلور، وكم من متلونٍ يخدع لا محبيه أو ضيوفه، بل يخدع شعبًا بأسره، أو أمةً بأكملها؛ فـ (يعطيك من طرف اللسان حلاوة/ ويروغ منك كما يروغ الثعلب).
كنت أود أن أدلي بدلوي في حديثهم الماتع، لكن من أين لي بحديثٍ يجاري حديثهم، وحمدت الله أن عاد التيار، وغابوا عن عيني فجأة مثلما نزلوا عليَّ ضيوفًا، وإني لأرجو أن يجمعني بهم مجلس أو سيمينار، لعلَّني أفيد من سجالاتهم أو أنقلها لمن يفيد منها.
المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها