شهور قليلة وتكمل الحملة العسكرية على الإرهاب في سيناء عامها السابع، لست هنا بصدد التكلم عن أحداث الحملة العسكرية والانتهاكات والجرائم التي ارتكبت أثناءها بحق المدنيين، ولست بصدد التحدث عن الاستراتيجية الأمنية المتبعة ومدى نجاعتها، ولكن أحببت أن أسلط الضوء على مأساة من نوع أخر لا يتحدث عنها أحد.
في الوقت الذي كانت تغطي فيه وسائل الإعلام عمليات التهجير القسري في سوريا وبورما وبعض المناطق حول العالم، كانت عمليات التهجير القسري المباشرة وغير المباشرة بحق سكان سيناء تتم بشكل ممنهج وسريع وفي صمت امتدت من شرقها في مدينة رفح حتى غربها في مدينة بئر العبد.
يمكن أن نقسم المهجرين من سيناء إلي ثلاثة أقسام ، القسم الأول من تم تهجيرهم رسميا وباعتراف الدولة وهم سكان المنطقة العازلة التي تشمل مدينة رفح وبعض القرى التابعة لها بعمق 5 كم داخل سيناء تحت ذريعة غلق الأنفاق ومنع تدفق السلاح والإرهابين من غزة إلي سيناء ، والقسم الثاني سكان بعض القرى خارج المنطقة العازلة مثل سكان قرى الشيخ زويد وبعض قري العريش وبئر العبد وهؤلاء نزحوا بسبب الاشتباكات والحملات الشبه يومية علي قراهم أو بسبب انتشار الأكمنة التي تحتاج الي حرم لا يقل عن 2 كم حولها ومن يسكن بالقرب منها معرض للقتل في أي لحظة ، أما القسم الثالث فهم الذين فضلوا ترك سيناء خوفا من الاعتقالات العشوائية وعمليات التعذيب في المقار الامنية والعسكرية أو بسبب قلة فرص العمل وتوقف أغلب الأعمال
وفقا لأخر إحصائية نشرتها البوابة الرسمية لمحافظة شمال سيناء عام 2013 م بلغ سكان مدينة رفح والقرى التابعة لها 72 ألف نسمة، وبلغ عدد سكان قرى مدينة الشيخ زويد فقط أكثر من 31 ألف نسمة، وعدد سكان قرى مدينة العريش أكثر من 4000 نسمة، ضف عليهم القسم الثالث من المهجرين الذين لا توجد إحصائية بعددهم، فيمكننا أن نقول إننا الأن أمام أكثر من 100 ألف مهجر أغلبهم تم تهجيرهم خارج شمال سيناء الي محافظات الدلتا، فما مصير هؤلاء؟!
يعيش هؤلاء النازحون ظروف معيشية صعبة للغاية فقد تركوا بيوتهم وأراضيهم ومصادر رزقهم ووجدوا انفسهم أمام حياة جديدة وتحد جديد وبيئة جديدة ومطلوب منهم الاعتماد على أنفسهم وعدم انتظار أي نوع من أنواع الدعم من الدولة ، خصوصا أن اكثر من 80 % منهم لم يحصلوا على تعويض مادي من الدولة ومن حصل على تعويض لم يستطع بناء بيت أو شراء أرض لفرق سعر متر الأراضي بين سيناء والدلتا ، أضف إلى ذلك قلة فرص العمل والحالة الاقتصادية التي تمر بها مصر بشكل عام ، وما يزيد من صعوبة هذه الظروف هو أن عدداً كبيراً من هؤلاء المهجرين هم من الأيتام والأرامل الذين فقدوا من يعولهم نتيجة الحملة العسكرية .
أختار أغلب النازحين الاستقرار في محافظات يمكن أن يجدوا فيها أسعار مناسبة لشراء أراض وبناء منازل بسيطة يستقروا فيها بأسرهم، فأختار أغلبهم بعض المناطق النائية في محافظات الشرقية والاسماعيلية والبحيرة وبدأوا في تعمير المنطقة والعمل في مجال الزراعة وبعض الأعمال التجارية البسيطة.
ولكن كان للسلطات رأي أخر فقامت أكثر من مرة بهدم بعض المنازل في بعض المناطق بحجة أنها أراض زراعية ممنوع البناء عليها، وتجاهلوا تماما روح القانون غير مكترثين تماما بالظروف التي دفعت هؤلاء للمجيء الي هذه المناطق رخيصة الثمن ومحاولة العيش بأقل الإمكانيات، وعندما حاول عدد ممن نال حظا من التعليم فتح فصول لتعليم الاطفال في محاولة للتغلب على مشكلة عدم وجود مدارس والتسرب المدرسي، أغلقتها السلطات فورا بحجة ان الصور التي تم نشرها على وسائل التواصل لهذه الفصول تسئ الي الدولة.
حتى أهم الأحلام التي دفعت المهجرين لترك منازلهم وأراضيهم من أجله وهو البحث عن الأمان لهم ولأسرهم والابتعاد عن المناطق التي تكثر فيها عمليات الاعتقال والاحتجاز في المقار العسكرية والشرطية اكتشفوا أنه مجرد حلم، فالتجمعات في الأماكن التي ذكرناها أصبحت هدف شبي يومي للحملات الامنية ويتم خلالها عمليات اعتقال واحتجاز في مقرات أمن الدولة وبعض المقرات العسكرية مثل معسكر الجلاء في الإسماعيلية.
ولم يسلم المهجرون حتى أثناء سيرهم على الطرق والتنقل بين المراكز والمحافظات المصرية المختلفة، فمحل الاقامة كفيل بان يعرضك للاعتقال والحجز للتحري بالأيام، فغالبا بمجرد أن يعرف رجال الشرطة أنك من شمال سيناء لا تسمع إلا كلمة “انزل يا عرايشي”، ونتيجة لذلك قرر عدد كبير من المهجرين تغيير محل الإقامة ولكن من نجح منهم في تغيير الإقامة لم يستطع الفرار من كود 34 في الرقم القومي وهو الكود الذي يبين أنك من محافظة شمال سيناء ولا يتغير بتغير محل الإقامة.
أسوأ ما يواجه المهجرين هو رحيل عدد كبير من المناديب السيئي السمعة معهم إلى الدلتا واستمرارهم في الأعمال القذرة التي كانوا يمارسونها في سيناء أثناء مرافقتهم لقوات الجيش والشرطة في الحملات ومقار الاحتجاز، فتسببوا في اعتقال وإخفاء العديد من المهجرين في محافظات الدلتا وفيما بعد يعرضون على أهالي المعتقلين دفع مال في مقابل الإفراج عن أبنائهم، وشارك في هذه الأعمال القذرة أبناء أحد المقربين الذي يرافق السيسي في مؤتمراته.
وكان على المهجرين أن يواجهوا تحديا من نوع أخر ليس بهين وهو عنصرية بعض سكان الدلتا، فتعامل بعض أبناء المحافظات الأخرى مع المهجرين لا يمكن وصفه بأنه تعامل أخ مع أخيه او تعامل أبناء وطن واحد، فقرر كثير منهم عدم تأجير شقق ومنازل للمهجرين والنظر إليهم نظرة احتقار ودونية متأثرين بالدعاية الإعلامية التي لم تتوقف منذ عقود.
تمر السنة وراء السنة والثابت الوحيد عند أغلب المهجرين هو الحنين إلي سيناء ودعاء الله عز وجل بتعجيل رجوعهم إليها. وتعج وسائل التواصل الاجتماعي بعبارات الحنين وصور مناطق مختلفة من سيناء كلٌ علي حسب مكانه ، ولكنهم ينظرون إلي مساحة الأراضي التي استقطعوها لدفن موتاهم في غربتهم فيجدوها تزداد شهرا بعد شهر وتدفن فيها أحلام الحالمين بالعودة ، فهل سيكون مصير المهجرين من سيناء نفس مصير الهنود الحمر أم أن أبناء شبه الجزيرة سيعودون يوما إلي الأرض التي تشتاق إليهم ويشتاقون إليها وتعرفهم ويعرفونها ؟! .
المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها