١٣ سببا ليسقط حكم العسكر (٤)

يواجه الجيش المصري تحديات جسيمة في سيناء ويفقد مزيدًا من الجنود
يواجه الجيش المصري تحديات جسيمة في سيناء ويفقد مزيدًا من الجنود

إن الشخص السياسي الذي تقلد المناصب المتنوعة ومارس أمور السياسة من خلال حياة ديموقراطية تتوفر فيها التعددية السياسية سيكون الأكثر مناسبة لإدارة البلد.

السبب الثالث: أزمة الوعي بمفهوم الدولة الشامل!

قيادة أي دولة معاصرة أمر يتطلب استيعابا تاما لمفهوم الدولة الحديثة ولكيفية إدارة هذا الكيان الضخم المعقد الكثير التفاصيل!

وبجانب الدراسة الأكاديمية لعلوم الإدارة؛ فإن كل مدير يفهم الإدارة عادة بالممارسة ووفقا لبيئات العمل التي قضى فيها وقته وعاش تفاصيلها، فسيختلف القائد صاحب الخلفية القانونية عن الطبيب عن المهندس عن التاجر وهكذا، ولكن يظل المشترك في كل هؤلاء هو: تعاملهم المستمر مع المدنيين (وهم أغلبية الدولة الساحقة)
تنوع بيئات وأماكن عملهم (التنقل بين المؤسسات الوظيفية المختلفة).

 

وببساطة فإن هذين  الأمرين السابقين ينتفيان تماما في تجربة الفرد العسكري، فهذا العسكري قد تعامل في بيئة واحدة طوال فترة عمله وفق نظام إداري ثابت تحكمه طريقة فكرية (ميري) واحدة مهما تغير محل عمله، وبالتالي فمفهومه عن إدارة الدولة سيتبلور وفق مفهومه عن إدارة الثكنة التي قضى فيها جل حياته. وكل ما في الأمر هو أنه سيتخيل أن الدولة أكبر حجما من الثكنة وأن هذا هو الفرق الوحيد!

بطبيعة الحال إذا ومن منظور الوعي بمفهوم الدولة الشامل، فإن الشخص السياسي الذي تقلد المناصب المتنوعة ومارس أمور السياسة من خلال حياة ديموقراطية تتوفر فيها التعددية السياسية سيكون الأكثر مناسبة لإدارة البلد، ووفقا للنقطتين السابقيتن فإن المدنيين غير السياسيين سيحلون في المرتبة الثانية بينما سيحل العسكر في المرتبة الأخيرة قطعا!

الوعي بمفهوم الدولة الشامل أمر شديد الأهمية والحساسية، فهو الذي يؤهل القائد لأمور نذكر منها التالي:
المرونة في استيعاب الأفكار والتوجهات المتختلفة له، وإيمانه بأن الإختلاف قوة وليس ضعفا!
استيعاب السلطات الأخرى الموازية له والموجودة في الدولة، وإيمانه بأن الحياة المدنية لا تسمح بالحكم المطلق للفرد.
احترامه للقانون المدني والإنصياع له وإن اختلف معه، وإيمانه بأنه لا يجوز تطويع القانون ليوافق فكره.
تفهم قيم الحرية والمواطنة والكرامة الإنسانية، وإيمانه بأهمية التعددية السياسية.
تفهمه لعوامل بناء الدولة الحديثة واحترام الديموقراطية والتعددية السياسية.

 الشخص السياسي الذي تقلد المناصب المتنوعة ومارس أمور السياسة من خلال حياة ديموقراطية تتوفر فيها التعددية السياسية سيكون الأكثر مناسبة لإدارة البلد

يخسر العسكر حتما إذا نظرنا في النقاط السابقة، فالعسكري لم يعتد أن يختلف مع رأيه أحد من مرؤوسيه خلال فترة إدارته لثكنته العسكرية! ولا يعرف للمرونة معنى، فهو يفرض رأيه عادة بما له من سلطات واسعة بحكم القوانين العسكرية الصارمة، تلك القوانين التي تجعل منه معتادا على أن يكون هو السلطة المطلقة والوحيدة! .. تلك البيئة العسكرية تجعل من وعيه بقيم الحرية والمواطنة والكرامة الإنسانية والتعددية والديموقراطية شيئا مختلفا عن غيره ممن عاش في بيئات وظروف مغايرة.
يفاجأ العسكر عند السيطرة على الحكم بأن الشعب يحتاج لطريقة إدارة مختلفة عن التي كانوا يعاملون بها جنودهم داخل الثكنات، هذا الاختلاف الكبير وهذه المفاجأة تتطلب منهم حلا من إثنين، إما أن يغير العسكري من طريقته في الإدارة التي اعتاد عليها لعقود طويلة وهو أمر شديد الصعوبة وفقا لطبيعة البشر، وإما أن يحول العسكر الوطن إلى ثكنة!

من الواضح إن الطريقة الثانية هي التي تتم في النهاية، والدليل على ذلك أن العسكر يتوسعون في تعيين العسكريين في مختلف الوظائف المدنية لأنهم يشاركونهم نفس مفهوم إدارة الثكنة! ثم يزيح العسكر بعد ذلك أي مسؤول يحاول الإعتراض على تلك الطريقة في الإدارة والنتيجة تكون في النهاية أن يتوغل العسكر في الحياة المدنية متجاوزين أصحاب الكفاءات.

العسكري لم يعتد أن يختلف مع رأيه أحد من مرؤوسيه خلال فترة إدارته لثكنته العسكرية! ولا يعرف للمرونة معنى، فهو يفرض رأيه عادة بما له من سلطات واسعة بحكم القوانين العسكرية الصارمة، تلك القوانين التي تجعل منه معتادا على أن يكون هو السلطة المطلقة والوحيدة!

 

فترى العسكر ينتشرون في إدارة المحافظات والمدن، ويديرون الإنشاءات والمشروعات السكنية، ويشرفون على المشروعات الصناعية، ويأخذون الصفقات التجارية بالأمر المباشر، ويوسّعون من سلطات القضاء العسكري، ويتجاوزون دراسات الجدوى الآتية من المتخصصين، ويحاولون اخضاع المؤسسات الدينية، ويشرفون على الإعلام بل ويشاركون فيه، ويقومون بإدارة الأراضي الزراعية والمستشفيات والنوادي ومحطات الطاقة .. إنهم يتوغلون في كل شيء وأي شيء وكأنهم يحيطون علما بكل الأمور بينا العكس هو الصحيح، وكلما زادت مدة حكم العسكر، كان التوغل أوسع والتشوه في بنية الوطن أشدّ!.
إن العسكر لا يفهمون الوطن المتنوع الكبير فيقومون بمحاولة تصغير الوطن ليكون ثكنة يفهمون كيف يديرونها! يتجاوزون الكفاءات وينشؤون المؤسسات العسكرية الموازية، ويقتلون فرص تطور المؤسسات المدنية للدولة بقفزهم عليها وتقويضهم لها عوضا عن تطويرها وتنميتها! وما لا تتسع عقولهم لفهمه هو أن الدول تنهض بالكفاءات لا بالثقات، وبتطوير المؤسسات لا بتهميشها، وبتقديم أهل الخبرة وليس بإهمال دراسات الجدوى.

إن العسكر لا يفهمون الوطن المتنوع الكبير فيقومون بمحاولة تصغير الوطن ليكون ثكنة يفهمون كيف يديرونها!

وأنه مهما توغل العسكر في الحياة المدنية فإنهم لن يعوا كل شيء بل وسيأخذ كل هذا من طاقاتهم ومقدرتهم على الإضطلاع بواجبهم الرئيسي في حماية الوطن والإنتباه للحدود .. فتكون النتيجة النهائية بعد كل هذا –وفقا للتاريخ- هو وقوع النكسات العسكرية والسياسية، فيفشل العسكر في الداخل والخارج  بينما هم –ولضيق أفقهم ومحدودية  تجاربهم  يحسبون أنهم يحسنون صنعا!
الخلاصة هي أنه من العسير أن يستوعب العسكر الدولة بمفهومها الشامل الواسع وإذا وصل العسكري للحكم فإنه يحاول تشكيل الدولة بقوته الغاشمة لتناسب هيئة ثكنة عسكرية كبيرة.

والنتيجة هي أن يتسلط على من تحته ويزيح السلطات الأخرى الموازية له ويدمر كل من يخالفه، ويغيّر الدساتير والقوانين لتضمن بقاءه وفرض سيطرته، ويفرض قوانين الطوارئ للأبد، ويُفرض قيم الحرية وغيرها على الناس وفق مفهومه الميري، وينشر العسكريين في الوظائف المدنية.

في النهاية يصيب العسكر الدولة بالتشوه الجسيم، فالدولة لا يناسبها أن تُحكم أبدا بطريقة حكم الثكنة العسكرية، ولم ينجح مدني واحد –للأسف- في إقناع العقلية العسكرية بهذه الحقيقة الجلية على مر التاريخ، فلا بديل إذا عن إزاحة العسكر عن السياسة حماية للوطن من التشوه وصون لفرصه في التطور من الضياع!

الحلقات السابقة

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها


إعلان