في أوقات ضعفنا، نميل إلى التقوقع على أنفسنا، متجنبين التحدث إلى الآخرين أو الانخراط في التفاعلات اليومية، متخذين ركناً معيناً محراباً نمارس عنده طقوس الضغف والحزن. وهذا في حد ذاته أمر طبيعي، فالإنسان أضعف مما نعتقد، وأقوى مما نتخيل في الوقت ذاته. وهذا الانعزال لا يكون إلا لحظة انشغال المرء بذاته، ساكِباً جُل اهتمامه وعنايته على نفسه، مُعاتِباً القدر مرةً، ولاعناً سوء الحظ مراتٍ، داعياً الله أن يرأف بهِ حيناً، وساخِطاً على نفسهِ أحياناً أخرى.
إلا أن الكثيرين مِنَّا قد لا يخطر ببالهم أن لحظات الضعف هذه تستوجب من الآخرين –كالعائلة أو الأصدقاء- أن تأخذها على محمل الجد، وأن تنظر إليها بعينِ المُشفقِ أو الداعِم، لا بعين المُستهتر أو المستهزئ والمستخف. فالحاصل في كثير من الأحيان استهتارنا بمن يمرون بلحظاتِ ضعف، فلا نجد بُدَّا من الاستخفاف بمشاعرهم لمجرد أننا قد مررنا بالموقف ذاتهِ، ولم نقابله بردة الفعل ذاتها، بل كنا أقوياء واستطعنا أن نتجاوز الموقف دون أن نذرف دمعةً واحدة، أو دون الانغلاق على أنفسنا.
ومِنّا من يتفهم هذه اللحظات، ويدرك بأن من يمرون بهِا هُم في أمس الحاجة إلى من يحنو عليهم ويأخذ بأيديهم، ويقول لهم “نحن بجانبك”. إلا أن هؤلاء الفئة من الأصدقاء أو العائلة قد يرتكبون خطئاً فادحاً، رغم حُسن نواياهم وصفاء سريرتهم. وهذا الخطأ –اللامقصود أو اللاواعي- قد يتسبب في استثارة مشاعر السخط لدى من يمرون بلحظاتِ الضعف.
يُطلق على هذا المتكلم اسم “المتكلم النرجسي”، وهو الشخص الذي يقوم بتحويل بوصلة الاهتمام والانتباه لتكون تجاهه
يتمثل هذا الخطأ اللامقصود في تحويل “المركزية” ونقطة “الانتباه” من (المتألم) إلى (المتكلم). و(المتكلم) هنا هو الشخص الذي يتحدث إلى من يمر بلحظة الضعف (المتألم)، بحيث لا يغدو المتألم في الحوار الناشيء هو الشخصية الرئيسة، بل المتكلم. وذلك لأن المتكلم قد سحب البساط من أسفل المتألم، وجعل نفسه النقطة المركزية والموضوع الرئيس، واستبعد بذلك المتألم كلياً من الحوار.
فبدلاً من دعم المتألم فيما يقوله، من خلال الاستماع إليه والتضامن معه، يقوم المتكلم بالتلاعب بالحوار بجعل كل قضية أو نقطة يتم التطرق إليها خاصة به وعنه. مما يجعل المتألم يشعر كأن لا صوت له، فقد غاب عن المشهد بشكلٍ كامل، وهو المشهد الذي يمُرُ هو به، المشهد الذي آلمهُ هو! فيجوب في خاطر المتألم عندها سؤالٌ مفاده “أين أنا من هذا كله؟ لماذا تم استبعادي من الحوار؟”.
وفيما يلي أمثلة على هذا النوع من الأخطاء التي قد نقع بها عند حديثنا مع أحد المتألمين:
· المتألم: لا أصدق بأن أبي توفى، التفكير في هذا الأمر يوجع قلبي ويصيبني بالجنون.
· المتكلم: وأنا أيضاً قد مات والدي عندما كنت صغيراً. لك أن تتخيل كيف عشتُ هذه السنين دون أبٍ!
أو
· المتألم: أشعر بالإحباط، لم أعد أثق بأحد على الإطلاق. لقد وعدني مراتٍ عديدة، وفي كل مرة يخلف وعده.
· المتكلم: لقد مررت بهذا الموقف من قبل، وكنت أقطع علاقتي بمن يخلف وعده على الفور.
في المثالين السابقين، نلحظ كيف تم تحويل الحوار من التركيز على المتألم، إلى التركيز على المتكلم. وهذا يحدث لا إرادياً في أحيانٍ كثيرة، فالقصد من هذا “التحويل” قد يكون عن حُسن نية. فقد يكون مقصود المتكلم في المثالين السابقين أن يخبر المتألم بأننا جميعاً معرضون لجرعاتٍ من الألم والحزن. والواقع أن هذا خطأ فادح كما أفاد عدد من علماء النفس والاجتماع.
يُطلق على هذا المتكلم اسم “المتكلم النرجسي”، وهو الشخص الذي يقوم بتحويل بوصلة الاهتمام والانتباه لتكون تجاهه. والنرجسي هو الشخص المحب لذاته، الأناني والمغرور والمُتعالي الذي يرى نفسه الأهم. ومصطلح النرجسية التخاطبية قام بصكه عالم الاجتماع تشارلز ديربر.
فالحاصل، أننا في بعض المواقف لا نُحسن التصرف، أو أننا نجهل ما يتوجب فعله أو قوله، خصوصاً في المواقف التي نشعر فيها بعدم الراحة لما حدثَ للمقربين منا، فكونهم يتألمون أمامنا أو يشعرون بالحزن هو في حد ذاته يؤثر فينا، فلا يجعلنا نشعر بالراحة. وبالتالي، نميل إلى جعل الموقف أقلَّ حدةٍ وذلك عن طريق تحويل الحوار والبدء في التحدث عن أنفسنا وتجاربنا الخاصة. وبالتالي، نقل محور الحوار من المتألم إلى المتكلم. وهذا ما لا يتوجب فعله!
وفي هذا الصدد، تقول سيليست هيدلي مؤلفة كتاب بأن “النرجسية التحادثية لا تتمحور دائماً حول الذات، على الرغم من أنها قد تبدو كذلك. والحاصل أننا عند حصولنا على معلومات جديدة في أي وقتٍ، تبحث أدمغتنا عن تجارب مماثلة”. حيث “تحاول أدمغتنا مساعدتنا في وضع هذه المعلومات في السياق لمساعدتنا على فهمها، ومنحها تجارب مماثلة قد تساعدنا في الحصول على فهم أعمق”.
وتضيف هيدلي “إن النظر إلى تجاربنا الخاصة ليس بالأمر السيئ. في الواقع، يمكن أن يساعدنا على فهم أفضل لما يمر به أحبائنا”. ولكن يتوجب عليك “استخدام هذا الفهم العميق للاستماع بشكل أفضل”. وذلك لأن المتألم لا يريد أن يسمع عن تجاربك الشخصية في وقت محنته هذه، بل هو في حاجة إلى من يستمع إليه.
أما استجابة الدعم، فهي الاستجابة التي يُفهم منها أنك مهتمٌ بما يقوله المتألم
من جهته، فرَّق ديربر بين نوعين من الاستجابات في المواقف: الأولى وهي استجابة التحويل والثانية وهي استجابة الدعم. والمثالان السابقان كانا على استجابة التحويل. أما استجابة الدعم، فهي الاستجابة التي يُفهم منها أنك مهتمٌ بما يقوله المتألم، وتظهر فيها بأنك مستمعٌ جيد، مراعياً الاهتمام والانتباه اللازمين. كما أنها استجابة تظهر فيها بأنك تشجع المتألم على مواصلة حديثه.
وفيما يلي إعادة صياغة المثالين السابقين ليكونا من استجابة الدعم:
· المتألم: لا أصدق بأن أبي توفى، التفكير في هذا الأمر يوجع قلبي ويصيبني بالجنون.
· المتكلم: رحمة الله عليه. فَضفِض، قُل ما بداخلك يا صديقي.
و
· المتألم: أشعر بالإحباط، لم أعد أثق بأحد على الإطلاق. لقد وعدني مراتٍ عديدة، وفي كل مرة يخلف وعده.
· المتكلم: أخبريني ما الذي حدث؟