في الذكرى التاسعة والأربعين لاغتيالي، ولانشغال الفاشونستات والإنفلونسرز على منصات التواصل بالترويج لأطباقهم وماكياجهم، قررت أن أنفض عني تراب رمْسي وأن أتحدث باقتضاب عن محطات سريعة من حياتي، أنا غسان كنفاني.
البدايات الغضة والمأساة
ولدتُ بمدينة عكا، في التاسع من أبريل/نيسان 1936، مع بداية الثورة الفلسطينية العربية ضد القوات الصهيونية وسلطة الانتداب البريطاني، ودرستُ الابتدائية في إرسالية فرنسية بمسقط رأسي، ثم انتقلتُ والأسرة إلى يافا -حيث كان والدي يعمل محاميًا بها- فتابعتُ دراستي بمدرسة الفرير، غير أني لم أكمِل دراستي مع نكبة 1948.
وفق خطة التقسيم التي أعدتها الأمم المتحدة، كانت عكا من نصيب السكان العرب، لكنها وكغيرها من مدن وقرى فلسطين خضعت لاحتلال الصهاينة، وهُجِّر منها أهلها بالقوة الجسدية والنفسية، ونُفِّذت بحقهم جرائمُ بشعة، منها مذبحة (دير ياسين).
لعلكم لم تشهدوا، وربما لم تسمعوا بهذه المجزرة التي وقعت في 9 أبريل 1948، صادف ذلك عيد ميلادي الثاني عشر، ومنذ ذلك الحين لم أحتفل بهذه المناسبة مطلقًا! وفي النصف الأول من مايو/أيار، طُرِدت عائلتي من عكا وخرجت من أرضها وبلدها صفر اليدين، فرَّ وقتها نحو 800 ألف عربي من الإرهاب الصهيوني، تاركين عكا ويافا وحيفا واللِّد وغيرها. هُجِّرنا إلى قرية حدودية في لبنان تُدعى (الغازيَّة) أملًا في عودة قريبة، ومع الضغوط اضطرت العائلة إلى الانتقال مرة أخرى، هذه المرة إلى قرية جبلية في سوريا تُدعى (الزبداني).
عشنا حياة صعبة وضاغطة، جمعتُ وأخي عدنان الكتب القديمة وتاجرنا فيها لنوفّر حاجيات الأسرة الكبيرة، والمكونة من 8 أفراد، انضاف إلينا 8 آخرون يعيشون معنا، وكلنا في الهم سواء، وفي عامي السادس عشر شرعت في تعليم الأطفال بمدارس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا).
الرحلة في بلاد الله
تكالبت علينا الظروف في المنفى الإجباري بعيدًا عن “أرض البرتقال الحزين”، وأمطرتنا بوابل من الاختبارات القاسية وتكاثرت المحن بين أيدينا تكاثر الظباء على خراش، وبالرغم من ذلك لم نهمل -أنا وعدنان- دراستنا، بل التحقنا بمدرسة ليلية؛ فالنهار للكدح وتوفير النفقات والليل للدرس والتطلع لمستقبل نرجع فيه إلى أرضنا ومستقر أمرنا.
في دمشق، عملت في مطبعة لأغطي نفقاتي اليومية، وواصلتُ الدراسة العليا وخططتُ لنيل الإجازة في الأدب -قسم اللغة العربية- برسالة عنوانها “العِرق والدين في الأدب الصهيوني”، لكنني استُبعدتُ من الدراسة لأسباب سياسية، ثم عدتُ أدراجي -سنة 1959- إلى بيروت. قبل ذلك، وأنا ابن 13 ربيعًا، كانت أختي فايزة -أم لميس- قد حصلت على شهادة الثانوية، ثم انتقلت عام 1952 إلى الكويت للعمل بسلك التعليم.
وفي 1955 طلبت مني “حركة القوميين العرب” العمل في تحرير جريدتها (الرأي)، وفي العام نفسه انضممت إلى الحركة إلى أن صرت الناطق الرسمي باسم “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”. في العام التالي، التحقتُ بأختي فايزة وأخي غالي في الكويت، وهناك تعلقت بي ابنة أختي -لميس حسين نجم- تعلُّق الابنة بأبيها وكانت لها في قلبي منزلة لا مثيل لها، هي ابنة قلبي وأختي بعد أختي.
أقنعني الدكتور جورج حبش بالعودة إلى بيروت، عام 1960، وفي العام نفسه تعرفتُ إلى امرأة دنماركية -مهتمة بالقضية الفلسطينية- تدعى آني خلال زيارتها لبنان، حينها كنت أعمل -بالمجان- في المجلة الأسبوعية (الحرية) الناطقة باسم “حركة القوميين العرب”، ولاحقًا تزوجت تلك الدنماركية ورُزقت منها بأبنائي ليلى وفايز.
سنة 1962، انتهت إقامتي في لبنان ورفضت السلطات تجديد إقامتي، لم يكن معي جواز سفر ولا أوراق ثبوتية/رسمية، ما أجبرني على الاختفاء 6 أشهر، كتبت خلالها رواية “رجال في الشمس” وأهديتها إلى زوجتي.
في سبيل القضية
أنجبت ابني البكر -فايز- في 24 أغسطس/آب 1962، وفي العام التالي ترأستُ تحرير المجلة اليومية (المحرِّر) لخمس سنوات، كما عملتُ في مجلة (فلسطين) الأسبوعية، والتي مثّلت الجناح الفلسطيني في “حركة القوميين العرب”.
عام 1964، قررت الحركة الاستعداد للكفاح المسلح في فلسطين، وتأسست فرقتها المقاتلة الأولى، واستشهد عدد من منتسبيها، منهم خالد الحاج، وأهديتُه رواية “ما تبقى لكم”، وفي السنة التالية زرت الصين والهند بعد دعوة رسميّة، والتقيتُ وزير الخارجية الصيني ورئيس الوزراء الهندي وناقشتُ معهما القضية الفلسطينية، ثم زرتُ الصين مرة أخرى للمشاركة في مؤتمر “كُتَّاب آسيا وأفريقيا”.
قبل نكسة يونيو/حزيران 1967 بأسبوع واحد، توفيت والدتي فجأة في دمشق، إثر إصابتها بذبحة قلبية، وفي خريف العام ذاته انضممتُ إلى هيئة تحرير جريدة (الأنوار)، وكان لي فيها عمود يومي باسم (أنوار على الأحداث)، وأصبحتُ رئيس تحرير ملحقها الأسبوعي، لكنني قررتُ الانسحاب من (الأنوار)، وأن أكون في (الهدف)، تلك المجلة السياسية الأسبوعية.
وسُجنتُ بعد مقالة كتبتُها في (الهدف)، في نوفمبر/تشرين الثاني 1971، وأنا على رأس تحرير المجلة حينها، وفي السجن كتبتُ رواية طويلة غير مكتملة تدعى (العاشق)، كنت أنوي أن أنتهي من كتابتها صيف 1972، لكنما سبقتني يد القدر. سنة 1970، وضعت روايتي “عائد إلى حيفا” والتي تعد آخر أعمالي الأدبية، لي كذلك رواية أخرى لم تكتمل، اسمها “برقوق نيسان”.
وكنتُ قد كتبتُ رواية “أم سعد” بعد انقطاع دام 3 سنوات عن الكتابة الأدبية، ولأنني أؤمن أن الحقوق لا توهب وإنما تُنتزع، فإن ذلك ينسحب عندي على مجالات الحياة كافة، لا أستثني من ذلك الكتابة الأدبية، الكتاب جب أن يقدِّم نفسه من دون معرِّف أو شفيع، ولهذا فكنت أنفر من التوسل بنجوم الكتابة لترويج كتاباتي أو التترّس بالإهداء لبلوغ مسامع القراء وعيونهم، إذ إن العمل الجيد يفرض نفسه ولو بعد حين.
مأخذي على الإهداء الأدبي
أخذتُ بيني وبين نفسي على الأديب المصري يحيى حقي كتابته المقدمة لمؤلفات عدد من الشباب، وقد علّل ذلك بتشجيعهم وحثهم على مواصلة الكتابة، في حين اتهمه بعض النقاد بالتساهل مع هؤلاء الوافدين الجدد إلى دنيا الأدب، أما أنا فأتحاشى هذا الطريق بالكليّة، وكتابتي “أدفعها لتشق طريقها -إن استطاعت أن تهتدي إلى أول الطريق بنفسها- دون شفاعة ودون وساطة ودون جواز مرور”، وأرود مناطق لم يفلحها غيري أو يحفل بها.
كتبت مدة باسم مستعار “فارس فارس” وكذلك “أبو العز”، وكنت أعشق الخيول وأرسمها، وأسستُ -بشهادة المختصين- للأدب الفلسطيني بعد النكبة، وتناولت الآخر عبر دراسة الأدب الصهيوني، نشرت “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة” عام 1965، وعرَّفتُ الساحة الأدبية بعدد من سفراء فلسطين على الساحة الأدبية مثل محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد.
وفي مقدمةٍ كتبها الدكتور يوسف إدريس للمجلد الثاني لمجمل أعمالي (صدر عام 1973، دار الطليعة)، قال إدريس “إن كل كلمة أقرأها هنا ليست مجرد كلمة مأخوذة من لغة، إنها كلمةٌ ذات ثمن، كلمةٌ لها رصيد، أغلى أنواع الرصيد؛ حياة كاتبها”، وهذا القول لم يزايل الحقيقة قيد أنملة؛ فما خرج من دفقات النفس والشعور يصل للمتلقي ويؤثر فيه، أما ما يخرج باهتًا باردًا لا يُعمِّر قليلًا ولا كثيرًا.
الفصل الأخير
عندما فكرنا في لفت أنظار العالم إلى قضيتنا، قررنا تنفيذ عمليات خارجية منها خطف الطائرات بتخطيط الدكتور وديع حداد وفرقته ودور ليلى خالد البطولي، وفي 6 سبتمبر/أيلول 1970، اختطفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 3 طائرات، أقلعت من ألمانيا وسويسرا وهولندا متجهة إلى نيويورك بالولايات المتحدة، وحوَّل الخاطفون اتجاه طائرتين إلى الأردن، والثالثة إلى القاهرة وبعد إطلاق ركابها فجروها.
بعدها، نشرت صحف عالمية أخبارًا ملفقة عن تورطي في هجوم اللِّد، وانتهزت تل أبيب الفرصة لتزيحني من طريقها. من الغريب أنني كنت أنفي فكرة أن يغتالوني، كنت أقول لمن حولي أنا مجرد مقاتل بالكلمة، صحفي ليس إلا! لم أتمسك أو أحفل بالإجراءات الاحترازية من الصهاينة، كان التخفي والحذر من دأب الأمير الأحمر، علي حسن سلامة، ولكنه استُشهد بعدي بنحو 7 سنين، ولا ينفع حذرٌ من قدر.
يوم الجمعة 7 يوليو/تموز 1972، اصطحبتُ أسرتي إلى شاطئ بيروت، كانوا 8 أشخاص في السيارة، وكأنني دون أن أدري كنت أودّع أهلي وأحبتي، بعدها بأقل من 24 ساعة وتحديدًا في الثامنة صباحًا، فجَّر الصهاينة سيارتي في مربع الفاكهاني، استهدفوني بعبوة ناسفة وزنها 5 كيلوغرامات، كانت لميس يومها ابنة 16 ربيعًا، وقد وصلت بيروت قبل أسبوع قادمة من الكويت مع أمها وأبيها وإخوتها، وسأوصلها في طريقي إلى مكان ما.
في ذلك الصباح، خرجتُ ولميس ثم لحقتني ابنتي ليلى، سألتني أن آخذها معي لأشتري لها شيكولاتة، لكنني اعتذرت لانشغالي وارتباطي بموعد عمل، ولحسن حظي وحظها وجدت في جيبي لوحًا كنت أحتفظ به، لمعت عيناها حين رأته ثم قبَّلتها وطلبت منها الرجوع إلى المنزل، لمحتُها بطرف عيني لم تنتظر حتى تدخل البيت، وجلست على الدرج لتأكل الشيكولاتة وإني لأشفق عليها مما حدث حينها! بعد ثوانٍ سمعتْ ليلى -وفايز والدنيا كلها- دوي انفجار أودى بحياتي وحياة لميس، وهذه سُنة الصهاينة في التعامل معنا؛ تهجير وتصفية جسدية واستماتة في وأد قضيتنا.
فجروني بالديناميت، كنتُ -بالنسبة للصهاينة- أشبه بالجبل، والجبل لا يفجِّره إلا الديناميت، بدأتْ حياتي الأدبية بكتاب صغير أهديتُه إلى لميس، وانتهت حياتي معها، آه يا لميس! هي طالبة الطب التي لم يمهلها القدر لدخول الكلية أو معرفة نتيجة التنسيق! إن رثاءها حقٌ عليَّ بصورة لا تقل عن رثاء نزار قباني زوجته بلقيس، قتل الصهاينة لميس وقتل “الأعراب الرسولة”!
يقول سارتر “الحرية جوهر الوجود وشرط الفعل”، هذا ما كنت أتحرك لأجله ليل نهار، أن نقهر مخاوفنا ونتخلص من المحتل الصهيوني الذي اغتصب أرضنا وأحلامنا، ويسعدني أن أبناء وطني باقون على العهد، وإن خذلهم أبناء جِلدتهم، ولا بدَّ لليل أن ينجلي ولا بدَّ للقيد أن ينكسر، وسنعود إلى حيفا وسيزور الفرح يومًا أرض البرتقال الحزين.