مع تقدم الإنسان في العمر، تبدأ قناعاته الحقيقية وشبه النهائية في التشكل، ويصبح أقل مرونة بشأنها، لذلك يتجه دون إدراك منه إلى تجنب الدخول في أي حوارات وجودية تهدف إلى زعزعة معتقداته، واستبدالها بأخرى جديدة فيقل احتكاكه بالناس، ويستقر في نفسه قاعدة أصيلة بأن إرضاء الناس غاية لا تدرك، ومهما فعل وكيفما كان عمله وتوجهه ودرجة إتقانه ونجاحه وطريقة عيشه فإنه لا بد لك من منتقدين ومستهزئين وحاسدين.
لا يهدأ بال أكثر الناس حتى تسير مع الركب وتكون مثل الأغلبية الساحقة التميز ينبههم إلى عيوبهم والإصرار الذي يرونه في عينيك وتصرفاتك يذكرهم باليوم الذي استسلموا فيه لواقعهم وتخلوا فيه عن أحلامهم تماما كإخوة يوسف عليه السلام خطأه الوحيد أنه كان متميزا فكان مصيره الجب في قاع بئر عميق.
تجربة الرسول مع العزلة
تعد العزلة ملاذا للتخلص من أذى بعض البشر شريطة أن تكون جزئية باعتبار الإنسان كائنا اجتماعيا بطبعه كما أجمع على ذلك الفلاسفة، يتفاعل مع محيطه فيكسب ويعطي ويتطور، فالعزلة مصفاة للذهن من كل الشوائب تماما كجو صحراء في ليلة صيفية تهدينا أجمل منظر طبيعي، فتظهر لنا السماء سوداء متلألئة وكأنها بساط مخملي مرصع بأغلى الدرر. نجوم ترصع السماء بأبهى الحلل في صفاء وبهاء لا مثيل لهما.
سماء سوداء صافية مختلفة تماما عن سماء المدن الرمادي الملوث بالغبار الذي قد تشبه بالاختلاط ببعض انواع البشر، وهذا ما أكده حسن البنا في مقولته ”الصمت أصله الإعراض عن اللغو والجوع أصله التطوع بالصوم والسهر أصله قيام الليل والعزلة أصلها كف الأذى عن النفس ووجوب العناية به”.
وقد مر رسولنا الكريم بهذه التجربة مرات عدة عندما كان يذهب إلى غار حراء حيث كان يتعبد ويصقل قلبه، وينقي روحه، ويقترب من الحق جهده، ويبتعد عن الباطل وسعه. حتى وصل من الصفاء إلى مرتبة عالية انعكست فيها أشعة الغيوب على صفحته المجلوة، فأمسى أقرب إلى الملأ الأعلى، وخلوته -صلى الله عليه وسلم- كانت بمثابة سكن للروح ونور للقلب وسماع لصوت الحق الذي يصدح في صدره حتى يهيئ لما هو أسمى لنور النبوة بعيدًا عن أذى الكفار من قومه فكانت عزلته مصفاة له من كل الشوائب.
وقد روى عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال “يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء، تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت”، هنا يظهر جليا أن العافية تكمن في اعتزال الناس المؤدية والصمت من أجل فتح البصيرة وإعمال العقل.
من أحبك
دعك من أذى الناس، ابتسم في وجوههم، تفاديا لشرورهم واهتم لأمرك وإذا خاطبتهم فقل سلام كما قال المولى عز وجل في كتابه الكريم ”وَعِبَادُ الرحمن الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا”، وإذا مررت بهم مررت مرور الكرام خالطهم بحذر وقد أكد عمر بن الخطاب عن مخالطة الأجلاء والصالحين في قوله المعروف “اعتزل ما يؤذيك، وعليك بالخليل الصالح، وقلما تجده، وشاور في أمرك الذين يخافون الله”.
لا تأبه أبداً لما يظنه الناس عنك فمن أحبك قدّرك وفرح لفرحك وحزن لحزنك، إن أصبت شجّعك وإن أخطأت لم يجاملك، بل يحاول مساعدتك على تصويب خطئك، وأمّا من كرهك فغالباً ما يتحدث عنك ولا يتوقف عن الكلام، ليس لأنه يهتم لأمرك بل لتسلية نفسه أو لتسلية الغير أو لسد نقص في شخصيته، وهذا ما أكده علي الطنطاوي ”أيها الناس إن قطعة الذهب قد تسقط في الوحل فيصيبها الأذى ولكنها تبقى ذهباً والصفيح ليس كالذهب والشر ليس كالخير والليل الأسود البهيم ليس كالضحى المشرق المضيء”.