قديمًا، أطلق السوريون على شعبان -ثامن الشهور الهجرية- شهر (مليص)، بدعوى أن أيامه تمر سريعًا، وفي ليلة النصف منه يتناولون حلوى تسمى (المَحْيا)، ومن اسمها فإن الناس يتمنون أن يعيشوا حياة هانئة، وأن يستقبلوا شهر رمضان بصحة وعافية.
قبل أيام من رمضان، كان الدمشقيون يحرصون على زيارات أسرية (سيرانات) أو نزهات إلى الأماكن القريبة من دمشق، مثل الغوطة ومناطق الربوة، ونشدانًا لشيء من الخصوصية في الهواء الطلق، وضِعت حواجز قماشية (ملاءات) بين كل جماعة والتي حولها. في السيرانات، يتناولون أطعمة لا يحضرونها في رمضان، ليس لحرمانيتها، لكن لأنها تتطلب وقتًا طويلًا وإرهاقًا بدنيًا لا يناسب الصيام.
في التاسع والعشرين من شعبان، يرقب الناس هلال رمضان، وتُسمى هذه الليلة ليلة الرؤية، فإن ثبتت رؤية الهلال صلوا التراويح وتسحّروا وصاموا الشهر المبارك، وإلا أتموا شعبان ثلاثين يومًا، ويُسمى هذا اليوم بيوم الشك، وفي الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عِدة شعبان ثلاثين يومًا).
اليوم، قد لا يبدو ليلة الرؤية ذات وقع في نفوس كثيرين، والسبب أن إشعارات الهواتف الذكية والرسائل النصية تطلعك على الجديد، فلا تتجشم مشقة البحث والمتابعة، تصلك المعلومة من دار الإفتاء والمرصد الفلكي وغيرهما. لعل هذه الرفاهية التكنولوجية كتبت النهاية لأجواء من الترقب والمتعة، لم يكن ذلك في قطر عربي دون غيره، إنما امتدت لربوع العالم الإسلامي.
ما زلنا في الشام، إذ كان جبل قاسيون، وقلعة حلب، وقلاع حمص وحماة المرصد الرئيس لهلال رمضان بالبلاد، توقد القناديل في أسواق دمشق ومآذن جوامعها، لا سيّما مآذن الجامع الأموي، ويدور المنادون في الأحياء لإعلان الصيام، ويُنقل مدفع رمضان إلى ساحة المهاجرين -إحدى ضواحي دمشق، تقع في سفح جبل قاسيون- ليُطلق القذائف الخَلبية (الصوتية) لإثبات الشهر المبارك حتى منتصف الليل.
لا ينسى أهل الشام أحمد نعسان الأحدب، الرجل الذي اعتُمد عليه في رؤية هلال رمضان 30 عامًا، بدأت بخمسينيات القرن الماضي، وهو من سكان حماة، وفي الستينيات كتب جورج أبو عضل (صاحب مجلة الأسبوع العربي، كانت تصدر من بيروت) أن أعور في حماة يفطّر العالم الإسلامي! وصارت ضجة في الشام أيامًا، إلى أن كتب الباحث وليد قنباز لأبي عضل، طالبًا منه أن يزور حماة أو أن يرسل من يجري حوارًا مع هذا الأعور، وجاء المراسل ليفاجأ أن الأعور ليس بأعور ولا يحزنون، إنما هو صاخ سليم، وبهذا انتهت هذه البلبلة.
بعد صلاة تراويح أولى ليالي رمضان، ينطلق الناس إلى مجلس كبير الأسرة، وغالبا ما يكون إفطار اليوم الأول عند عميد العائلة، وإن اختلفت الأحوال الآن بدرجات متفاوتة، أثرت في ذلك الظروف السياسية وزلزال 6 فبراير/شباط الماضي وجملة من الأمور ذات الصلة..ومن الحجاز، ينقل لنا ابن بطوطة مظاهر استقبال الشهر الفضيل بقوله “وإذا أهلَّ هلال رمضان تضرب الطبول عند أمير مكة، ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل حتى يتلألأ الحرم نورًا، وتتفرق الأئمة فرقًا هي الشافعية والزيدية والحنفية والحنبلية، أما المالكية فيجتمعون على أربعة من القراء ويجتهد كل فريق في قراءة القرآن وإحياء ليالي رمضان”.
وإلى أرض الكنانة، إذ شهدت تنوعًا لافتًا في ليلة الرؤية، وتباينت باختلاف الحاكم، فمصر قبل الفاطميين تختلف عنها في وجوهم، وهي شيء آخر إبّان حكم المماليك، وأضيفت لها لمسات بعدهم..كان موكب الرؤية من المظاهر الأساسية، يتجمع المصريون أمام المحكمة الشرعية، وينتدب القاضي أناسًا يصعدون جبل المقطم لاستطلاع الهلال؛ فإذا أقروا برؤية الهلال واعتُمدت شهادتهم يكون شهر رمضان قد أثبِت، فلما دخل الفاطميون مصر، كان أول ما فعله جوهر الصقلي في رمضان أنه ألغى موكب الرؤية، وجاء ركوب الخليفة الفاطمي بدلًا منها. .يركب الخليفة الفاطمي في مواكب عدة، منها ركوب شهر رمضان، وهو الموكب الثاني وفق ما ذكره القلقشندي والمقريزي وغيرهما من المؤرخين، ويقوم ركوب شهر رمضان عند الشيعة مقام الرؤية عند السنة.
أخذ الفاطميون مسافة من الشعب، اعتمدت مواكبهم واحتفالاتهم على الأبهة والنخبة، للمصريين المشاهدة لا المشاركة، بلغة اليوم “لايك مش شير”، في حين اتسمت احتفالات المماليك بالاقتراب من المصريين، كانت احتفالات شعبية برعاية الدولة، وكان قاضي قضاة الشافعية المشرف الرسمي على احتفال موكب الرؤية.
أعاد المماليك الارتباط مع الخلافة العباسية، فاكتسبوا شرعية شكلية، وتقربوا إلى الشعب المصري بإعادة إحياء الأجواء الدينية، فأعادوا الاحتفال بموكب الرؤية، وقد وصفه ابن بطوطة إذ صادف يوم الرؤية زيارته عز الدين المليحي الشافعي قاضي أبيار (التابعة لمركز كفر الزيات بمحافظة الغربية حاليًا)، وأطلق عليه ابن بطوطة اسم “يوم الركبة”.
بعد المماليك، شملت ليلة الرؤية تشمل ثلاث فقرات؛ فقرة الخيالة، فقرة الصوفية، فقرة أصحاب المهن والحرفيين.
في القرن السابع عشر كانت مصر تحت الحكم العثماني، حينها زار الرحالة التركي أوليا جلبي القاهرة، ووثق رؤية هلال رمضان، وفي ذلك يقول “وإذا كانت ليلة الرؤية، اجتمع البك المحتسب والصوباشي (رئيس الشرطة) ومع كل منهما 500 رجل من أتباعه، فيذهبون إلى القلعة بعظمة ووقار واحتشام، وهم يدقون طبولهم، ويقابل المحتسب الباشا الذي يمنحه حزامًا من القصب وعمامة، ويطلب منه أن يسأل أرباب الشرع الرسولي المبين ومشايخ المذاهب الأربعة وسماحة قاضي العسكر عن رؤية هلال رمضان المبارك”.
ويضيف الرحالة التركي “يجري استعراض جنود الباشا في ميدان السراي بالقلعة، وبعدها تنزل المواكب في نظام محدد حتى تصل جامع محمود باشا وقت الغروب، فتقف المواكب وتكف موسيقاهم عن العزف. ويصلي البك المحتسب وبعض الضباط صلاة المغرب ويتأخرون قليلًا بالمسجد حتى يسدل الليل ستار الظلام، وتتجمع المواكب التي يديرها البك المحتسب، وإذا خرج المحتسب من الجامع وركب جواده، أطلقت الفرق العسكرية طلقة نارية دفعة واحدة، وكبّرت تكبيرة واحدة مدوّية وترددت أصداء عبارة (الله أكبر) في جميع أرجاء القاهرة. ثم سار الصوباشي ومعه 700 من رجاله المسلحين بالنبابيت، ونحو ألف من فرسان العربان و300 مشعل، ويخرج مئات العازفين والمطربين والرقاصين والمشعوذين في موكبهم الصاخب”.
تظل القاهرة في تلك الليلة ساطعة الأنوار حتى الفجر، يطوف بها الموكب الذي يضم تسعًا وعشرين طائفة وفق أوليا جلبي، ثم يأتي موكب الجيش ختامًا لمواكب ليلة الرؤية، وينتهي هذا الموكب عند سراي قاضي مصر، وبعد ترتيبات بروتوكولية تُطلق مدافع القلعة 40 أو 50 طلقة مدفع، وتُنار منارات 860 جامعًا بالقناديل.
في القرن التاسع عشر، كان استطلاع هلال شهر رمضان مصحوبًا بأجواءٍ خاصة، يتجمع أصحاب الحرف من جهات القاهرة الأربعة، ويسيرون في موكب عظيم، وتُعزف موسيقى وطنية، يحيط بالموكب عدد من الخيول والعساكر يتقدمهم الألاي المخصص لاحتفال الرؤية، والألاي فرقة في الجيش دون فرقة اللواء، وفق كتاب “رسالة لغوية عن الرتب والألقاب المصرية”.
يمر الموكب بشارع محمد علي والحلمية سوق السروجية والغورية، يتجمعون أمام المحكمة الشرعية أو بيت القاضي أو الساحة المواجهة للمسجد الجامع بالقاهرة. في المحكمة، يجلس حضرة شيخ القضاة وقاضي أفندي وكثير من مستخدمي المحكمة (موظفيها)، ثم يتقدم تسعة أشخاص إلى شيخ القضاة ليشهدوا برؤية الهلال، فيختار بعضهم للشهادة، ثم ينطلقون إلى جبل المقطم لاستطلاع الهلال؛ فإذا أقروا برؤية الهلال واعتُمدت شهادتهم يكون شهر رمضان قد أثبِت، ويرسل الخبر إلى المعيّة السنيّة.
بعد الرؤية، يهنئ الناس القاضي والمحتسب وكبار الشخصيات وصولًا إلى بيت الوالي بالقلعة، وفيه مدفع رمضان، وكان يسمى (الحاجة فاطمة)، وتُقبل وفود كبار المستخدمين إلى سرايا عابدين لتهنئة ولي النعم، وتزدان المساجد بالمصابيح والمآذن بالزينة والأنوار.ويرصد المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين في كتابه “المصريون المُحدَثون.. عادتهم وشمائلهم” مظاهر تبليغ الناس بعضهم بعضا في يوم الرؤية في مصر القديمة، فيقول “وتطوف الفِرق في أحياء القاهرة تهتف: (يا أتباع أفضل خلق الله! صوموا صوموا)، وإذا لم يروا القمر في تلك الليلة، يصرخ المنادي: (بُكرة شعبان، مفيش صيام، مفيش صيام)”.
ما يحدث في القاهرة يحدث في مديريات القطر كله، وقبل ذلك بأيام يستعد الناس لشهر رمضان بشراء الياميش والحلوى والمكسرات والقُلل القناوي والأباريق، ويتفق الأهالي مع بعض مشاهير القراء لإحياء ليالي الشهر الكريم، وفي المنادِر (جمع مندرة، وأصلها مناظر) والدوّار (يشبه المجلس في دول الخليج، مكان اجتماع الرجال في المناسبات)، يسهر كثيرون بين الاستماع إلى القرآن والخاطرة الدينية وبعض الحكايا الطريفة اللطيفة.
في كتابه (من فيض الكريم)، يرسم لنا يحيى حقي يوم الرؤية في المدينة بقوله “من الكنوز المغلقة عليها خزانتي هيهات للأيام أن تبددها هذا الشعور الذي كان يغمر قلبي وأنا صبي، حين تقدم علينا ليلة الرؤية مقدم حورية من الجنة في زي عروس يوم زفافها، نحس بأننا انتقلنا من ظلام إلى نور، من نجاسة إلى طُهر، نصبح في يوم ليس فيه للناس إلا سؤال يشغلهم عن كل هم آخر، أفطورٌ من غدٍ أم صيام؟”.
ويضيف صاحب القنديل “الانتباه مركزٌ على المحكمة الشرعية في سراي رياض باشا في شارع نور الظلام، حيث يجلس قاضي الإسلام، وعلى باب المحكمة خلقٌ غفير ستعلم نبأه بعد حين. ربما جاء خبرٌ من مرصد حلوان بثبوت رؤية هلال رمضان، إذن لا بدّ أن يتقدم للقاضي في تلك الليلة اثنان من المسلمين يزكيهما سرًا وعلنًا، ليشهد كلٌّ منهما أنه رأى هلال رمضان بعينه، شهد كلٌّ منهما أنه رأى في الأفق الغربي قُلامةَ ظُفر ليس في السماء كلها ما هو أرشقُ منها ولا أجمل، ويوقّع القاضي على المحضر، وتُدار أكواب الشربات على الحاضرين، وهم يتبادلون التهنئة، ثم يُعلن النبأ فيصيح الصبية على باب المحكمة: صيام صيام، بذا حكم قاضي الإسلام، ثم يبدأ موكب الرؤية”.
أما القاص المصري سعيد الكفراوي فيقول عن ليلة الرؤية والأجواء المصاحبة في القرية بقوله “رمضان القديم في الزمن القديم له في القلب محطاتٌ وحكاياتٌ لا تفنى، وملامح ثابتة مثل لون العين والبسمة المضيئة والحلم الذي لا ينقضي، أذكر أنني كنت أغادر قريتي طفلًا بلا حول لأشاهد ليلة الرؤية بالمركز”.
ويتابع صاحب (حكايات عن ناس طيبين) حديثه عن رمضان القرية “أدبُّ على تراب الجسر مثل جروٍ لأشاهدهم في المدينة أهل المهن يسيرون في صف ملون، يركبون عرباتٍ مزيّنة بالورد وأقمشة الحرير، يُنشدون أناشيد تصدح بالبهجة، ويرتلون -على إيقاع الدفوف والصاجات- أبياتًا من الشعر، وأنا وسط لمّة الناس أشب على قدميّ لأشاهد الاحتفال، والناس على الصفين لا يعرفون الألم حتى ينقضي النهار ويجيء الليل، فأعود ممتلئًا بما رأيت، كيف تضبط تلك اللحظة حيّة بقلبي؟”.
في السودان، عند ثبوت رؤية هلال رمضان تنطلق الزفة، وهي مسيرة لرجال الشرطة والجوقة الموسيقية، متبوعة بموكب الطرق الصوفية، وجملة من أبناء السودان، يجوبون الشوارع فرحًا بالقادم العزيز، أما في تونس فيقال (سيدي رمضان)، وفي آخر ليالي شعبان تخبز التونسيات أنواعًا من العجائن والحلويات الشرقية، ويتبادل الجيران هذه الحلوى ترحيبًا بالزائر الكريم، (سيدي رمضان).