صليت الفجر في المسجد، وجلست بين يدَي إمام المسجد الشيخ أبي أنس اليمني، أتلو عليه سورتَي الكهف ومريم، فقد اتفقت معه على أن نلتقي في صلاة فجر كل يوم جمعة؛ لكي أُسمّع عليه ما أحفظ من كتاب الله تعالى، وبعدما انتهيت من لقاء الشيخ خرجت من المسجد، وفي أثناء توجهي إلى البيت قررت عدم العودة والاستمرار في متابعة الطريق نحو كورنيش الدوحة، ولم تكن في بالي الجهة المراد التوجه إليها، فقد كان الهدف ساعتها عدم العودة إلى البيت، وقضاء هذه الفترة الصباحية خارجه لحين استيقاظ أسرتي، وفي أثناء سيري فكرت في الذهاب إلى منطقة سوق واقف التراثي، ذهبت إلى هناك فوجدت المكان مزدحمًا بالناس، وبأقفاص الطيور والحيوانات المتنوعة، ووجدت هذا الجزء من السوق التراثي تدب فيه الحياة، وتتشابك فيه أصوات البائعين مع صيحات الديوك، مع أصوات المشترين، فدخلت بين الناس مستكشفًا ومتسائلًا عن سر هذا الزحام، وعن هذا النشاط غير الطبيعي في السوق من حركة البيع والشراء، فعلمت أن هذا مزاد لبيع الطيور المنزلية من دجاج وبط وديوك رومية وعصافير وحمام إلخ، يقام صبيحة كل يوم جمعة من الساعة الخامسة إلى نحو التاسعة، ويمكن لأي شخص يريد بيع ما لديه من الطيور ومنتجاتها من البيض والفراخ التي يرّبيها في بيته أو مزرعته أن يعرضها للجمهور.
وسط الناس
المهم أنني دخلت وسط الناس، وسعدت بهذا الجمع الذي يتسم بالتلقائية والانسيابية والتعامل الإنساني، فتحركت حتى وقفت بجوار بائع للبط السوداني، واستمعت لمساومة الزبائن له في سعر، ثم التفتُّ يسارًا فوجدت أناسًا يمسكون بالدجاج قبل شرائه ليقدّروا وزنه، لأنه لا توجد موازين في هذا السوق! فالأمر قائم على البيع المباشر ومعاينة المشتري، فقلت في نفسي: ولماذا لا تشتري مثل الناس؟! قررت أن أشتري زوجين من البط أو الدجاج، ولكن تدخّل صوت العقل قائلًا: وهل أنت مستعد للذبح في البيت؟ فكانت الإجابة: لا، فصرفت النظر عن فكرة الشراء، لكنْ حسين البائع المصري الذي تعرفت عليه قاطعني قائلًا: يا أستاذ، توجد محلات للطيور في الدوحة تذبح لك البط، وتسلمك البطة (زي الفل)، ودلني على مكانها، وأخبرني أجرة الذبح والتنظيف.
وفي نهاية المطاف صرفت من رأسي فكرة الشراء والذبح، وواصلت أخذ جولة في السوق، ثم وجدت محلًا لبيع الفطائر الساخنة، فطلبت فطيرة باللبنة والزعتر، فقال لي العامل: تفضل اجلس حتى نجهزها لك. قلت له: جولة سريعة، ثم أعود لك. ذهبت في جولتي، ثم عدت إليه، تناولت الفطيرة وشربت كوبًا من (الكرك) -مشروب قطري محلي- ثم قررت مغادرة السوق والعودة إلى البيت، فقد استيقظت زوجتي واتصلت بي.
وفي أثناء مروري في السوق وجدت زحمة عند أحد البائعين في الطرف الشمالي من السوق، وجدته يبيع بيض دجاج منتج في بيته (بيض بلدي) منتج من دجاج مُربى في البيت، يتناول طعامًا محليًّا بعيدًا عن الأعلاف المصنعة التي يضاف إليها هرمونات لتسريع النمو والإخصاب، فقررت شراء طبق بيض من البائع، فهو سهل الحمل، وفرصة لتذوق نوع من البيض غير شائع، فالمبيع في السوق هو بيض دجاج المزارع.
طبق من البيض
في نهاية المطاف كان نصيبي من هذه الرحلة طبقًا من البيض، وقنطارًا كبيرًا من الفرح والسعادة، ثم تفكرت بعدما وصلت إلى البيت وتناولت الإفطار من هذا البيض الذي اشتريته، وسألت نفسي: لماذا غمرتني السعادة بعد عودتي من هذه الجولة الصباحية؟! وجدت أن تغييري لرتابة اليوم ونمطه، وخروجي إلى مكان جديد لا أعرفه، في توقيت غير مخطط له، رسم ضلعًا من مثلث السعادة في هذا اليوم، ووجدت أن دخولي في هذا التجمع الإنساني العفوي الذي يلتقي فيه البائعُ المشتريَ وجهًا لوجه من دون حواجز ولا وسائل إلكترونية، ويمكن فيه للمشتري أن يمسك بالسلعة ويقلّبها، ويساوم البائع في سعرها، قد حرك ذكريات الصبا في مصر، عندما كنت أسير في السوق الأسبوعي في بلدتي، الذي كان يُعقد كل يوم ثلاثاء، ويأتي إليه الناس من كل حدب وصوب من القرى المجاورة بمنتجاتهم المنزلية وما فيها من خيرات لبيعها، ثم يشترون بأثمانها ما يحتاجون إليه بقية الأسبوع من مواد غذائية وسلع، وهذا هو الضلع الثاني في مثلت السعادة.
وجدت الضلع الثالث الذي أكمل مثلث السعادة هذا اليوم ينبع من داخل طبق البيض الذي اشتريته، فقد وجدت فيه عدم اتساق بين أحجام البيض، فبيضة صغيرة الحجم وأخرى متوسطة وثالثة كبيرة، وهذا بطبيعة الحال أمر لا نجده الآن فيما يُسمى بيض المزارع، لأن البيض المنتج في بيوت المربين يأتي من دجاج يُربي بشكل طبيعي، من دون أعلاف وهرمونات، ويتغذى على الحبوب الطبيعية، وتتفاوت في بيوت المربين أعمار الدجاج المنتج للبيض وأنواعه، وهذا جعل أحجام البيض الذي اشتريته متفاوتة، وهذا المشهد لطبق البيض أشعرني بالطبيعة الأم قبل التدخل الإنسان فيها، وجعلني ألمس جانبًا من جمال الطبيعة في تنوعها واختلافها، قبل أن تعبث يد الإنسان بنمط حياة الدجاج وطبيعتها، وتحوُّله إلي ما يشبه ماكينات الإنتاج.
وفي الختام، يبدو لي أن السعادة غمرتني من هذه الجولة الصباحية حين لمست جانبًا من الاجتماع الإنساني العفوي والطبيعة الأم بعيدًا عن أجواء الحداثة والعولمة الغربية.