قررت السفر إلى الهند بلد العجائب لقضاء إجازة قصيرة؛ باحثًا عن الطمأنينة وشيء من السكنية وقليل من السلام النفسي، فذهبت إلى السفارة الهندية لاستخراج التأشيرة، وعندما دخلت مبنى السفارة شعرت بأنني هبطت وسط حي شعبي في العاصمة دلهي، أو نزلت في سوق شعبي في مدنية مومبابي، فالمكان يموج بالحركة والتدفق البشري، وعلى الرغم من ذلك فإن الأمور منظمة وتسير بيسر عجيب، فالكل ملتزم برقمه، والموظفون العاملون هناك تعلوهم سكنية ووقار.
جلست وسط الناس أنتظر دوري، وعندما جاء الموظف أخذ الأوراق ثم قال: سوف نتصل بك عندما تكون التأشيرة جاهزة، خرجت من السفارة، وبعدها بيومين اتصلوا وقالوا: تأشيرك جاهزة.
استلمت التأشيرة، ثم حجزت تذاكر الطيران، وقررت الذهاب إلى جنوب الهند، تحديدًا إلى ولاية كيرلا، وذلك لما سمعته عن جمال غاباتها البكر وأجوائها المعتدلة. ذهبت إلى المطار، وعندما هممت بركوب الطائرة استقبلتني المضيفة بالتحية الهندية مع ابتسامة جميلة، فخلق هذا الموقف في نفسي شعورًا بالراحة، ثم لاحظت في أثناء الرحلة أن كل المضيفات متسرولات! ويلبسن الزي الهندي المحتشم، وهذا المشهد أشعرني بتقدير كبير للشعب الهندي المنفتح على العالم والمعتز بتراثه.
في مطار كوتشي
هبطت الطائرة في مطار كوتشي، وعندما دخلت باحة المطار استقبلني فيل ضخم وأنيق، رأسه مكسوّ بالذهب، ومن فرط دقة نحته يحسبه الجاهل فيلًا حقًّا قد اقتحم المطار! وبعدما أخذت صورة تذكارية بجوار الفيل، تحركت نحو بوابات الدخول، فاستقبلني ضابط شاب، وطلب مني الجلوس على كرسيٍّ أمامه، حتى ينتهي من الإجراءات، وهذه أول مرة في حياتي أدخل مطارًا يقدم خدماته للزائرين وهم جالسون دون الحاجة للوقوف انتظارًا للحصول على ختم الدخول، وهذه اللفتة الإنسانية ألقت في نفسي نفحة من السكينة، ثم تحركت نحو الفندق في منطقة رائعة الجمال في كيرلا يُقال لها مونار هي عبارة عن مجموعة قُرى هادئة وجميلة، تقع على قرابة 3000 متر فوق سطح البحر، تتقاطع فيها أنهار ثلاثة، وتملؤها الغابات الاستوائية بخيرها الوفير من النباتات والطيور والحيوانات.
عندما سرت في أرجاء مونار سعدت بلقاء الفيلة والغزلان والأبقار، وعندما ذهبت إلى شلالاتها الصاخبة شاهدت الفراشات الجميلة تطير فوق رذاذ الماء الهابط من أعلى الجبل إلى شاطئ النهر، وعندما تعاملت مع أهلها وجدت منهم التواضع الجم، والهدوء المُفرح، والسكنية المُلهمة، حتى يُخيل إليك أنهم كانوا يرضعون هذه القيم مع حليب أمهاتهم الدافئ في الشتاء.
بعدما نزلت من جبال مونار إلى شوارعها، وجدت التناغم الإنساني المُبهر بين أهلها المُختلفين دينيًّا وعرقيًّا وثقافيًّا؛ فهناك المآذن تصدح بالأذان كل يوم خمس مرات، والكنائس تدق أجراسها مع تباشير كل صباح، والمعابد الهندوسية موجودة ذات اليمين وذات الشمال، وكل هذه الدور مملؤة بالعابدين، وكلٌّ يعمل على شاكلته، دونما مضايقة من أحد، أو إكراه أو ازدراء.
مشاهد الغروب
أعطاني عاملو الفندق غرفة تُطل على الغابة من الجهتين، فتنعمت بمشاهد لغروب الشمس وشروقها لم أجربها من قبل، ومع استعداد الشمس للغروب كنت أُشاهد أسرابًا من الطيور عائدة إلى أعشاشها، وهي تزقزق ببهجة وسرور، وعندما كان الليل يغشَى الغابة، كنت أستمع إلى أصوات كائنات بشكل متقطع، ذكرتني بالنداءات العسكرية التي كنت أسمعها في فترة الخدمة الوطنية، وكانت بهدف التأكد من يقظة الجنود ليلًا، ثم مع ساعات الضحى كنت أراقب الغابة من النافذة؛ فإذا أنا أشاهد عرضًا فنيًّا أعلى الغابة لأسراب من الببغاوات الخضراء لا يقل جمالًا وبهاءً عن عروض السيرك الروسية، كل هذه اللقطات والمشاهد تتوالى مع تقلب الليل والنهار، وعندما سرت في دروب وأطراف الغابات شاهدت أنواعًا من الحشرات والفراشات والنمل لم أرها من قبل في حياتي، ثم في أثناء جلوسي في مدخل الغرفة المُطلّ على الغابة لاحظت حشرة كبيرة واقعة على الأرض، تصدر طنينًا مسموعًا، فنظرت إليها، فوجدتها مقلوبة على ظهرها تطلب النجدة، فاقتربت منها، وقمت بعدلها، فطارت سريعًا، وفجأة بعدما قمت بهذا الفعل العفوي غمرتني موجة رائعة من السعادة والسرور، جعلتني أفكر في أن أقوم بمراقبة الحشرات ومساعدتها طالما أن هذا الفعل يفتح بوابات السعادة، وقد فعلت ذلك مع كائن آخر وجدته في الغابة، ربما في مقال قادم أحكي لكم قصته.
كل هذا الجمال جعل حواسي كلها في حالة استنفار قصوى، فلا أستطيع أن أغمض عيني من جلال غروب الشمس، ولا أقدر على أن أمنع عقلي من الانبهار بجميل صنع الله، ولا يمكنني أن أصم أذني عن سماع تسبيحات الطيور وهي عائدة إلى أوكارها، ولم أقدر على منع أنفي من تنسم عبير الزهور الفاتنة التي تناديني: هيت لك، ومع غمرتي العميقة وسط هذه اللوحة وجدتني أقول لحبيبتي ورفيق رحلتي وحياتي زوجتي: أشعر بأنني عدت طفلًا من جديد، يا ترى لماذا نطقت بهذه العبارة؟ هذا سؤال لقراء المقال الكرام، وتسعدني أفكاركم وما تجود به عقولكم من إجابات.