حقائق الطوفان الكبرى

أبو عبيدة المتحدث باسم الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"

ما بعد الطوفان ليس كما قبله، هذه الجملة ليست من قبيل المبالغة، كما أنها ليست من تراكيب التصريحات السياسية التي تلهب حماس الجماهير، لكنها جملة معبرة إلى حدٍّ بعيد عن الواقع، تستطيع تبينها مما أحدثه الطوفان في مسارات السياسية الدولية، والاستراتيجيات العسكرية المتلاحقة، وما خلّفه من تدابير اقتصادية استثنائية، وتغيرات مجتمعية عميقة، تتأكد بصمتها في الرسم البياني للأحداث اليومية، لا لقطاع غزة وحده، بل للعالم أجمع.

لعل السائل يسأل بحق: لكل قولٍ حقيقة فما حقيقة قولك؟

الوقوف على الحقيقة الكاملة لمعركة “طوفان الأقصى” عملية لا تتسم بالسهولة، لكونه حدثا لا يزال يتضمن مفاجآت لا تنقضي عجائبها، وفي كل تفاعل من تفاعلاته يتغير تصورنا عن أمور كنا نظنها من المسلمات أو الثوابت، وفي كل تفصيل من تفاصيله السريعة المتتابعة يأتي اختبار جديد للقيم والتوجهات، وهو ما أربك المنظومات الأخلاقية التي يدعيها العالم، أفرادًا، وشعوبًا، ودُولًا، وأنظمة حاكمة.

لكننا نحاول في هذه السطور قراءة جانب من تلك الحقائق الكبرى التي صنعها الطوفان.

في مقدمة هذه الحقائق وأهمها على الإطلاق، أن ثمة “اختراقا” صنعه “طوفان الأقصى” في طبيعة المعارك بين المقاومة وإسرائيل، حدث بذات الدرجة في الاتجاهين، يتمثل من جانب المقاومة في رفع سقف ونوعية المعركة، وأساليب القتال، بالشكل الذي نتج عنه تهديد وجودي حقيقي لإسرائيل لم تقابله منذ تأسيسها، وهو ما كرره بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة، وخلافًا لما قد يراه البعض من أن هذه التصريحات بمثابة مبالغات يلجأ إليها نتنياهو بين الحين والآخر، فإنني أميل إلى التوجه الآخر الذي يراها تصريحات حقيقية نابعة من تهديدات مؤكدة، أفقدت النخبة الإسرائيلية توازنها حتى اللحظة، ودفعتها إلى إحداث خرق مضاد تمثل في المبالغة في الرد، عبر استخدام قوة مفرطة بقدر لم تصل إليه عملياتها من قبل؛ مما يدفع نحو تأكيد أنها لا تتم -ككل مرة- من أجل “تحقيق الردع” أو “توازن الرعب”، وإنما تدور رحاها على أرضية “الحق في الوجود”.

حقيقة أخرى تكمن في أن هذه المعارك التي حققت رقمًا قياسيًّا، وطول أمد لم تبلغه سابقاتها، وصادفت سقفًا مرتفعًا في طبيعة العمليات، ليست نابعة من رغبة إسرائيلية في تطويل أمد المعركة، بقدر ما تتصل بطبيعة تكتيكات المقاومة التي فرضتها في طوفان الأقصى، والتي اعتمدت “الجانب البشري”؛ مما أسفر عن ترسيخ حقيقة أن التهديد الأكبر الذي تواجهه إسرائيل يكمن في هذا الجانب البشري الذي تمتلكه غزة، والذي لا يقتصر على جانبه “المقاوم” بل يمتد بصورة أوضح في جانب “الحاضنة الشعبية”، فالعنصر البشري المقاوم استطاع القيام بأعمال “جنونية” لا يتصورها عاقل، ولولا تأكيدها بالإصدارات المرئية للمقاومة، ما صدقها أحد، ولعله رسخ تعريفات جديدة لمعاني الصبر والصمود وقوة البأس غير العادية، هذا التفوق البشري لم تستطع إسرائيل مجاراته، وهو ما اضطرها إلى تعويضه عبر استخدام أساليب تقنية فائقة في مواجهة الحاضنة الشعبية، عبر تدابير عسكرية عنيفة وغاشمة وبلا سقف؛ مما أوقع في صفوف المقاومة والحاضنة أعدادا ضخمة من الشهداء والمصابين والمفقودين، لكنه في الوقت ذاته لم ينجح في إزالة التهديد بالكلية، فما زال العنصر البشري في جانبيه “المقاوم والحاضنة” يقدم ما لديه بذات المرونة ويحقق بشكل عجيب ذات الاختراق.

ثالثة الحقائق تتمثل في أن هذه المعركة تمت وفق محددات الحرب العالمية، رغم محدوديتها في الامتداد الجغرافي، فقد أدت إلى استنفار الغالبية العظمى من جيوش العالم، وحُشدت لها الإمكانيات العسكرية القصوى من حاملات طائرات، وسفن حربية، وطائرات متطورة، وتقنيات حديثة لم تجرب من قبل؛ مما يعزز إدراك أن هذه المعركة وإن كانت تدور فصولها على المساحة الجغرافية “لقطاع غزة”، فهي تتم بذات القدر على المساحة التاريخية للحرب العالمية الثانية، بل إنها وبحق تجري على ذات أرضيتها رغم الانقطاع الزمني، باعتبار القضية الفلسطينية برمتها، هي الوضعية العالقة الكبرى المترتبة على نتائجها، فالفلسطينيون هم الشعب الوحيد في المنطقة الذي لم يحصل على استقلاله، و”إسرائيل” هي “الدولة” الوحيدة في المنطقة التي تسعى لتوسيع حدودها، ولعل اللفتة التي أشار إليها الرئيس الفرنسي عن كون إسرائيل أنشأتها قرارات الأمم المتحدة هي “تعبير مبدع” عن هذه الثنائية، حتى لو لم تكن مقصودة في تصريح “ماكرون”.

الحقيقة الرابعة أن هذه المعركة تجري بين جانبين غير متكافئين، جانب تمثله “فصائل المقاومة الفلسطينية” التي دخلت هذه المعركة متسلحة بقدراتها الذاتية بوصفها حركات، مدعومة بهامش عملياتي من حركات تحالفت معها في سياق ما عرف بمبدأ “وحدة الساحات المقاومة”، في مواجهة جانب آخر تمثله “إسرائيل” التي استدعت منذ اليوم الأول “كل حلفها الغربي” الذي أمدها بالحد الأقصى مما وصلت إليه الدول من تقنيات، وعتاد، وجهد استخباري، مستخدمًا كل علاقاته مع دول الجوار العربي.

رغم عدم التكافؤ الحقيقي والظاهر، فإن المقاومة نجحت في تثبيت معادلة الطوفان التي أعلنتها والتي تلامس حلمها في التحرر الذي أصبح -من وجهة نظرها- قريبًا، ولم تصوره هذه المرة بمداد الحبر الذي تكتب به تصريحاتها، وإنما دعمته هذه المرة بمشاهد حقيقية وثقتها لبطولات رجالها في ميدان تميزت فيه عن الدعم العالمي السخي.

حقيقة خامسة أنتجتها خلاصة مهمة من خلاصات هذا الصراع، هي أنه لا اعتبار لقيم الدول الغربية المعلنة في الحق والعدل والحرية، إذا ما اصطدمت بمصالحها ومصالح حلفائها، وأن ثمة دعمًا سياسيًّا غير محدود قد تلقته إسرائيل على أرضية “حقها في الدفاع عن نفسها” برر لها تجاوزات لا تحصى لقوانين الحرب وأعرافها، كما أن الثقل الأممي المتمثل في “حق الفيتو” الذي أساءت “القوى الخمس الكبرى” استخدامه، ليس هو العائق في تعطيل الحقوق الأساسية للشعوب، لكن العائق الرئيس يكمن في “العقلية السياسية الجامعة” للسياسي الغربي، الذي لا يرى حقًّا إنسانيًّا لغيره من الشعوب في العيش بكرامة، أو المطالبة بحق، أو السعي نحو التحرر، وأن مبادئ حق تقرير المصير، ومعاونة الدول المحتلة في نيل استقلالها، ليست إلا شعارات تتجمل بها السياسة الغربية ولا تتورع عن هدمها وفق مبررات لا أخلاقية للحرب، وسردية منحرفة تتمثل في أن على “العالم الحر” معاونة إسرائيل في التخلص من “الحيوانات البشرية” من أجل إحلال النور وهزيمة الظلام!

الحقيقة السادسة أن حرص العالم الغربي على إطالة “العمر الافتراضي” لنتائج الحرب العالمية الثانية، لا يدانيه سوى رغبة بعض النظم العربية في ضمان مساحة الحدود الحالية لدولها، للدرجة التي دفعت هذا البعض إلى القبول بتفاهمات تسمح بتعديل رسم هذه الحدود بشكل تشاركي مع إسرائيل، توقيًا من تقسيم جديد مغاير في حال قامت حرب عالمية ثالثة؛ مما أدى إلى تلاقي الرغبتين “الغربية والعربية” في الحفاظ على “دولة إسرائيل” باعتباره أهم نتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية، وهو ما ترتب عليه بشكل عملي دمج رغبتين متناقضتين، الدول التي ترغب في الحفاظ على حدودها، وإسرائيل التي تعمل على توسيع نصيبها من الأراضي، ولرفع تعقيدات هذا التناقض الظاهر، التقت الرغبتان في تفاهمات التطبيع الكامل والقبول بصورة الخريطة الخضراء التي عرضها “نتنياهو” بالأمم المتحدة، المتمثلة في “حلف البركة”.

هذه الحقائق ليست جامعة مانعة لفصول “طوفان الأقصى”، لكنها أوضحت تصورًا عن لماذا لم تكن هذه الحرب كسابقاتها؟ كما أنها فسرت جانبًا مهمًّا لإدراك دوافع هذه الحرب الجنونية التي يواجهها الشعب الفلسطيني “مقاومة” و”حاضنة” وكونها حققت اختراقًا أفسد خططًا رئيسية كانت على وشك التدشين للحلف الإسرائيلي الكبير، وأحلت محله تهديدًا وجوديًّا لبؤرة هذا المشروع.

لكن وبرغم وضوح هذه الحقائق، فإن الحقيقة الختامية لهذه المعركة لا يمكن بأي حال توقع حدودها أو تصور معالمها، كما لا يمكن بذات الدرجة توقي نتائجها، لأن هذه الحرب أثبتت أنها ليست سيلًا عابرًا، أو سحابة صيف، بل هي طوفان بحق، والطوفان إذا حدث.. لا عاصم فيه من أمر الله.


إعلان