تضع الدول ذات النظام القوي استراتيجيات وديناميكيات واضحة لسياساتها الداخلية والخارجية. وفي هذا المقال سنطوِّف في الاستراتيجيات الأساسية للسياسات التي وضعتها الجمهورية التركية بشأن الشرق الأوسط ولا سيما فيما يتعلق بفلسطين. وذلك في محاولة لفهم ما وراء المقاربات التي أثارت ردود الرأي العام الداخلي والخارجي.
الدولة تتعامل مع الدولة
شهد تاريخ الدولة التركية على مدار تاريخها الذي يصل إلى ألفَي عام، وضع قواعد راسخة لتنظيم شؤون سياستها الداخلية والخارجية. ومن أهم مبادئ تلك السياسة وأكثرها حسمًا في الدبلوماسية هو أن الدولة تخاطب الدولة مهما كانت الظروف. وبعبارة أخرى فإن الجمهورية التركية لا تتعامل مع أي مجتمع أو مؤسسة أو حركة أو منظمة غير حكومية في دولة أخرى بغض النظر عن الدولة التي توجد فيها. ومع ذلك فإن تركيا في تعاملها مع بعض الدول المعنية في المنطقة، تولي اهتمامها وأولويتها لمجتمعات أو حركات في تلك الدول رغبة منها في الحفاظ على استمرار بقائها. وفي الحقيقة هناك نقطة ذات حساسية عالية في هذا السياق، وهي أنه لا يمكن دعم أي منظمة أو هيكل أو المحافظة عليهما داخل دولة ما دون موافقة هذه الدولة. ولكن إذا كانت الظروف مختلفة في منطقة ما، فإنه في هذه المرة تُبذَل الجهود للمحافظة على بقاء الهيكل المدعوم على المدى المتوسط والطويل.
وفي هذا السياق دعمت الجمهورية التركية حركة حماس في قضية غزة. وجاء دعمها في جانبين هما الدعم الفعلي الأساسي للشعب والمقاومة، ودعم ضمان شرعية حماس على الساحة الدولية، ويأتي جانبا الدعم على بعدين هما البعد الإنساني والبعد السياسي.
ولعل أقرب مثال يوضح ذلك الطرح هو ما سعت إليه تركيا وتمت الموافقة عليه بالفعل لحضور رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وإسماعيل هنية رئيس حركة حماس السابق قبل استشهاده، إلى البرلمان التركي للحديث أمام أعضائه. ووفقا للدستور التركي يُسمح فقط لرؤساء الدول بالتحدث في البرلمان التركي، وهذا إعمالا لقاعدة تعامل الدولة التركية مع الدول فقط. وفي حالة فلسطين نحن أمام رئيس دولة رسمي والرئيس النشط في الميدان.
ولما كانت هناك ضرورة مُلحَّة للرد على وجود القاتل نتنياهو في الكونغرس الأمريكي وخطابه، فقد كان الترتيب لحضور عباس وهنية إلى البرلمان التركي هو الجواب الذي أعدته الدولة التركية. وبالطبع فإن وجود رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس جاء بغض النظر عن دوره وطبيعة سياسته في التعامل مع القضية، إضافة إلى إمكانية تقديم الرد على نتنياهو والكونغرس بخطاب عباس في البرلمان التركي، وهذا ما ضمنته الحكومة التركية.
وكانت قد تم الاتفاق على أنه بعد أن ينتهي محمود عباس من خطابه في البرلمان، سيلتقي إسماعيل هنية بأردوغان في قاعة حزب العدالة والتنمية داخل مبنى البرلمان أيضًا.
الدولة تعني المجتمع كله
من المعلوم أن القضية الفلسطينية ليست حكرًا على أحد، بل هناك فئات مختلفة تناضل من أجلها، ورغم أنها قد تكون ذات آراء مختلفة فيما بينها، فإنهم يضعون ممتلكاتهم وحياتهم وكل جهودهم على المحك في سبيل القضية. ويدعمون بصدق القضية الفلسطينية ويتشاركون في النضال بشكل أو بآخر. ليس الفلسطينيون وحدهم، بل جميع الشعوب من أوروبا إلى إفريقيا، ومن أمريكا إلى الشرق الأقصى يبذلون جهودا لحماية قضية فلسطين بشكل عام وغزة بشكل خاص. وإذا كنا بحاجة إلى التعاطف، فما الإجابة عن سؤال “كيف يمكن أن يصبح للفلسطينيين دولة ولم يتحدوا في غزة حتى الآن؟” الذي ستطرحه شعوب بعيدة جغرافيًّا عن غزة، ولا يعرفون ما في فلسطين من خلافات سياسية داخلية.
وفي هذه المرحلة، فإن ما يليق بالدولة هو العمل على ضم جميع طبقات المجتمع وجميع الفرقاء في النضال والعمل من أجل استمراره بطريقة شاملة وبتنسيق في كل المجالات. وبهذه الطريقة ستُظهر جميع أطراف القضية الفلسطينية للعالم أن بإمكانها أن تضع المشاكل الصغيرة جانبًا وتتحد عند الضرورة. وهذا هو المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه محادثات تركيا ومفاوضاتها مع المنظمات والحركات الفلسطينية الأخرى.
الدولة لا تُدار بالعاطفة
لقد رأى العالم أجمع على مدى عام كامل تقريبًا ما يحدث في غزة من جرائم جعلت السؤال الذي يطرح نفسه الآن على كل المنصات والفعاليات، هو: لماذا لم تتدخل تركيا ومصر على وجه الخصوص بقوة أكبر؟!
وهذا السؤال طبيعي بالنسبة للمجتمعات التي لا تتصرف بعقولها، بل بعواطفها. فالعمل بالعقل يعني التفكير في النتيجة، وهذا يشير إلى إبقاء احتمال النجاح عند أعلى مستوى وعدم التغافل عن الأخطار إلى الحد الأدنى بغض النظر عن السبب. وهنا من المفيد تذكُّر أن الحكومات لا تقوم بحسابات قصيرة الأجل، وأفضل مثال على ذلك هو مسألة كاراباخ في أذربيجان. فبعد 40 عامًا من الاحتلال، تم تحرير كاراباخ بخطط وتحركات في أربعين عامًا وبقرارات زمنية صحيحة من أذربيجان وتركيا.
ولهذا فإن النضال طويل الأجل من أجل كسب القضية الفلسطينية وتحرير الأراضي المحتلة، من خلال عملية التخطيط والاستعداد السياسي والاقتصادي والإنساني والعسكري، ولا بد من ترتيب الأولويات وعدم الانجرار إلى أحد هذه الجوانب دون وضع الأخرى في الاعتبار؛ فالتقصير في أحدها سيؤدي إلى فشل الآخر في تحقيق الهدف وبالتالي خسائر أكثر وتأخير النصر لفترات أطول.
ورغم كل هذه الأعمال الوحشية للكيان فلا نكاد نرى غير تصرفات باردة لا ترقى إلى مستوى قدرات دول المنطقة، سواء من جانب الرد على المجازر الإسرائيلية أو فيما يتعلق بدعم الشعب الفلسطيني وفي غزة على وجه التحديد، وكذلك بشأن التواصل المباشر مع مسؤولي المقاومة وحماس.
ولضبط مسار هذا الطرح، فلن يكون من الإنصاف تجاهل جهود وشجاعة الجمهورية التركية وقائدها رجب طيب أردوغان، أو نسيان الجهود الاستثنائية التي بذلها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الذي حاول لفت انتباه العالم كله إلى قضية غزة بأعلى صوت. ولا ينبغي أن ننسى أن هاكان فيدان كان يشغل منصب رئيس المخابرات التركية لسنوات عديدة وأنه كان يعرف جميع هياكل المقاومة في فلسطين حتى أصغر الخلايا.
تغيُّر الظروف بين الدول يستلزم تغير القواعد
لا يمكن لأي دولة أن تبقى في عداوة أبدية مع دولة أخرى؛ لأنه على الرغم من أن الدول تختلف وتتعارض اتجاهاتها ومصالحها أحيانا سواء أكانت مصالح خاصة أو إقليمية، فإنه من الطبيعي أن يتغير الوضع مع تغيير الموقف؛ حيث إن الأولوية بالنسبة للدول هي إنجاز مصالحها في المقام الأول، ثم مصالح الدول الصديقة. فلا يمكن لأي عداوة أن تستمر إلى الأبد؛ إذ يعني ذلك ضرر الطرفين.
وخير انعكاس لهذا في السياسة الخارجية لتركيا هو مسار علاقتها مع مصر. فبعد فترة من تجميد العلاقات بشكل تام تجاوزت عقدًا من الزمن، أدى تغيُّر الظروف وظهور قضايا مشتركة مثل ما تعيشه غزة من جرائم إبادة جماعية، إلى جانب مسألة الموارد الطبيعية في البحر الأبيض المتوسط بين الدولتين، كل ذلك أدى إلى ظهور حالة جديدة جعلت من الضروري في هذه المرحلة على الأقل وضع نقاط الخلاف جانبًا، وتطبيق مبدأ تغير القواعد مع تغير الخيارات والضرورات.