غزوة “البيجر” الخاطفة!

أحد أجهزة البيجر التي انفجرت في الضاحية الجنوبية لبيروت (الفرنسية)

ما حدث في لبنان أخيرًا من استهداف لأعضاء “حزب الله” عبر أجهزة النداء الآلي “البيجر” -سواء كان الفعل سيبرانيًّا أو عبر تحميل عبوات تفجيرية صغيرة- يُعَد مغامرة جنونية غير محسوبة اقترفتها إسرائيل، تختلف عن أشكال العدوان الذي تمارسه منذ نشأتها.

أفعال العدوان التي تمارسها الآلة العسكرية الصهيونية رغم بشاعتها ومهما ارتفع سقفها يتم تقييمها على مقياس العمل العسكري، وتتمكن الآلة الإعلامية واللوبي المساند من تمريرها وتبريد آثارها، لكن تفجيرات “البيجر” الأخيرة خرقت مساحات الأمان العالمي “الفردي” وبدون قتال!!

هذا الفعل النوعي “المبدع” في طرق الاستهداف العسكري، يحمل في اتجاه آخر وجهًا غبيًّا! امتد تأثيره السلبي إلى كل القطاعات المدنية في العالم، وضرب جوانبه المخملية البعيدة كل البعد عن مواطن الحرب.

ففي عالم أسّس بنيانه منذ عقود على التكنولوجيا المتقدمة، وشيد أركان الرفاهية على النانو تكنولوجي، وانتقل من ثورة إنترنت الأشخاص إلي إنترنت الأشياء، ومن الذكاء الحاسوبي إلى الذكاء الاصطناعي، وجد هذا العالم نفسه بين عشية وضحاها أمام تهديد وجودي “فردي” في غير ساحة حرب، فما يمتلكه من وسائل الراحة والرفاهية في المنازل والمكاتب والسيارات وأجهزة التواصل بحقائب النساء وجيوب بناطيل الرجال، صارت جميعها “قنابل موقوتة” قد تنفجر في أي لحظة في وجوههم أو تفتك بأحبابهم في مأمنهم، إذا امتلك “مجنون ما” “شيفرة ما” لتفجيرها!

أبعاد الحدث

حالة الذهول لم تأت بعد، وستتابع ردود الأفعال الشخصية والمؤسسية بعد استيعاب أبعاد الحدث، تبدأ بتساؤلات، ثم تنتقل إلى تدابير واحتياطات، ثم تتحول مع الوقت إلى آليات عمل.

أصداء الفعل وآثاره على العقل الجمعي الاقتصادي منه والسياسي، الأمني والعسكري، بل المجتمعي والعائلي، ستكون أعمق وأوسع نطاقًا، لن تتوقف على “الكوميكسات” الساخرة التي يروجها الصهاينة، أو تحليلات الخبراء الأمنيين والعسكريين، أو حتى الرد العسكري المستحق لحزب الله، لكنها ستأخذ مناحي أخرى، تخيّل معي الأمور التالية..

هل تتعرض شركات السيارات الكهربائية التي تتجهز للحلول محل السيارات التقليدية لخسائر مهولة، كونها تحمل بطاريات وأجهزة تحكم تمثل فرصة للتفجير عن بُعد أو التحميل المباشر لرقائق تتفجر عند توجيه أمر ما، مثلها في ذلك مثل “البيجر”؟

هل تكون شركات الهواتف الذكية، التي تعتمد على تغيير نمط الحياة والتدخل المباشر في كل شيء، عرضة لردود أفعال غير متوقعة؟

أباطرة مواقع التواصل الاجتماعي الذي يجمعون عن الناس معلومات طوال الوقت عن الاسم والسن والصورة ومكان الوجود وما خفي من البيانات والمعلومات سيكونون في عين العاصفة!

شركات الأقمار الاصطناعية والتحكم عن بُعد والاتصالات، وشبكات التأمين المعتمدة على الكاميرات والدوائر التلفزيونية البسيطة أو المعقدة، وتطبيقات الموبايل المختلفة التي تمتلكها شركات دولية عالمية، وشبكات الخدمة التقنية، جميعها ستكون هي الأخرى محل توجس.

وليس بعيدًا عن ذلك بالطبع دوائر السيطرة التكنولوجية على الأسلحة التقليدية وغير التقليدية والنووية أيضًا!

سيدور نقاش حتمي في دوائر الدولة والسلطة، في مسارات السياسة والاقتصاد حول ما حدث، ما قد يترتب عليه تدابير تتجه نحو ما يمكن تسميته “الانكفاء التقني” والرجوع خطوة إلى الخلف عن مسار التقدم التكنولوجي الجارف للحصول على مساحة أمان، قد تضطر دوائر القرار في العالم إلى إجراءات تجميد لبعض مساحات التعاون التكنولوجي مع شركات عالمية، أو إلغائها بالكلية في مقابل برامج وطنية أقل ذكاءً لكنها أكثر أمانًا!

تجربة الصين

هل يستلهم “أولو الأمر” السياسي تجربة الصين المستقلة المكتفية ذاتيًّا، أو تجربة كوريا الشمالية المنعزلة داخليًّا؟

هل يشهد العالم شركات دولية أو جهات ضمان عالمية وظيفتها التأكيد والرقابة على الأمان التكنولوجي الفردي والمؤسسي؟

الفعل الإسرائيلي مزلزل ليس في اتجاه حزب الله فقط، بل في اتجاه توليد أسئلة وجودية عن المصير الشخصي، أسئلة تثير رعبًا عندما يتشكك المرء في أجهزته المفضلة التي يضعها بجوار رأسه عندما ينام.

في ظل حقبة لا تقيم لحياة البشر وزنًا، ولم يعد فيها للعدوان الصهيوني المتسلط على رقاب الناس رادع، هل نشهد رد فعل مكافئًا من أساطين التكنولوجيا المسيطرين على القرار العالمي، باتجاه حصار آثار هذا العدوان وإدانة واضحة له، حماية لحساباتهم البنكية، وأسهم شركاتهم المليارية، أم سيتغاضى النظام العالمي عن هذه السخافة مجاملة لابنه المدلل “إسرائيل”؟!


إعلان