لفهم أي حدث بشكل صحيح، يجب أن يمر عليه بعض الوقت، لأن العقل البشري قد يتأثر بمشاعر مثل الحماس والفرح والحزن والتشاؤم. لذلك، لا يمكن فهم أي حدث فور وقوعه إلا من قبل الفاعل الحقيقي أو الفاعلين الحقيقيين لذلك الحدث. ونعلم أن الفاعلين الحقيقيين في الأحداث السياسية غالبًا ما يكونون غير مرئيين أو غير معروفين.
في المقالات التي كتبناها سابقًا للجزيرة، لفتنا الانتباه إلى قضية سوريا وأبدينا رأينا بشأن النصر الحتمي لعقلية الدولة. والحمد لله، لم يخذلنا المسار.
ولكن، استنادًا إلى مبدأ ضرورة مرور الوقت لفهم الأحداث العظيمة بشكل صحيح، الذي ذكرته أعلاه، قمنا بتأجيل كتابة مقال حول سوريا بعد الثورة حتى اليوم.
لأن رؤية جميع المسار والفاعلين وتقييم الأمور بناءً على ذلك كان هو الخيار الأكثر صوابًا، وسنحاول القيام بذلك الآن.
بداية النهاية
كما هو معلوم، بدأت العملية في درعا عندما كتبت مجموعة من الشباب على جدران الشوارع “بدنا حرية” و”ارحل يا بشار”، وقد مرت هذه العملية بالعديد من المراحل المختلفة عدة مرات.
في المراحل الأولى من العملية، كانت الحكومة التركية تدرك أن موجة كبيرة من المظاهرات قادمة ولا مفر منها، ولذلك حذرت بشدة الحكومة السورية بشأن تنفيذ الإصلاحات، لكنها لم تحصل على أي نتيجة. لاحقًا، تمكنت جماعات المعارضة من الاقتراب من ضواحي دمشق.
غير أن دخول الولايات المتحدة إلى المعادلة بذريعة داعش، والسماح لإيران بدخول المنطقة، وأخيرًا نزول حزب الله ميدانيًّا، كل ذلك أدى إلى فقدان المعارضة قوتها وانسحابها بشكل كبير إلى الحدود التركية.
وكان أكثر من خمسة ملايين شخص يحاولون التمسك بالحياة والعيش تحت حماية الدولة التركية في عدة مناطق شمال سوريا، وخاصة في إدلب.
لكن، الهجمات التي شنتها إسرائيل على غزة كانت بداية النهاية للنظام السوري؛ لأن استهداف إسرائيل لإيران وكشف حقيقة أن إيران ليست بالدولة القوية كما كان يُعتقد وليست لديها رغبة حقيقية في الحرب، إضافة إلى القضاء على حزب الله ببضع عمليات وإجباره على الانسحاب من الساحة، وربما التخلي عنه من قبل داعميه، كل ذلك أدى إلى زوال الحدود بين النظام، الذي تأسس في سوريا على أساس القوة، وبين مختلف المجموعات الأخرى من المعارضة.
عندما فقدت إيران وحزب الله قوتهما في بلديهما، لم يعد لدفاعهما عن النظام أي معنى، كما أن كلا القوتين فقدتا طاقتهما تمامًا.
وهكذا، بدأت بداية النهاية لبشار الأسد تحديدًا في هذه اللحظة؛ لأنه عندما خرجت القوات الوكيلة التي كانت تحميه من المعادلة، أدرك في اللحظة الأخيرة أنه لم يعد لديه قوة تحميه، ويبدو أنه لم تكن هناك أي استعدادات أو رغبة لاتخاذ أي تدابير.
11 يومًا تعادل 11 عامًا
استمرت المعركة في سوريا مدة 11 عامًا كاملة، أحيانًا دامية، وأحيانًا درامية، وأحيانًا مليئة باليأس، وأحيانًا مليئة بالأمل… 11 عامًا بكل تفاصيلها.
من مفارقات القدر أن المعركة التي استمرت 11 عامًا انتهت في 11 يومًا مجيدة ومليئة بالحماس. عندما سقطت حلب، لم يكن أحد يلتفت إلى دمشق، ولكن عندما سقط جبل زين العابدين، لم يستطع أي معارض أن يبعد نظره عن دمشق.
ولكن ماذا حدث خلال 11 عامًا حتى أعطى ثماره في 11 يومًا؟
السبب الأول لجني ثمار النضال الذي استمر 11 عامًا خلال 11 يومًا هو بلا شك فقدان إيران وحزب الله لقوتهما في المنطقة. وبتعبير أدق، انشغالهما بمشاكلهما الخاصة. بل إن حزب الله لم يعد يملك وجودًا يسمح له بالانشغال بمشاكله.
أما السبب الثاني والأهم، فهو أن عقلًا قويًّا واستراتيجيًّا، رغم التقلبات في بعض الأحيان، كان يستعد طوال 11 عامًا من أجل الأيام الـ11 الأخيرة، ونجح في تشكيل المعارضة السورية وجعلها تلتف حول هذا الاستعداد.
التعبير الذي استخدمه المسؤولون العراقيون أثناء تفسير ما حدث في سوريا خلال 11 يومًا، وهو “عقل الدولة العليا”، يؤكد تمامًا القضية التي نحاول طرحها.
نعم يبدو أن عقل هذه الدولة قد علم بشكل جيد جماعات المعارضة، وخاصة أحمد الشرع، الذي مر بمرحلة مؤلمة وصعبة، ما هي الدولة، وما هو عقل الدولة، وكيف يتحرك عقل الدولة، و ما شابه هذه المواضيع.
الرعب والوحشية
للأسف، المشهد الذي شاهدناه في سوريا أرعب البشرية جمعاء، خاصةً المشاهد القادمة من سجن صيدنايا والقصص التي رواها الناس، جعلت كل الجمل المتعلقة بالمستقبل بلا معنى.
من قام بهذه الثورة؟ من يستفيد من هذه الثورة؟ من كسب القوة نتيجة هذه الثورة؟ إلخ…
لم يعد لهذه الأسئلة وأمثالها أي معنى؛ لأن الصور القادمة من سجن صيدنايا وقصص الناس هناك قد أبطلت كل الاستراتيجيات وجعلتها بلا قيمة.
بغض النظر عمن سيستفيد من هذه الثورة في المستقبل، فإن الأساس الأخلاقي لأولئك الذين صنعوها ودعموها قد تجلّى بوضوح. هذه الأرض؛ إنها الأرض المحفورة في عيون شاب في العشرينيات من عمره، ولم ير السماء منذ ولادته.
وهذا الأساس هو ما تجلّى في الدمار النفسي الذي أصاب عقل أبٍ غريب لا يزال يظن أن صدام ما زال حيًّا.
هذا الأساس قد دوّى صداه في أنحاء العالم كله، من خلال آهات المظلومين الذين تعرضوا لتعذيب وحشي ودنيء لدرجة لا يمكن وصفها بالكلمات أو الكتابة.