حينما ننظر إلى التحركات الأخيرة للرئيس الأمريكي ترامب، التي تهدف إلى تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن، وقبل أن ننشغل بمتابعة وتحليل تصريحات وتحركات الكيان الإسرائيلي أو حليفه الأمريكي في ذلك الإطار، ينبغي أن نستحضر حقائق جوهرية، ينبغي أن تشكل الإطار المرجعي الذي لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن فلسطين ومستقبلها وخطط الحل النهائي لتصفية القضية. هذه الحقائق هي:
الفلسطيني طرف محوري قادر على فرض إرادته:
القضية الفلسطينية تضم العديد من الفاعلين واللاعبين الإقليميين والدوليين، إلا أن هناك ثلاثة أطراف رئيسية فقط تملك القدرة على إحداث تغييرات جذرية في المشهد: الفلسطينيون أنفسهم، والكيان الإسرائيلي المحتل، والولايات المتحدة.
لم يعُد الفلسطينيون فقط “فاعلًا” أساسيًّا، بل أصبحوا طرفًا مبادِرًا في هذا المشهد، فمنذ هجوم السابع من أكتوبر، لم يعد الفلسطينيون بالضرورة ردًّا على تحركات أو تصورات الآخرين، بل إن الأمريكي نفسه لم يعد قادرًا على فرض إرادته في كل وقت، على الرغم من كونه صاحب التأثير الأكبر ورافعة الضغط الأساسية للكيان.
“وجود الكيان الإسرائيلي” هو الثابت الوحيد في السياسة الأمريكية اتجاه فلسطين:
مرت السياسة الأمريكية اتجاه فلسطين بتغيرات عديدة، كان أبرزها تبني حل الدولتين، لكنه لم يكن ثابتًا راسخًا، بل تآكل مع الوقت وخاصة بعد هجوم السابع من أكتوبر. أما الركيزة الوحيدة التي بقيت ثابتة عبر العقود، فهي حماية وجود الكيان الصهيوني وضمان بقائه في المنطقة، بغض النظر عن الحلول المطروحة.
إرادة الكيان الإسرائيلي ليست قدرًا محتومًا:
فمسار القضية الفلسطينية يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الفلسطينيين رغم هذا الضعف والهوان والخذلان الرهيب من الأخ والصديق على مر التاريخ، استطاعوا أن يفرضوا أنفسهم طرفًا حاسمًا في المعادلة، واستطاعوا تعطيل وإفشال الكثير من خطط الكيان الإسرائيلي على مدار عقود من النضال، بدءًا من الحجارة وحتى الصاروخ.
ليس بالضرورة من يقف خلف تلك التصورات هم أشخاص ناضجون:
فليس بالضرورة أن تكون كل التصورات والخطط التي يحاول الكيان فرضها علينا، دائمًا ناضجة أو قابلة للتنفيذ، فهي في كثير من الأحيان شطحات لشخصيات، تفضح سيرهم الذاتية ضحالة أفكارهم وأطروحاتهم، وتكشف ضعف خبراتهم وبساطة تجاربهم الواقعية.
الآلة الإعلامية للكيان هي التي تصنع الزخم الزائف لتلك الأفكار:
فكثير من هذه الأطروحات الصبيانية غير الراشدة، ما كان لها أن تحظى بهذا الاهتمام لولا أنها صادرة عن الأمريكي والصهيوني، اللذين يسيطران على كافة أدوات الإعلام، ولا سيما أن هذه المنظومة الدولية التي نحيا تحت سقفها ونتحاكم لقوانينها هي من نسيج الأمريكي ومن صنعه وحياكته. فالآلة الإعلامية ليست سوى آلة تضخيم تهدف إلى زرع الوهم بأن هذه المخططات ستمضي قدمًا، في حين أن الواقع يثبت في الغالب عكس ذلك.
الكيان الإسرائيلي ليس قادرًا دائمًا على تنفيذ خططه:
رغم أن كثيرًا من هذه التصورات والأطروحات، قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها تصب كليًّا في مصلحة الكيان الإسرائيلي، فإنها غالبًا ما تنهار عند أول اختبار واقعي، ليس بسبب الفلسطينيين، وإنما بسبب إشكالات بنيوية داخلية تتعلق بالكيان الإسرائيلي نفسه، حيث تتحول هذه التصورات في كثير من الأحيان إلى تهديدات مباشرة لأمنه ووجوده، بشكل قد يدفعه إلى تفاديها بدلًا من استثمارها كفرص.
فشل الصفقة
لماذا فشل الكيان الإسرائيلي في تنفيذ صفقة القرن والضم النهائي للضفة الغربية على الرغم من الإعلان الرسمي عن ذلك منذ سنوات؟
عندما طرح ترامب الخطة مطلع عام 2018، ثم أعلن عنها رسميًّا قبيل مغادرته الرئاسة مطلع عام 2020، بدا وكأن الكيان الإسرائيلي قد حصل على أكثر مما كان يحلم به من خلال بنودها الكارثية التالية:
استمرار سيطرة الكيان الإسرائيلي على غالبية مناطق الضفة الغربية. ضم الكتل الاستيطانية الكبرى إلى دولة الكيان الإسرائيلي والاعتراف بها جزءًا لا ينفصل عن الدولة العبرية المعترف بها دوليًّا. بقاء القدس مدينة موحدة تحت سيادة الكيان الإسرائيلي. إنشاء كيان فلسطيني منزوع السيادة، على بعض أراضي الضفة، يتخذ له عاصمة غير القدس. شطب حق العودة نهائيًّا.
كانت الخطة بهذا الطرح بمثابة كارثة ونكبة جديدة ووصمة عار تاريخية على جبين فلسطين والأمة العربية والإسلامية بأكملها، وفاصل زمني بين مرحلتين تاريخيتين، وما قبلها ليس كما بعدها.
لكن هذه الخطة وعلى الرغم من أنها بدت، وكأنها قد حققت للكيان أكثر مما كان يحلم به، فإنها وللمفارقة العجيبة، تم تجميدها بقرار “غير معلن” من الكيان الإسرائيلي نفسه، ولم تنفذ على مدار السنوات الخمس الماضية، وذلك منذ تم الإعلان عنها في يناير/كانون الثاني 2020 وحتى يومنا هذا، على الرغم من من أن الفرصة كانت سانحة خلال فترة ولاية ترامب الأولى مدة عام كامل قبيل رحيله.
السبب في ذلك، أن الكيان الإسرائيلي واجه ذاتيًّا، إشكالات استراتيجية وبنيوية وتنفيذية كثيرة، عرقلت قدرته على التنفيذ منها على سبيل المثال لا الحصر:
إشكالية الديمغرافيا: فضم الضفة يعني بالضرورة أن 3 ملايين فلسطيني مقابل 700 ألف مستوطن سينضمون عمليًّا إلى حدود الدولة الجديدة؛ مما يوجد خللًا في الميزان الديمغرافي بين اليهود والعرب، في دولة يرجى لها أن تكون دولة قومية يهودية، احتفظت منذ قيامها عام 1948 بأغلبية يهودية مقابل أقلية عربية بعد عمليات التهجير القسري للفلسطينيين التي تمت حينها.
واختلال كفة الديمغرافيا لصالح الفلسطينيين يهدد هوية الدولة اليهودية مستقبلًا، مثلما يهدد تصاعد أعداد المسلمين في أوروبا هوية أوروبا المسيحية.
إشكالية إدارية واقتصادية: فالكيان الإسرائيلي يتعامل مع الضفة كأرض محتلة باعتراف الأمم المتحدة، وعليه أنشأ إدارة مدنية تتبع الجيش تدير شؤون المستوطنين والفلسطينيين في الضفة، في حين يتنصل الكيان الإسرائيلي من الإنفاق المالي على الفلسطينيين، ويلقي بهذا العبء على المؤسسات الإنسانية الدولية وعلى معونات الدول الغربية، ويترك مسألة تسيير أمورهم الحياتية اليومية للسلطة الفلسطينية التي تشكلت عقب أوسلو.
أما في حال تم ضم الضفة، فستنتقل تبعية تلك المناطق إلى مؤسسات الدولة المدنية، وسيصبح على الدولة القيام بكافة الأدوار من الإنفاق الحكومي والدعم الاقتصادي والرعاية الاجتماعية والصحية والخدمات التعليمية وكافة الشؤون الخاصة بثلاثة ملايين فلسطيني، وهو ما يعتبره الكيان الإسرائيلي كارثة مالية وإدارية بكل المقاييس ستحل به.
إشكالية أمنية وعسكرية: في حال تم ضم الضفة، فينبغي للجيش في هذه الحالة الانسحاب من مناطق انتشاره واستبدال قوات الجيش بقوات شرطية في كافة مناطق الضفة أسوة بمناطق الـ48، وهذه مسألة حساسة داخليًّا في دولة تحظر قيام الجيش بالتدخل في الشؤون الداخلية للدولة، وهو ما يعني بالضرورة تجنيد عشرات الآلاف من عناصر الشرطة، وإيكال كافة مهام الجيش الأمنية والعسكرية إلى تلك القوات التي لن تكون قادرة عمليًّا على مواجهة انتفاضة الفلسطينيين وعملياتهم المسلحة. كما أن هذا الضم سيعني بالضرورة انهيار السلطة الفلسطينية وتفكك أجهزتها الأمنية، التي قد ينخرط الآلاف من أفراد الأمن المسرحين منها، في أعمال مقاومة انتقامية من الكيان الإسرائيلي، وهو تهديد خطير.
كما سيفقد الكيان الإسرائيلي ميزة الاعتماد على السلطة الفلسطينية في التنسيق الأمني ضد العناصر المقاومة وفي وأد أي احتمال لاندلاع انتفاضة فلسطينية شعبية، وسيكون عل الكيان الإسرائيلي حينها تولي التعامل مع وضع جديد فوضوي لا يمكن توقع كيف سيكون وإلى أي نتيجة سيؤول.
عقبات متراكمة
كل ما سبق لم يكن سوى عقبات وعوائق متراكمة في طريق الكيان الإسرائيلي، ورغم أن الفلسطينيين قد لا يظهرون فيها كفاعل ديناميكي رئيسي، فإن المدهش -بل والمفارقة الكبرى- أن العامل المشترك بين كل تلك العوائق، والمنبع الحقيقي لتعثر مشاريع التصفية، هو مجرد “وجود الفلسطينيين على الأرض”.
ولذلك، ليس من المستغرب أن تتمحور كافة تصورات الحل النهائي للقضية الفلسطينية، التي بدأت منذ عام 1968، مرورًا بخطة “تبادل الأراضي” للجنرال “غيورا آيلاند” -صاحب خطة الجنرالات الفاشلة خلال حرب طوفان الأقصى- و”خطة الوطن البديل” وانتهاءً بتصور “صفقة القرن” وخطط التهجير الحالية، ليس من المستغرب أن تتمحور جميعها حول فكرة مركزية رئيسية واحدة هي التخلص من الفلسطينيين ونزعهم من الأرض، لأن غيابهم يزيل كافة العوائق والعقبات المذكورة سابقًا.
وللمفارقة أيضا، فإن جميع الخطط المذكورة باءت بالفشل بسبب تمسك الفلسطينيين بأرضهم وصمودهم خلال كافة الوقائع التاريخية المحورية الكبرى، رغم القتل والتدمير والحصار.
نعم، وجودهم وحده، حتى دون تحرك أو اعتراض، يكفي لإفشال أعتى المخططات.
فكيف إذن، حين يتحرك الفلسطينيون؟
كيف حين يضيفون إلى تلك الإشكالات البنيوية فعلًا ديناميكيًّا مؤثرًا وفعالًا؟
كيف حين يحولون مجرد وجودهم إلى مقاومة واعية قادرة على مراكمة الضغط وإعادة صياغة المعادلات؟
هنا تكمن المعادلة الحقيقية: وجود الفلسطيني، حتى في سكونه، شوكة في حلق مشاريع التصفية، فكيف إذا نهض وتحرك؟

