منذ قدوم الرئيس الأمريكي ترامب، شهدنا سيلًا من التصريحات الأمريكية المتباينة من الرئيس ترامب وأفراد إدارته، بعضها شديد التطرف في الهجوم على المقاومة والدعم المطلق للاحتلال، بينما يحمل البعض الآخر إشارات إلى الرغبة في التفاوض وضبط سلوك الاحتلال. هذا التناقض يثير تساؤلات جوهرية عن حقيقة الموقف الأمريكي وكيفية التمييز بين الأهداف الفعلية والتصريحات الدعائية.
للإجابة عن هذه التساؤلات، يجب أولًا قراءة المصالح الفعلية للأطراف الثلاثة الفاعلة في المشهد: الولايات المتحدة، والاحتلال، والمقاومة. فبينما يسعى كل طرف لتحقيق أهدافه الخاصة، نجد أن المصالح قد تتقاطع أحيانًا، لكنها في كثير من الأحيان تتعارض، ما يجعل التصريحات العلنية لا تعكس دائمًا حقيقة المواقف على أرض الواقع.
أولًا: طبيعة شخصية ترامب ونهجه في الحكم
منذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض، حرص ترامب على تنفيذ جميع وعوده الانتخابية، حتى وإن لم تمثل أهمية حقيقية للمصالح الأمريكية، ومهما بدت غريبة أو فاقدة للحد الأدنى من الرشد السياسي والدبلوماسية، المهم هو تنفيذها بأي شكل.
لم يكن ترامب يومًا معنيًّا بأن يحقق “نجاحًا حقيقيًّا” من خلال تنفيذ “جوهر” الوعود والالتزامات التي قطعها على نفسه، بل ما يهمه في المقام الأول هو الشكل والطريقة التي سيتم من خلالها إبراز وعرض هذه النجاحات.
فعلى سبيل المثال، حين أعلن عن “صفقة القرن”، لم تكن هناك خرائط واضحة توضح خطة الضم الفعلي أو تفاصيل إقامة كيان فلسطيني. كان الهدف الأساسي هو تنفيذ وعده وإعلانه في مشهد إعلامي كبير دون التطرق إلى الجوانب التنفيذية. كما أعلن أخيرًا “نجاحه في فرض السيادة الأمريكية على قناة بنما”، رغم أن ما حدث لم يكن سوى صفقة تجارية اشترت فيها شركات أمريكية موانئ مملوكة للصين، دون أي سيادة فعلية على القناة.
لم يكن ترامب يومًا عسكريًّا ولا سياسيًّا، بل هو رجل أعمال ينتمي إلى مدرسة “الصفقات السريعة الرابحة” التي تركز على تعظيم المكاسب وتجنب الخسائر بأسرع وقت ممكن، دون قيود أيديولوجية أو اعتبارات أخلاقية أو حتى “تحفظات أمنية”.
يرى ترامب أن الولايات المتحدة تستطيع تحقيق أهدافها عبر الهيمنة السياسية والاقتصادية دون الحاجة إلى التدخل العسكري المباشر، ولهذا يسعى إلى تقليص الانخراط العسكري الأمريكي في الخارج “قدر المستطاع”.
ثانيًا: علاقة ترامب بنتنياهو وتأثيرها في الموقف الأمريكي
علاقة ترامب بنتنياهو ليست في أفضل حالاتها، فقد رأى ترامب أن نتنياهو خانه عندما سارع إلى تهنئة بايدن بفوزه في انتخابات 2020 رغم الخدمات التي قدَّمها إليه، وعلى رأسها نقل السفارة إلى القدس، والاعتراف بسيادة الاحتلال على الجولان، والانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني.
ويخوض نتنياهو الحرب الحالية، ليس إخلاصًا لمصالح دولة الاحتلال وأمنها، بل في المقام الأول من أجل حماية مستقبله السياسي ومصيره الشخصي، فسقوط حكومته يعني سقوط الحصانة السياسية عنه، مما يعرّضه للسجن على خلفية قضايا الفساد التي يحاكم عليها.
لذلك، عندما عاد ترامب إلى البيت الأبيض، كان نتنياهو يدرك أنه إذا أراد أن يتجنب انتقام ترامب خلال السنوات الأربع القادمة، فليس لديه إلا الرضوخ لطلبه وتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي لطالما رفضه.
لكن نتنياهو عاد ليتشكك مرة أخرى في حقيقة مواقف ترامب وأهدافه، لا سيما بعد الكشف عن وجود محادثات سرية بين الأمريكيين والمقاومة للإفراج عن الأسرى الأمريكيين من دون علم نتنياهو، إذ يخشى تراجع ترامب عن دعم موقفه في التفاوض في حال نجاح المحادثات.
ثالثًا: هدف ترامب الرئيسي في غزة
أحد الوعود الرئيسية التي قطعها ترامب على نفسه في حملته الانتخابية هو الإفراج عن الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، وعلى رأسهم الأمريكيون منهم. هذا الوعد على رأس أولوياته الحالية، وهو ما يفسر إصراره على الضغط للتوصل إلى صفقة تبادل، قبل أي اهتمام بإنهاء الحرب أو بمصير غزة أو حتى بمصالح الاحتلال نفسه.
رابعًا: ورقة المقاومة الأقوى في المفاوضات
تدرك المقاومة جيدًا أن ورقة الأسرى هي الضامن الوحيد لإبقاء الأمريكيين في دائرة الضغط على الاحتلال للمضي قدمًا نحو وقف الحرب. ولهذا، رفضت المقاومة طلبًا أمريكيًّا مباشرًا للإفراج عن أسرى أمريكيين خارج إطار اتفاق يشمل الوقف الفوري للحرب، والانسحاب الكامل من القطاع، وبدء عملية إعادة الإعمار.
المقاومة تعلم أن القبول بتبادل الأسرى دون وقف الحرب يعني إعطاء الاحتلال الضوء الأخضر لمواصلة العمليات العسكرية، مما يجعلها تخسر الورقة الأهم التي تمتلكها. لذلك، فالمقاومة مستعدة للعودة إلى القتال مهما كان الثمن، وتحمُّل كل التبعات مهما كانت جسيمة، عن الرضوخ لهذا السيناريو الأشبه بالانتحار.
حقيقة الموقف الأمريكي
بناءً على ما سبق من حقائق ومفاهيم انطلاقية، يمكن فهم الموقف الأمريكي الفعلي بالتالي:
لا يريد ترامب العودة إلى الحرب قبل الإفراج عن الأسرى، وهذا ما يهمه في المقام الأول، وسيبذل كل الجهد المطلوب بالضغط وبالتفاوض من أجل ذلك. وعليه كانت خطوة الذهاب إلى التفاوض المباشر السري مع حركة حماس دون علم العدو متسقة بشكل طبيعي مع أهدافه. بوصفه رجل صفقات، يفهم ترامب جيدًا موقف المقاومة، وأنها من المستحيل أن تقبل بأي اتفاق لا يشمل وقف الحرب وإعادة الإعمار، وأنها لم تعد تتعامل معه بوصفه ضامنًا للاتفاق، ولذلك فهي لن تفرج عن الأسرى الأمريكيين في أي اتفاق جانبي كي تضمن استمرار الضغط الأمريكي على العدو لاستكمال الاتفاق. تبدو تصريحات مبعوث ترامب “ويتكوف” أكثر عقلانية ودبلوماسية من تصريحات ترامب وفريقه. هذا التباين ليس إلا تكاملًا في الأدوار بينهم، فما يقوله “يتكوف” ويسعى إليه هو نفسه ما يريد ترامب تحقيقه، وهو ما يجب التركيز عليه دون التصريحات الأخرى، لأنه الشخص المفوَّض من ترامب في هذا الملف. لا يختلف طرح ترامب لفكرة التهجير كثيرًا عن طرحه لفكرة صفقة القرن، فكلتاهما فكرة بلا تصورات متماسكة ولا خطط واضحة ولا سبل موضوعية لتنفيذها. فالتهجير حل متسق مع شخصية ترامب التي تبحث عن صفقات بنتائج “مربحة وسريعة”، بعيدًا عن تعقيدات المشهد وتضارب مصالح جميع الأطراف، وهي تعقيدات لم يعتد ترامب التعاطي معها ولا يجيد التعامل معها.