سعيت للقراءة في كتب التراث التي تهتم بطرق إغواء الشيطان للإنسان، فاطلعت على كتاب “تلبيس إبليس” للإمام ابن الجوزي، وهو من أشهر الكتب التي تتناول موضوع الخداع الشيطاني، والتلبيس الذي يمارسه إبليس على الناس بمختلف فئاتهم، من العلماء والعباد إلى العوام وأهل البدع. ويتناول الكتاب أساليب الشيطان في إضلال الناس، وكيف يستخدم الحيل والمكائد لإبعادهم عن الصراط المستقيم. يركز ابن الجوزي على تأثير الشيطان في العلماء والزهاد والمتصوفة، موضحًا كيف يمكن أن يقع بعضهم في الابتداع أو الانحراف بسبب خداع إبليس. صراحة قراءتي في هذا الكتاب أدخلت في نفسي بعضًا من مشاعر الخوف والقلق، فالكتاب مملوء بقائمة طويلة لأسماء العلماء المشهورين في التاريخ الإسلامي، الذين -وفق منطق المؤلف- نجح إبليس في إغوائهم!
فقلت في نفسي: إذا كان إبليس بهذه القوة، ونجح في خداع كل هؤلاء، فهل ننجو نحن منه؟ فتوقفت عن القراءة فيه ساعتها، ثم بعد ذلك قمت بالتفكير في منطق المؤلف وأسلوبه المستخدم، وخلفيته الفقهية والمذهبية، فوجدت أنه ينتمي إلى المذهب الحنبلي، وهو على خلاف محتدم مع المنهج الصوفي والأشعري، وقد بالغ في تضخيم فعل الشيطان، وأعطاه قدرات وإمكانات أكبر مما عليه، فالقرآن أخبرنا بأن كيد الشيطان كان ضعيفًا، وأن الاستعاذة بالله منه كفيلة بالحماية منه، وأن الشيطان قد ينجح في خداع الإنسان بعض الوقت، لكن المؤمن قادر على الإفاقة سريعًا والخروج من شباكه، مصداقًا لقول الله تعالى {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 200-201).
سيرة “أبو حامد الغزالي”
ثم تفكرت في سيرة الإمام “أبو حامد الغزالي” صاحب كتاب “إحياء علوم الدين”، الذي ذكره مؤلف كتاب “تلبيس إبليس” بوصفه أحد ضحايا الخداع الشيطاني، فوجدت أن هذا الإمام الجليل صاحب العقل الجبار والقلب المؤمن، قد وقع في أزمة نفسية شديدة نتيجة انهيار مشروعه العلمي (المدرسة النظامية)، وسقوط النظام السياسي الداعم له، وأنه -وفق منطق علم النفس- تعرَّض لوسواس قهري، قاده إلى العزلة عن الناس، وترك تدريس العلم، والاعتكاف في المسجد الأموي في دمشق. الشاهد أن الغزالي تعرَّض لأزمة نفسية شديدة، ولم يكن ما مر به ناتجًا عن تلبيس من إبليس كما ادعى ابن الجوزي، إذ أرجع كل الانحرافات التي تقع للمؤمنين إلى الشيطان! وهو أمر غير صحيح، وإنما هناك عوامل شتى في معظمها اجتماعية ونفسية وفكرية، أو بمعنى آخر ليس كل من عارض مذهبًا دينيًّا سائدًا، أو رأيًا فقهيًّا منتشرًا، أو نمطًا مُتبعًا للتدين، يُعَد منحرفًا عن الدين قد خدعه الشيطان. وعندما قمت بهذا النقد للكتاب هدأت نفسي وسكنت، وصغر عندي موضوع تأثير الشيطان في الإنسان، الذي كرَّمه الله تعالى ورفع قدره، نعم هناك تأثير للشيطان لكنه طفيف ومحدود، والله تكفل بالاستجابة والعون لكل من طلب منه النجاة من مكائده.
خلاصة رحلتي مع هذا الكتاب وغيره من كتب التراث في قصة الشيطان، يمكن حصرها في التالي:
أولًا: معظم التراث الإسلامي بالغ في تأثير الشيطان في الإنسان، وهذا منطق مخالف لصريح القرآن، وينبغي تقييم كل ما ورد في التراث في ضوء محكمات القرآن، التي جعلت الإنسان هو الكائن المكرَّم، والمسؤول على قراراته وأفعاله.
ثانيًا: ينبغي التعامل بانتباه مع تعاطي كتب التراث خاصة في علاقتنا بالعوالم الأخرى مثل الجن والشياطين، فالفكر السائد في الموروث الديني والشعبي جعل للشيطان والجن هيمنة على الإنسان، وهذا فتح على المؤمنين بوابات نحو الخضوع للخرافة والجهل، والسقوط في قبضة الدجالين والمشعوذين.
ثالثًا: القرآن أقر بالعداوة بين الإنسان والشيطان، وأمر الإنسان بأن يتخذ الشيطان عدوًّا، وأوضح لنا أن أفضل طريق للانتصار عليه هو التقوى والاستعاذة منه، فقال الله سبحانه {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل: 98-100). فدورك مع الشيطان أن تستعيذ بالله منه، ولا تضخم دوره، ولا تشتبك معه، واستعن بالله عليه، واستمتع بحياتك وإيمانك.