التعريفات الجمركية الأمريكية الجديدة: آفاق استراتيجية للعالم العربي والإسلامي

ترامب أكد أن أكثر من 75 دولة تتفاوض مع واشنطن حول التجارة
ترامب (رويترز)

فرضت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا تعريفات جمركية جديدة على العديد من دول العالم، بما فيها دول في العالم الإسلامي والعربي. تظهر هذه التعريفات تفاوتًا كبيرًا بين الدول، وتستدعي تفكيرًا استراتيجيًّا في كيفية التعامل مع تداعياتها المحتملة. يتناول هذا المقال تحليلًا لهذه التعريفات والفرص الاستراتيجية الحقيقية المتاحة للدول العربية والإسلامية، مع التركيز على الإصلاحات الهيكلية وتطوير القطاعات ذات القيمة المضافة العالية وتعزيز التجارة البينية.

وفقًا للبيانات الموضحة في القائمة الرسمية للتعريفات الجمركية، يظهر تباين واضح في التعريفات المفروضة على الدول العربية والإسلامية، حيث تم فرض الرسوم الجمركية التالية على البلاد العربية والإسلامية: سوريا 41%، العراق 39%،  ليبيا 31%، الجزائر 30%،  تونس 28%، الأردن 20%، مصر ودول الخليج العربي وبقية دول إفريقيا العربية 10%، بنغلاديش37%، إندونيسيا 32%، باكستان 29%، ماليزيا 24%، تركيا 10%.

آفاق استراتيجية للتعامل مع التعريفات الجديدة

في ضوء هذه التعريفات الجديدة، تبرز ثلاث فرص استراتيجية أساسية يمكن للعالم العربي والإسلامي استثمارها للتكيف مع الواقع الجديد وتحويل التحديات إلى فرص للتنمية المستدامة.

أولًا: تعزيز التجارة البينية العربية والإسلامية -نحو تكامل اقتصادي حقيقي

تشكل التجارة البينية العربية والإسلامية فرصة استراتيجية حقيقية، لكنها لم تصل بعد إلى إمكاناتها الكاملة. فرغم وجود سوق تضم أكثر من 1.8 مليار مستهلك، فإن التجارة البينية لا تزال متواضعة. لتحقيق تكامل اقتصادي فعّال، يمكن العمل على تفعيل الاتفاقيات التجارية القائمة ومعالجة عوائق تنفيذها، مثل اتفاقية التجارة الحرة العربية الكبرى. ونظام الأفضليات التجارية بين دول منظمة التعاون الإسلامي موجود بالفعل، لكن تنفيذه يواجه تحديات مثل العوائق غير الجمركية والإجراءات البيروقراطية، واختلاف المعايير والمواصفات بين الدول، وضعف البنية التحتية للنقل واللوجستيات بين الدول العربية والإسلامية.

تتطلب معالجة هذه العوائق إرادة سياسية قوية وتنسيقًا أفضل بين الجهات المعنية في الدول الأعضاء، إلى جانب تبسيط الإجراءات الجمركية والإدارية، وتوحيد المعايير والمواصفات، وإنشاء سلاسل قيمة إقليمية متكاملة.

ويمكن للدول العربية والإسلامية التعاون لإنشاء سلاسل قيمة إقليمية متكاملة، تساهم كل دولة فيها بما تتميز به من إمكانات وموارد. على سبيل المثال الاستفادة من الموارد الطبيعية في بعض الدول (مثل النفط في الخليج)، والاستفادة من القدرات التصنيعية في دول أخرى (مثل تركيا وماليزيا)، والاستفادة من الموارد البشرية والعمالة في دول أخرى (مثل مصر وباكستان).

هذا التكامل سيؤدي إلى زيادة القدرة التنافسية للمنتجات العربية والإسلامية في الأسواق العالمية، وسيقلل من الاعتماد على الأسواق الخارجية.

وكذلك تطوير منظومة مالية إسلامية متكاملة لدعم التجارة البينية، هناك حاجة إلى تطوير منظومة مالية إسلامية متكاملة تشمل تعزيز دور المؤسسة الإسلامية لتمويل التجارة وبنك التنمية الإسلامي، وتطوير آليات للمدفوعات البينية تقلل الاعتماد على العملات الأجنبية، وإنشاء منصات رقمية للتجارة البينية تسهل التواصل بين المصدرين والمستوردين، وتطوير آليات للتأمين على الصادرات وضمان القروض التجارية.

ثانيًا: تطوير القطاعات ذات القيمة المضافة العالية -التحول نحو اقتصاد المعرفة

تُعد القطاعات ذات القيمة المضافة العالية أقل تأثرًا بالتعريفات الجمركية نظرًا إلى قيمتها العالية مقارنة بتكاليف النقل والتعريفات. كما أنها توفر فرص عمل ذات جودة أعلى وتساهم في بناء اقتصادات أكثر استدامة. تشمل الاستراتيجيات الرئيسية في هذا المجال:

الاستثمار في الصناعات ذات التقنية المتقدمة، حيث يمكن للدول العربية والإسلامية التركيز على تطوير الصناعات الطبية والصيدلانية بتطوير قدرات محلية لإنتاج الأدوية والمستلزمات الطبية والأجهزة الطبية، مستفيدة من النمو العالمي في هذا القطاع.

تقنيات الطاقة المتجددة: الاستثمار في تصنيع ألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح وتقنيات تخزين الطاقة، خاصة مع توفر الموارد الطبيعية اللازمة (الطاقة الشمسية) في معظم الدول العربية والإسلامية.

الإلكترونيات والأجهزة الذكية والبناء على الخبرة الموجودة في دول مثل ماليزيا للتوسع في هذا القطاع الواعد.

تطوير الاقتصاد الرقمي، الذي يعتبر أقل تأثرًا بالحواجز التجارية التقليدية ويمثل فرصة كبيرة للدول العربية والإسلامية في تطوير صناعة البرمجيات والاستفادة من المواهب الشابة في مجال تكنولوجيا المعلومات لتطوير صناعة برمجيات قوية، وخدمات التعهيد (Outsourcing): تقديم خدمات في مجالات مثل تطوير البرمجيات ومراكز الاتصال والخدمات المالية والمحاسبية، والتجارة الإلكترونية وإنشاء منصات تجارة إلكترونية إقليمية تربط بين المنتجين والمستهلكين في العالم العربي والإسلامي. والخدمات المالية الرقمية بتطوير حلول مبتكرة في مجال التكنولوجيا المالية (Fintech) وخاصة التمويل الإسلامي الرقمي.

الاستثمار في الاقتصاد الإبداعي الذي يشمل الصناعات التي تعتمد على الإبداع والابتكار والمهارات الفردية، مثل صناعة المحتوى بتطوير صناعة إنتاج المحتوى الإعلامي والترفيهي باللغة العربية ولغات أخرى، وتطوير قطاعات التصميم الصناعي والجرافيكي والأزياء والحرف اليدوية ذات القيمة العالية.

الخدمات التعليمية بتطوير منصات تعليمية رقمية ومحتوى تعليمي يلبي احتياجات العالم العربي والإسلامي.

ثالثًا: الإصلاحات الهيكلية والمؤسسية -بناء اقتصادات أكثر تنافسية واستدامة

تمثل الإصلاحات الهيكلية والمؤسسية ركيزة أساسية لتعزيز القدرة التنافسية ومواجهة التحديات الخارجية. تشمل الإصلاحات الرئيسية:

إصلاح بيئة الأعمال والاستثمار وهذا ضروري لجذب الاستثمارات وتعزيز التنافسية، بتبسيط الإجراءات الإدارية وتقليل الوقت والتكلفة اللازمين لتأسيس الشركات وممارسة الأعمال التجارية.

تطوير الأطر القانونية والتنظيمية بتحديث القوانين والتشريعات لتواكب احتياجات الاقتصاد الحديث وتوفر الحماية اللازمة للمستثمرين، تحسين حوكمة الشركات والمؤسسات لتعزيز الشفافية والمساءلة في القطاعين العام والخاص. ومكافحة الفساد وتعزيز سيادة القانون: تطبيق إجراءات صارمة لمكافحة الفساد وضمان تنفيذ العقود وحماية حقوق الملكية.

تطوير رأس المال البشري، إذ إن الاستثمار في رأس المال البشري ضروري للتحول نحو اقتصاد المعرفة، ويتم بإصلاح أنظمة التعليم والتركيز على تطوير المهارات التحليلية والإبداعية والتفكير النقدي، وربط التعليم باحتياجات سوق العمل، والتعليم والتدريب التقني والمهني بتطوير برامج تعليمية وتدريبية تلبي احتياجات القطاعات ذات القيمة المضافة العالية، والتعلم مدى الحياة بتشجيع ثقافة التعلم المستمر وإعادة تأهيل العمالة للتكيف مع المتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية، والاستثمار في البحث والتطوير بزيادة الإنفاق على البحث العلمي وتشجيع الابتكار وريادة الأعمال.

تطوير البنية التحتية وهو ضروري لدعم التجارة والاستثمار، وأهم مكونات البنية التحتية الواجبة التطوير البنية التحتية للنقل واللوجستيات بتطوير شبكات الطرق والموانئ والمطارات وخطوط السكك الحديدية لتسهيل حركة البضائع، والبنية التحتية الرقمية بتطوير شبكات الاتصالات ومراكز البيانات والخدمات السحابية لدعم الاقتصاد الرقمي، والبنية التحتية للطاقة بتطوير مصادر متنوعة ومستدامة للطاقة لدعم النمو الصناعي.

إنشاء مناطق اقتصادية متخصصة توفر بنية تحتية متطورة وحوافز للاستثمار في القطاعات المستهدفة.

تطوير الأسواق المالية، بتوفير أسواق مالية متطورة ضرورية لتمويل التنمية الاقتصادية، وأهم المطلوب في هذا المجال تعميق الأسواق المالية بزيادة السيولة وتنويع الأدوات المالية المتاحة، وتطوير التمويل الإسلامي والاستفادة من النمو العالمي في صناعة التمويل الإسلامي لجذب المزيد من الاستثمارات، ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة: تطوير آليات تمويلية مبتكرة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع رأس المال المخاطر: تطوير بيئة داعمة لصناديق رأس المال المخاطر للاستثمار في الشركات الناشئة المبتكرة.

وفي الختام فإن التعريفات الجمركية الأمريكية الجديدة تمثل تحديًا للعديد من الدول العربية والإسلامية، لكنها في الوقت نفسه تقدم حافزًا لإعادة التفكير في الاستراتيجيات الاقتصادية والتنموية من خلال تعزيز التجارة البينية، وتطوير القطاعات ذات القيمة المضافة العالية، وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية والمؤسسية اللازمة، ويمكن للدول العربية والإسلامية تحويل هذه التحديات إلى فرص حقيقية للتنمية المستدامة.

النجاح في هذا المسعى يتطلب رؤية استراتيجية واضحة، وإرادة سياسية قوية، وتعاونًا وثيقًا بين مختلف الأطراف المعنية، بما في ذلك الحكومات والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية والمجتمع المدني. ومن خلال العمل المشترك، يمكن للعالم العربي والإسلامي بناء مستقبل اقتصادي أكثر ازدهارًا واستدامة واستقلالية.


إعلان