تعيش إسرائيل حالة من الارتياح بسبب الدعم الذي يوفره لها النظام العالمي، والذي أعطاها مساحة واسعة للتصرف، مما جعلها تتصرف بثقة مفرطة.
فقد بدأت إسرائيل تتوهم أنه يمكنها فعل أي شيء تريده دون التفكير في العواقب أو إمكانية معاقبتها، وذلك لأنها زرعت الخوف في الدول المجاورة لها، لكن هذا الوهم -ككل الأوهام- منفصل تمامًا عن الواقع.
وشهد العالم في الفترة الأخيرة التهور الإسرائيلي في الهجمات التي شنتها داخل الأراضي السورية، والتي كانت تحمل رسائل واضحة لتركيا.
وقد يتساءل بعضنا: كيف يمكن أن تكون ضربة في سوريا موجَّهة إلى تركيا؟ أو ما علاقة ما يحدث في سوريا بتركيا من الأساس؟
الجواب بسيط: لم تعد الملفات الإقليمية معزولة فيما بينها، فكل ما يحدث -أو قد يحدث- في سوريا أو ليبيا أو البلقان أو قره باغ أو قبرص أو حتى في القرن الإفريقي، بات يرتبط بشكل مباشر بالأمن القومي التركي.
وبرأيي، فإن تجاهل إسرائيل هذه الحقيقة هو السبب الجوهري في سوء تقديرها السياسي في سوريا.
وبغضّ النظر عما يقال، فهناك بعض الحقائق الجديدة في سوريا:
الحقيقة الأولى: سوريا باتت تحت إدارة جديدة.
الحقيقة الثانية: هذه الإدارة تتصرف بوعي وثقة، وتتحرك وفق خطة لا بردود أفعال.
الحقيقة الثالثة: كل قوة وكل مكسب تحققه الدولة السورية يُعَد خسارة مباشرة لإسرائيل.
من الواضح أن إسرائيل تدرك فقط الحقيقة الأخيرة، أي أن كل تقدُّم تحققه سوريا سيكون ضدها. لكن الأهم من ذلك، هو أن إسرائيل قد تغافلت عن الحقيقة الثانية، التي تكمن في القوة العقلانية الجديدة التي تمتلكها الإدارة السورية الجديدة.
فالحكومة الجديدة في سوريا تتصرف بوعي، وستتحرك بشكل عقلاني وعلى خطى هادئة. ولذلك، يمكننا القول إن أي مجتمع ينجح في أن يصبح دولة، سيحقق النصر في النهاية، عاجلًا أم آجلًا.
لكن النصر لم يعد يعني سوريا فقط، بل أصبح يشمل دولًا أخرى في المنطقة، وعلى رأسها تركيا.
لم تعد تركيا مجرد موضوع نقاش على طاولات الآخرين، فقد ازداد نفوذها بفضل الزخم والإنجازات العسكرية التي حققتها في ربع القرن الأخير، إذ أصبحت لاعبًا أساسيًّا في منطقة الشرق الأوسط، ولم يعد قرارها يخضع للتأثيرات الخارجية.
وأوضح مثال على ذلك هو فشل إسرائيل في انتزاع دعم أمريكي صريح ضد تركيا، مما اضطرها إلى العودة خالية الوفاض، وهو ما يعكس أن القرار بشأن تركيا أصبح حصريًّا بيد أنقرة، ولا يحق لأحد التدخل فيه.
السياسة الخارجية التركية
عند النظر إلى السياسة الخارجية التركية منذ نشوء الجمهورية، نلاحظ أنها مرت بمرحلتين أساسيتين تكمل إحداهما الأخرى.
المرحلة الأولى كانت تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي صاغ سياسة “سلام في الداخل. سلام في العالم”، وهي سياسة تعتمد على الحياد والتركيز على الأمن الداخلي وتجنُّب المواجهات المباشرة.
تلك السياسة بقيت تشكل العقيدة الأساسية لتركيا حتى وقت قريب، على الرغم من بعض الاستثناءات مثل تدخلها في قبرص عام 1974. ولكن مع مرور الزمن، وتحديدًا في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، بدأ التحول.
في السنوات الأخيرة، بدأت المرحلة الثانية، وبدأنا نرى تحولًا حقيقيًّا في السياسة التركية. فمع صعود الرئيس رجب طيب أردوغان، جرى تبنّي مبدأ جديد “عالم أكثر عدلًا ممكن”.
وهذا الشعار يعكس تغيرًا كبيرًا في الاستراتيجية التركية، إذ أصبحت تركيا تسعى إلى أن تكون فاعلة، وأن تضع بصمتها في تشكيل مستقبل المنطقة والعالم.
ما تحاول إسرائيل فعله اليوم هو دفع الدولة والأمة التركية إلى الانخراط في معركة قبل أوانها في سوريا، لكن الحقيقة التي تغفل عنها إسرائيل هي أن “عقل الدولة” التركي قد حدد توقيت هذه المعركة سلفًا، وبدأ الاستعداد لها منذ وقت طويل.
فكل خطوة تتخذها تركيا وكل مشروع تطلقه، سواء أكان في سوريا أم في أي مكان آخر، هو جزء من هذا الاستعداد المتواصل.
إحدى الحقائق التي يجب وضعها في الحسبان هي أن “التحمل” لم يكن يومًا مجرد ضعف أو انتظار، بل كان جزءًا من التحضير للمرحلة القادمة.
أما الآن، فلم تعد عبارة “إما التحمل أو الحرب” ملائمة، لأن الاستعداد للحرب قد بدأ فعلًا، والتحمل أصبح جزءًا من الاستعداد للعملية الكبرى، ولا مجال الآن للانتظار.
وبالنسبة للنصر فإنه ليس الهدف الأساسي في هذه اللحظة، فالقضية لا تكمن في بلوغ النهاية، بل في خوض المعركة.