في زمنٍ عزّ فيه الإصغاء إلى صوت القلب، وغلب فيه ضجيج الأحكام المسبقة، يطلّ علينا الفنان اللبناني فضل شاكر عبر وثائقي “يا غايب” المعروض على منصة “شاهد”، ليحدثنا عن نفسه لأول مرة، حديث المعرِّف لا المتَّهم، وحديث الكاشف لا المدافع عن ذاته.
في هذا العمل المتداخل بين التوثيق والتمثيل، يضع شاكر بين أيدينا سردًا صادقًا لمسيرته منذ بداياته الطربية، مرورًا بقراره الاعتزال، ثم العودة المشوبة بجدل عاصف وملفات قضائية ألقت بظلالها الثقيلة على حياته ومشواره الفني.
في هذا الوثائقي، نرى فضل شاكر الطفل، الباحث عن لقمة العيش، من سكن الميتم، ومن تعثر حتى صار مغنيًا. نراه إنسانًا أثقلته المظالم، سواء كانت ظنونًا أو حقائق، لكنه يقف أمام جمهوره لا ليغني، بل ليقصّ قصته، طالبًا أن يُحكم عليه بعين الحق لا بعين الهوى.
فأي قلب لا يتوقف حين يرى فضلًا يتحدث عن لحظات ضعفه وانسياقه، ثم رغبته في العودة إلى الحياة التي فارقها؟
وأي ضمير لا يتساءل أمام عبارات الأسى التي تتسرب من صوته: أين الحق فيما نراه؟ وهل يمكن للعدالة أن تبقى سجينة السياسة، رهينة المواقف المتوترة؟ أم أن عليها أن تتحرر لتنظر إلى فضل كما هو، لا كما يشتهي الخصوم أو يتخوف الأنصار؟
لقد كان فضل شاكر، في زمن مضى، أحد أنقى الأصوات التي ترددها القلوب قبل المسامع. تسلل إلينا عبر أغنياته التي عبقت بالحب والوجد، حتى أصبح رمزًا للطرب قبل أن تحاصره الأحداث وتغمره الشبهات. ومن هنا، يفرض “يا غايب” نفسه لا باعتباره عملا فنيا فحسب، بل بوصفه مرآة لجرح لبناني أعمق: جرح الإنسان الذي قد تطيح به العواصف، لكن يظل له الحق في الدفاع، وحق في العودة.
هل أخطأ فضل؟ سؤال للضمير لا للهوى
المشاهد لفضل شاكر في هذا الوثائقي يلحظ نبرةً أقرب إلى البوح منها إلى الدفاع. وكأن الرجل، وقد ضاقت عليه السبل، لم يجد من سبيل إلا أن يحكي. لا يستجدي عطفًا، ولا ليطالب بإعفاء مطلق، بل ليقول فقط: أنصفوني!
ومن هنا، تفرض الأسئلة نفسها، لا دفاعًا عن شخص، بل عن مبدأ: إذا كانت الأحكام النهائية لم تصدر بعد، أليس من العدل، قبل الإدانة الإعلامية والاجتماعية، أن ننتظر كلمة القضاء النزيه؟
وإذا أعلن الرجل استعداده للمثول أمام المحكمة، فلماذا يظل سجين الاحتراب الإعلامي أكثر من كونه سجين العدالة؟
وإذا كنا ندعو إلى المصالحة الوطنية، ألا يجدر بنا أن نفتح ملف فضل شاكر بمنطق المصالحة أيضًا، لا بمنطق تصفية الحسابات؟
إن العفو، في موازين الإنسانية، لا يكون ضعفًا، بل قد يكون قمة القوة حين يكون في موضعه، إذا كان المقصد الأعلى هو حقن الدماء، وتحقيق السلم الأهلي، والتئام الجراح.
فضل شاكر.. بين الغربة في الوطن والوطنية في الغربة
لم يهاجر فضل إلى قارة بعيدة، ولم يسعَ إلى جنسية بديلة، بل ظلّ قابضًا على أرضه، متشبثًا بمدينته صيدا، منتظرًا -بصبر المؤمنين- اليوم الذي يعود فيه إلى حضن لبنان، حرًّا لا فارًّا، بريئًا لا مدانًا، فنانًا لا محاصرًا.
أي مفارقة هذه، حين يجد فنانٌ كتب أجمل قصائد الحب والغرام نفسه موصومًا بالكراهية؟
وأي عدالة هذه التي لا تحسم أمرها مع رجل يصرخ منذ سنوات: “حاكموني أو برئوني، ولكن لا تتركوني معلقًا بين السماء والأرض!”.
“يا غايب”… حضور رغم الغياب
لم يكن عنوان الوثائقي “يا غايب” اختيارًا عابرًا.
إنه يحمل أصداء الأغنية الشهيرة التي غنّاها فضل، ولكن هنا يتحول إلى استعارة مريرة: غيابه عن الساحة الفنية، وغياب العدالة عن البتّ في قضيته، وغياب الإنصاف عن عقولٍ استسهلت الإدانة بلا تثبت.
ومع ذلك، فإن القلوب التي عرفت فضلًا الإنسان قبل الفنان، لم تغب عنه.
بقي كثيرون ينتظرون اليوم الذي يعود فيه إلى المسرح، لا ليغني فقط، بل ليقول:
ها أنا ذا.. أخطأت أو لم أخطئ، لكنني ابن هذه الأرض، ولن أكون خصمًا لها.
مناشدة للحكومة اللبنانية: أعيدوا الحق إلى نصابه
من هذا المنبر، ومن كل منبر يحترم الإنسان، نوجّه مناشدة صادقة للحكومة اللبنانية، بجميع مؤسساتها القضائية والإنسانية:
أعيدوا النظر في قضية فضل شاكر بمنظار العدالة، لا التشفي، وبميزان القانون، لا الاصطفاف.
لا نطلب إعفاءً أعمى، ولا غفرانًا دون محاسبة، بل نطلب محاكمة عادلة، تنصف الرجل إن كان بريئًا، وتحاسبه إن ثبت عليه جرم، لكنها لا تتركه سجين الظنون.
ما أضيق الوطن إن صار مقصلة دائمة، وما أوسعه إن فتح أبوابه لمن تاب، وطلب الصفح من أرضه وشعبه!
ختامًا
“يا غايب” شهادة على زمن معلق، مسلسل “يا غايب” ليس مجرد وثائقي، بل شهادة دامعة عن إنسان وقع بين تقلبات السياسة وظروف اللحظة.
وهو قبل أن يكون قصة فضل شاكر، هو قصة وطن بحاجة إلى أن يتصالح مع ذاته، ويقيم ميزان الحق، ويغفر حيث يُغتفر.
ويبقى السؤال معلقًا أمام كل ضمير حي: هل سنُبقي فضل شاكر غائبًا أم سنمنحه فرصة الظهور أمام الحق، مهما كانت النتيجة؟