لا تُصدّق الكذبة التي تُرضيك… ولا تُكذّب الحقيقة التي تُغضبك.
وماذا بعد ذلك؟ “لقد حدث ما حدث، ولن يجدي النقاش في أمر صار واقعًا بالفعل”. على الرغم من أن هذه الجملة تبدو معقدة، فإنها تلخص بشكل لافت للنظر العملية برمتها في سياق السياسة الخارجية للكيان الإسرائيلي وسلوكه العدواني.
حتى وإن استمرت إسرائيل في طريقها الهمجي من خلال تصعيد عدوانها تدريجيًّا، معتقدة أنها بذلك تحقق تفوقًا نفسيًّا، فإن بعض الحقائق قد تختلف عما يبدو عليه المشهد؛ فإسرائيل حين شنّت هجومها الخبيث على قطر، لم تكن الدناءة والوحشية فقط في طبيعة الهجوم ذاته، بل أيضًا في استهدافها وفد التفاوض هناك.
لكن هذا الهجوم فشل بفعل تدخل حاسم من عقل أو دولة أو جهاز استخباري. وهذا الفشل في عملية معقدة كهذه يحمل دلالات بالغة الأهمية؛ لأن أي دولة تفشل في عملية كهذه يجب ألا يغيب عنها، ولو لحظة، أن الحركة القادمة في رقعة الشطرنج ستكون عليها، وأن دورها في الخطوة التالية هو أن تكون هدفًا لهجوم مضاد. وسنشهد عاجلًا أو آجلًا أن دور إسرائيل قد حان في تلقي الضربة التي تستحقها.
تصنع نهايتها
إن الخطأ الكبير في سياسة إسرائيل العدوانية واضح للعيان، لدرجة أنه لو سقط عليها نيزك من السماء وأدى إلى إبادة الدولة العنصرية المحتلة بكاملها ـوهو أمر تعلقت به الآمال ورغب كثيرون في حصولهـ فسيكون من الصعب العثور حتى على حفنة من الناس تبكي عليها بين الأمم.
وهذا يدل على أن إسرائيل تصنع نهايتها بنفسها، وتسببت بأفعالها الوحشية في فقدانها الدعم الأممي الذي كانت تستند إليه منذ إعلان وجودها، ولهذا لن يبقى لها أي أثر.
والأمر ليس معقدًا؛ فأمريكا تعلن بوضوح أن الإنفاق العسكري الدفاعي في منطقة الشرق الأوسط من خلال قطر لا طائل منه، وأن الحماية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال قطر نفسها، كما تطالب الدوحة بالابتعاد عن حماس. إذن فأين يذهب مسؤولو حماس؟
والحقيقة أنه ليس من الصعب معرفة وجهتهم؛ فقد نشرت الكاتبة الإسرائيلية ريفكا شوريك مؤخرًا تقريرًا جاء فيه أن أعضاء الكونغرس اقترحوا سلسلة من التعديلات على مشروع قانون ميزانية الدفاع الوطني لعام 2026 بهدف الحد من مبيعات الأسلحة لتركيا. ووفقًا للتقرير، فإن التعديل الذي قدّمه النائب الجمهوري غوس بيليراكيس والنائب الديمقراطي براد شنايدر من شأنه أن يحظر بيع طائرات إف-35 المقاتلة لتركيا.
ومع ذلك فإن هذا الحظر كان من المقرر رفعه إذا أكّد البيت الأبيض أن أنقرة لا تقدم دعمًا كبيرًا لحماس أو أي من المنظمات التابعة لها. وبعبارة أخرى فإن أمريكا وإسرائيل توجهان رسالة إلى قطر لدعمها حماس، وفي الوقت نفسه تلوِّحان بعقوبات لتركيا باعتبارها الموطن الطبيعي لمسؤولي حماس.
الدبلوماسية التركية
ولو تصرفت الحكومة التركية بعاطفة وأظهرت تضامنًا مع حماس، فقد تواجه صعوبات سياسية كبيرة، وربما لا يتم تفعيل المادة الخامسة للناتو في حال شنت إسرائيل هجومًا على تركيا.
والواقع أن الدبلوماسية التركية تدرك عمق اللعبة الجارية، وربما بدأت تأسيس استراتيجيتها الخاصة، ولهذا فمن المتوقع أن تشهد علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تحسنًا ملحوظًا في القريب العاجل؛ فممارسة السياسة على المستوى العالمي تتطلب إعادة توازن عدة حسابات في الوقت نفسه، ففي بعض الأحيان يكون الهدف كسب الوقت، وأحيانًا اكتساب الاحترام والقوة. وعندما يحين الوقت، تصبح أنت من يمنح الوقت والاحترام والقوة. وبالنسبة لتركيا، فإن ذلك اليوم يقترب، لكنها ما زالت تحتاج إلى المزيد من الوقت.
وماذا بعد ذلك؟
من الضروري العودة إلى الجملة الأولى؛ فصنع السياسة يستند إلى المبدأ الذي تقوم عليه الاستراتيجية العدوانية للعدو. وبعبارة أخرى: “ما حدث قد حدث، ولا يمكن النقاش في وقوع ما وقع”، ولا حاجة للبكاء على اللبن المسكوب.
يجب على الدول التي تزعجها إسرائيل ـبغض النظر عن الجغرافياـ أن تفعل شيئًا. وفي هذا السياق لا أعني مجرد التفكير دون الفعل، بل تقديم الفعل الميداني. والجميع يدرك حقيقة أن مثل هذه الخطوة ستكون صعبة لكنها ليست مستحيلة، وتحقيقها هو مسألة إرادة.

