عصيدة “الزقوقو” طقس تونسي للاحتفال بالمولد النبوي الشريف يهدده الغلاء (شاهد)

يستقبل التونسيون المولد النبوي الشريف في المساجد ومقامات الأولياء الصالحين، بقراءة القرآن الكريم وتبادل التهاني والتبريكات بين الأهل والأصدقاء والأحبة، وقراءة أو سماع سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، وكذلك بالأهازيج والمدائح النبوية والثناء على الرسول الكريم.
وتتفنن التونسيات في إعداد “العصيدة” وتزيينها وتوزيعها على الأقارب والأصدقاء، وتعرض المحلات مستلزمات إعداد العصائد من أوانٍ وملاعق خشبية وأوعية طبخ، إلى جوار أنواع الفواكه المجففة وأصناف الحلويات.
وتنفرد تونس بعادة طهي “عصيدة الزقوقو”، في المولد النبوي الشريف، وهي حلوى تتكون أساسًا من الصنوبر الحلبي، يتوارثها التونسيون جيلًا بعد جيل، مع إضفاء لمسات عصرية عليها.
عندما تشير عقارب الساعة إلى الخامسة مساءً، تدخل نجاة ترجمان المطبخ لتعدّ الطبق الذي ينتظره جميع أفراد العائلة مع حلول المولد النبوي الشريف، ألا وهو طبق “عصيدة الزقوقو”، إحدى أشهر الحلويات التونسية، التي تصنع من الصنوبر الحلبي، المعروف في تونس باسم “الزقوقو”، وتُعدّ خصيصًا للاحتفال بالمولد النبوي، في تقليد تونسي خالص.
انطلقت نجاة في التحضير لهذه المناسبة منذ ما يزيد على أسبوع، لما تتطلّبه هذه الحلويات من وقت ومراحل عديدة تتمثل في تنظيف الصنوبر الحلبي من الشوائب، وغسله، وطحنه في الرّحى، وغربلته ليصبح جاهزًا للطهي.

وتحدثنا نجاة عن هذه التقاليد الضاربة في التاريخ، قائلةً “إعداد عصيدة الزقوقو في المولد النبوي، عادة دأبتُ عليها منذ عقود. فبعد أن أنظف الزقوقو جيدا وأتأكد من خلوه من أي شوائب، أطحنه وأغربله في الرّحى، ثم أضيف إليه الدقيق والماء والسكر، وأطهوه حتى يتماسك”.
وبالتوازي، تحضر نجاة “الكريمة” وهي خليط من الحليب والبيض والسكر والنشا، ثم تضع خليط الزقوقو في صِحاف، وتضع عليه الكريمة، بعد أن تتماسك لإضفاء جمال ولذة على طعمها، ثم يأتي دور التزيين الذي تنتظره ابنتها نادية وتتفنن فيه.
تجلس نادية و أخواتها محاطات بصحاف الزقوقو ويشرعن في تزينها بكل أنواع المكسرات والفواكه الجافة، كالفستق والبندق والجوز واللوز وحلويات أخرى.
تقول نجاة إنها رغم ما يتطلبه طبق الزقزقو من جهد، تنتظر سنويا هذه المناسبة لتجمع كل أبنائها وأحفادها ليتمتعوا بلذة الطبق، ولتقدمه للضيوف من الأهل والأحباب في الأيام التي تلي المولد النبوي.
“المجاعة أُمّ الاختراع”
بحسب المؤرخ التونسي عبد الستار عمامو فإن استعمال “الزقوقو”، قد ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ويقول عمامو إن اللجوء إلى استعمال هذه الثمرة تم خلال سنوات الجفاف التي تلت ثورة علي بن غداهم سنة 1864، ووقعت خلالها مجاعة بسبب تراجع محاصيل الحبوب.
وقد اضطرت العديد من العائلات التونسية إلى اعتماد تلك المادة لتعويض النقص الحاد في الحبوب، ونظرًا إلى نكهتها الطيبة فقد أصبحت أكلة يتفنن التونسيون في إعدادها بإضافة الفواكه الجافة.

ويشير عبد الستار عمامو إلى أنه بعد خروج البلاد من فترة الجفاف ظل استعمال الزقوقو يعيد إلى الأذهان المجاعة والفقر، وحتى عندما بدأ استعماله يتسرب شيئًا فشيئًا إلى العائلات التونسية، ظلت العائلات الكبرى خاصة في العاصمة (ممن يُسمّون بالبلدية) ترى استعماله عيبًا.
عرفت عصيدة الزقوقو تطورات كبيرة من ناحية طرق إعدادها، حيث أصبحت تضاف إلى عجينتها فواكه جافة كاللوز والبندق والفستق، ثم بدأت هذه الأكلة تأخذ صدى كبيرًا إلى أن انخرطت فيها العائلات الثرية وأصبحت تتفنن في إعدادها.
أكلة الفقير أصبحت مكلفة جدًّا
بسبب الإقبال الكثيف عليه، يشهد سعر كيلوغرام “الزقوقو” سنويًّا، ارتفاعًا ملحوظًا، ليبلغ هذه السنة 36 دينارًا (نحو 13 دولارًا)، وبإضافة سعر الفواكه المجففة، ولوازم التزيين، فإن كلفة “عصيدة الزقوقو” تتجاوز 150 دينارًا (53 دولارًا).
وعلى الرغم من تكلفتها الباهظة التي تزامنت مع مقدرة شرائية متدهورة لدى المواطن التونسي، بسبب الأزمة الاقتصادية الأخيرة، فإن المستهلك يُقبل عليها سنويًّا. تقول نجاة “لا تهمني المصاريف المادية رغم التكلفة المتضاعفة كل عام أمام فرحة العائلة بهذه الحلويات”.
وتسبق إعداد طبق عصيدة “الزقوقو” الشهي الذي تنفرد به تونس، عملية شاقة في الحصول على حباته السوداء، حيث يتسلق الرجال أشجار الصنوبر الحلبي، ويجمعون مخاريطه التي توضع فيما بعد في أفران عالية الحرارة ساعات طويلة حتى تنضج، وعندما تفتح بمفعول الحرارة تخرج حبات الصنوبر الحلبي، وقتها فقط تكون مادة قابلة للبيع في الأسواق.
يشار إلى أن الصنوبر الحلبي ينبت أساسا في غابات الشمال الغربي لتونس، ويمتد على مساحة أكثر من 300 ألف هكتار في غابات سليانة والكاف وجندوبة، ويعتبر تجميعه مورد رزق موسميًّا لمئات العائلات التي تتنقل إلى الغابات كل خريف، وتنصب الخيام، وتعمل على جمع مخاريط الصنوبر ثم تسخينها في أفران تبنى لهذا الغرض، قبل تجميع المحصول وبيعه في الأسواق.