“مشروع جريان”.. دلتا جديدة بصحراء مصر تثير جدلا بشأن أولويات الإنفاق وتهديد مياه النيل

على مشارف قرية “ذات الكوم” بمحافظة الجيزة يواصل المزارع أبو عيسى الليل بالنهار لتأمين مياه الري لأربعة أفدنة مزروعة بخضراوات متنوعة، ويضطر إلى الاستعانة بماكينة للري عبر المياه الجوفية، رغم أنه يقع في أحضان الدلتا القديمة، وتفصله كيلومترات قليلة عن مجرى النيل.
ورد أبو عيسى بسخرية شديدة، كما قال للجزيرة مباشر، على اتصال من إحدى شركات التطوير العقاري لعرض شراء شقة سكنية صغيرة بمشروع “الدلتا الجديدة” بسعر لا يقل عن 40 مليون جنيه (الدولار يعادل 50 جنيها تقريبا).
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمخاوف في مصر بعد إلغاء شهادة “المنشأ الحلال” عن منتجات الألبان الأمريكية
الذهب يحلق عاليا وسط مخاوف سياسية وتجارية.. تعرف على سعره في السوق المصري
أكثر من 10 ملايين مدخن.. أرقام صادمة تهدد الأسرة المصرية
ويشير أبو عيسى وهو موظف سابق بوزارة الري في حزن شديد إلى مجرى مائي قريب تعرض للانسداد بسبب تلال القمامة وزحف المباني على الأرض الزراعية قائلا “المياه لم تعد تصل من ترعة الزمر القريبة من هنا وهي أحد أطول الترع في مصر”.
ويضيف “كان الأولى ضخ المياه إلى الدلتا القديمة بدلا من رفعها إلى الصحراء بتكلفة أعلى”.

توازي مساحة 5 محافظات
وبينما لم تكشف الحكومة عن تكلفة المشروع الذي ينفذه جهاز “مستقبل مصر”، بالشراكة مع 3 شركات تطوير عقاري مصرية كبرى، أوضح رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي أن “الدلتا الجديدة توازي مساحة 5 محافظات”، ونفى استغلال المشروع الذي يحمل اسم “جريان” لمياه النيل لصالح العقارات.
وطبقا لمجلس الوزراء المصري فإن المشروع الذي يثير جدلا متزايدا يعد الأكبر لاستصلاح الأراضي بمساحة ستصل إلى 2.2 مليون فدان مع البدء بـ1600 فدان، بعد تخصيص ممر مائي بطول 41.3 كيلومترا وعرض يصل إلى 120 مترا لنقل 10 ملايين متر مكعب يوميا من مياه النيل الواردة من فرع رشيد. ويهدف المشروع، وفق مجلس الوزراء، لزيادة المساحة المزروعة بنسبة 23% من المساحة الزراعية الحالية بمصر.
توسع عمراني وأزمة مياه
واعتبر المتحدث باسم وزارة الزراعة محمد القرش في تصريحات صحفية أن الهدف هو الخروج من الوادي الضيق بإضافة دلتا جديدة تقع على امتداد طريق محور “روض الفرج – الضبعة”، وتبعد 30 دقيقة عن مدينة 6 أكتوبر” بجنوب غرب القاهرة.
وتتحدث الحكومة عن ثورة عمرانية وناطحات سحاب تتشابك من خلالها أهداف المطورين العقاريين مع الآمال بزراعة مئات الآلاف من الأفدنة في حين تطرح علامات الاستفهام بشأن الاستفادة من مياه النيل على خلفية الشح المائي المتوقع.
ويدافع مجدي تبارك -وهو مهندس تخطيط بتحالف الشركات التي ستتولى تنفيذ المشروع- عن اتهامات باستنزاف مياه النيل لصالح المشروع العقاري الضخم الذي تصل بعض أسعار وحداته إلى 175 مليون جنيه.
وقال تبارك للجزيرة مباشر إن نقل المياه سيتم جزء منه عبر مواسير عملاقة لتجنب أخطار التسرب بالرمال وعوامل التبخر. كما اعتبر التوجه الحكومي لتأهيل أن الترع ومعالجة مياه الصرف الزراعي والصرف الصحي سيمنع أي تأثيرات سلبية مستقبلا.
ورأى أن المشروع استثمار مهم للمستقبل وسيوفر الآلاف من فرص العمل والإسكان الفاخر مشيرا إلى إقبال متزايد على الشراء رغم أن المشروع سيرى النور بعد نحو خمس سنوات.
وذهب إلى أن سوق العقارات المصري يعاني بعض المتاعب “لكن الفئات التي تبحث عن إسكان فاخر بإطلالة استثنائية على النيل موجودة ولديها ملاءة مالية”. وأشار إلى “تصميم حكومي على تعظيم الاستفادة من فرع النيل الجديد عبر خلق مجتمع زراعي جديد رغم أن المياه سيتم رفعها بتكلفة عالية نسبيا”.

مدينة فخمة في عمق الصحراء
في المقابل يرى الخبير الاقتصادي مصطفى عبد السلام في حديثه للجزيرة مباشر أن بناء مدينة فارهة في عمق الصحراء يعني أن “النيل بخدمة الأثرياء وساكني القصور”.
واعتبر أن تحويل نحو 7% من حصة مصر السنوية من مياه النيل من أراضي الدلتا الخصبة لتمر عبر المشروع الجديد يعد ترسيخا لما سماها “الليبرالية المتوحشة التي تدهس الفقراء”.
ولفت عبد السلام إلى أن هذا المشروع العملاق يأتي في وقت تواجه فيه البلاد نقصا متزايدا بالمياه بسبب كارثة سد النهضة، مع عجز مائي يصل إلى 20 مليار متر مكعب سنويا وهو ما دفع الحكومة للتوسع في تبطين الترع وفرض قيود على زراعات مهمة مثل الأرز لتوفير المياه.
كما حذر من أن تلك المشاريع “الفارهة المعتمدة على مياه النيل” ستنشر الفقر والغلاء وتبدد الموارد المحدودة سواء المالية أو المائية وتعمق الفوارق المجتمعية التي قال إنها زادت بحدة بالسنوات الأخيرة.
أين أولويات الإنفاق في مشروع “جريان”؟
وفي السياق ذاته يتساءل الخبير الاقتصادي هاني توفيق عبر فيسبوك قائلا “أين الأولويات؟ بناء كومباوندات وسياحة يخوت على امتداد فرع جديد للنيل، يعد استمرارا للسفه الاستفزازي العقاري وضغطا على موارد الدولة المحدودة بدلا من مدها للمناطق الصناعية اللازمة للإنتاج والتصدير وسداد الديون”.
ومع كل مناسبة تعلن فيها الحكومة استزراع المزيد من الأراضي تطرح علامات استفهام “من أين تأتي بالمياه اللازمة؟”، في ظل اعتراف رسمي بدخول البلاد مرحلة الفقر المائي، فضلا عن التهديدات المحتملة من سد النهضة الإثيوبي لحصة مصر بمياه النيل.
وقال الدبلوماسي السابق محمد مرسي إنه كان يعتبر المشروع مجرد “مزحة”، موضحا أن فكرة المشروع الجديد تقوم على تنفيذ تجمعات سكنية كبرى في الشيخ زايد وحتى الدائري الأوسطي، يمر بها فرع جديد لنهر النيل تطل عليه وحدات وفيلات المشروع.
وأضاف أنه “مشروع عملاق يسعدنا جميعا رغم أنه يتماس مع أولويات الإنفاق ويدفع للتساؤل عن حصتنا المتناقصة من مياه النهر”.
وبينما تظهر مخاوف من استغلال إثيوبيا للمشروع الجديد الذي يتم بواجهة نيلية تزيد على 9 كيلومترات للتأكيد على موقفها من عدم تأثير سد النهضة في الأمن المائي لمصر يرفض الكاتب أنور الهواري المشروع متهما الحكومة عبر فيسبوك بالانفصال عن الواقع.
وطبقا لوزارة الري تعتمد مصر بنسبة 97% على مياه النيل، وتبلغ احتياجاتها المائية نحو 114 مليار متر مكعب سنويا، يقابلها موارد لا تتجاوز 60 مليار متر مكعب سنويا، بعجز يصل إلى 54 مليار متر مكعب سنويا، يتم سده بإعادة استخدام المياه واستيراد محاصيل زراعية بما يعادل نحو 34 مليار متر مكعب سنويا.
وتستنزف الزراعة نحو 86% من حصيلة مصر المائية، في حين لا يتعدى نصيب الفرد 560 مترا مكعبا سنويا. ويبلغ حد الفقر المائي عالميا ألف متر مكعب حسب الأمم المتحدة.