من الإنكار إلى القبول.. كيف يتجاوز الإنسان ألم الفقد؟

يكسر وجع الفقد قلوبنا، ويعزلنا عن الحياة، وتنكأ المناسبات والذكريات الجرح من جديد، وتنهش الروح. فكيف يتجاوز الإنسان مشاعر الحزن الدفين؟ وكيف يضمد جراح قلبه ليواصل حياته؟
يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش “الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء!”، وليس الموت وحده ما يتسبب في ألم الفقد، بل هناك أحداث فاصلة في حياة الإنسان، قد تولد لديه ذات المرارة والأسى.
وتشير هدى حمدان عضو الجمعية الأمريكية لعلم النفس – في لقاء خاص لموقع الجزيرة مباشر – إلى أن تجربة الفقد المؤلمة تتخذ عدة أشكال في حياة الإنسان، مثل الطلاق والانفصال عن شريك الحياة، أو موت قريب أو عزيز، أو عند إصابة الإنسان بمرض مزمن أو إعاقة دائمة، فإن شعور الفقد هذا من شأنه أن يسبب ألما حادا وإحساسا بالعجز، ويمزق حياة الإنسان، ويقلبها رأسا على عقب، خصوصا أن هذه الصدمات خارجة عن سيطرتنا، ولا حول لنا فيها ولا قوة.
مراحل الحزن
وأوضحت أن تجاوز هذه الأوقات الصعبة، يستلزم أن يعبر الإنسان عن مشاعره، ويفهمها أيضا، فعادة ما يمر بخمس مراحل من الحزن، وهي:
الإنكار
وهنا يكون الإنسان في حالة صدمة وخدر ويطرح أسئلة كثيرة: (معقول؟ كيف أستطيع أن أستمر؟ لماذا حصل هذا؟ لماذا أنا؟) وهي وسيلة طبيعية لتقبل حقيقة الفقد والبدء بالشفاء.
الغضب
وهو مرحلة طبيعية للتعامل مع الفقد على الرغم من أنه يبدو مؤلما ومزعجا لمن حولك، وقد يمتد لأفراد الأسرة والأصدقاء والأطباء ونفسك بل وحتى الفقيد نفسه. وعليك معرفة أن الغضب هو مؤشر آخر للحب، وهو في النهاية أفضل من الكبت.
المساومة أو التفاوض
وهنا نحن نبرر هذا الفقد (ربما يكون الموت له أرحم من الألم أو الإعاقة). ونستخدم كثيرا عبارة (ماذا لو). ماذا لو لم يحدث المرض؟ أو لم يحدث الحادث؟ ماذا لو أنني استطعت اكتشاف المرض مبكرا؟ ولو أنني لم أسمح لولدي بالسباحة لما مات غريقا. وهي مرحلة لوم قاسية للنفس ولكنها مرحلة طبيعية في الطريق للتعافي.
الاكتئاب
شعور الألم والحزن العظيم طبيعي في جميع مراحل الحزن، ولكن في هذه الفترة، يركز الإنسان على الحاضر، فشعور الفقد كبير، والحياة لن تعود كما كانت عليه في السابق. وعليك معرفة أن هذا الشعور هو استجابة طبيعية للخسران الكبير، وهو مؤقت ولا يدوم فترة طويلة.
القبول
وهنا تهدأ المشاعر السابقة، وتصبح أكثر قبولا للفقد، وتصالحا مع الحياة.

كيف يتجاوز الإنسان ألم الفقد والموت؟
أما عن السبيل لتجاوز مشاعر الحزن، فقد بينت الباحثة في علم النفس،أن الأمر يقتضي مواجهة الإنسان لمجموعة من الصراعات النفسية، وحددتها في التحديات الخمسة التالية:
أولا: الألم العاطفي الشديد والذي يسبب شلل التفكير وحياة الإنسان
الصدمة تفقد القدرة على الحياة بشكل سليم، بل تفقد القدرة على التفكير، والعمل، وممارسة الحياة بشكل طبيعي، وتشعرك بالذهول والذي قد يأخذك إلى حالة غير واقعية لا تستطيع الهروب منها.
والشيء الوحيد الذي يمكن أن يساعد في تخفيف حدة هذا الفقد هو مرور الوقت. ولهذا فإنه من المهم التركيز على الأيام أو الأسابيع أو الشهور الأولى للصدمة ومحاولة التخفيف منها.
ثانيا: التغيير الجذري في حياة الإنسان
قد يؤثر الحزن الشديد وألم الفقد على جميع جوانب حياتنا اليومية، فعندما نفقد شريك الحياة فنحن نفقد أهم طريقة للتواصل والدعم والعاطفة، وعندما نصاب بإصابة أو إعاقة فإنه علينا إعادة تدريب أنفسنا، وترتيب جوانب الحياة من جديد للتأقلم مع هذا المرض والإعاقة.
ولمواجهة هذا التحدي بالذات علينا الوصول إلى مرحلة القبول والرضا التام بهذا التغيير الذي فرض علينا، عندها نستطيع أن نبدأ ممارسة حياتنا من جديد.
ثالثا: فقدان أو تغير الهوية
عادة ما نصيغ حياتنا من خلال شريك الحياة، وعند موته أو الانفصال عنه، يحدث خللا كبيرا في رؤيتنا لاستمرار الحياة بطريقتها المعتادة، وهنا نشعر بفقدان الهوية، بل نسأل أنفسنا من نحن؟ فنحن لم نعد كما كنا والشخص الذي تنظر له في المرآه أصبح شخصا غريبا عنك. والأمر نفسه عند حدوث الإعاقة، فالإنسان السليم يرى ويتصور نفسه بطريقة معينة أما مع الإعاقة فإن عليه التعامل مع شخص جديد لا يعرفه وربما يرفضه.
ولمواجهة هذا التحدي فإن مفهوم القبول والرضا يعود من جديد، ويجب علينا إعادة بناء هوياتنا ونظرتنا لأنفسنا، وأن نصل إلى رضا وسلام مع هذه النفس الجديدة ومع طبيعة الحياة التي فرضت علينا.
رابعا: فقدان العلاقة مع الشخص الحبيب
يضطر أغلب الناس بعد الخسارة الشديدة إلى الانسحاب والعزوف عن مخالطة الناس. وربما يحاول البعض التمسك بذكرى هذا الحبيب وإبقائه على قيد الحياة من خلال المحادثة الذهنية معه طوال اليوم، أو ربما نتجنب الآخرين أو الأماكن، لأنها تعيد لنا سلسلة الذكريات المؤلمة.
ولسوء الحظ، فإن الإصابة بمرض أو إعاقة قد تجعل الآخرين يعزفون عنك، ويتجنبون الحديث أو النظر إليك، وهذا نقص فيهم وليس فيك.
ولمواجهة هذا التحدي، علينا إعادة بناء العلاقات، والتواصل مع الأشخاص القريبين والموجدوين في حياتنا، وتشكيل علاقات جديدة تدعم وضعنا الحالي.
خامسا: خلل في نظام المفاهيم والافتراضات
لكل منا مجموعة فريدة من المفاهيم والافتراضيات والتي تشكل العدسة التي نرى من خلالها الحياة، ونحكم من خلالها على الأشخاص والمواقف والتجارب.
ويمكن للفقد والألم العاطفي الشديد أن يحدث خللا في هذا النظام، ويؤدي إلى سلسة من الأسئلة الشائكة.
ولمواجهة هذا التحدي فإن علينا إيجاد طرق لفهم المواقف التي تحدث لنا، وتعديل المفاهيم السلبية، والبحث عن المعاني الإيجابية في الأحداث الصعبة، أو المنح في المحن، ووضع أهداف جديدة تدفعنا إلى الأمام.

ونشرت مؤسسة مايو كلينك الطبية في ولاية مينيسوتا الأمريكية على موقعها، نصائح حول تجاوز مشاعر الفقد، وذكرت أن شدة الحزن تقل مع مرور الوقت، ولكن لا توجد حدود زمنية للحزن، وقد تثير الذكريات الشجن من جديد، وقد ترتبط بالأصوات والروائح والأماكن.
وإذا تفاقم الحزن مع مرور الوقت بدلاً من التحسن أو تعارض مع القدرة على أداء الوظائف في الحياة اليومية، ينبغي استشارة أخصائي نفسي.
كيف أتخلص من ألم الفقد؟
التعامل مع ألم الفقد أمر صعب، وقد يستغرق وقتًا طويلًا للتعافي. لكن هناك بعض الخطوات التي يمكن أن تساعدك في تخفيف هذا الألم مع مرور الوقت.
أولًا، من المهم أن تعطي لنفسك الإذن بالحزن وتقبل مشاعر الفقد، سواء كانت حزنًا، غصبًا، أو حتى شعورًا بالفراغ. لا تضغط على نفسك لتجاوز ذلك سريعًا، فكل شخص يمر بهذه العملية بشكل مختلف.
ثانيًا، حاول أن تضع نفسك في بيئة داعمة، مثل التواصل مع العائلة والأصدقاء الذين يفهمون ما تمر به ويمكنهم تقديم الدعم العاطفي. فأحيانًا مجرد الحديث عن الشخص الذي فقدته يمكن أن يساعد في تقليل الألم.
ومن الأمور المهمة أيضًا أن تمنح نفسك مساحة للمضي قدمًا ببطء. وقد تكون العودة إلى الروتين اليومي صعبة في البداية، لكن بمرور الوقت قد تجد الراحة في الأنشطة التي كانت تمنحك السعادة سابقًا.
كيف ينسى الإنسان شخصا توفي؟
نسيان شخص توفي ليس أمرًا سهلاً، لأنه يرتبط بفقدان عاطفي عميق. ومع ذلك، يمكن للإنسان أن يتعلم كيفية التعايش مع هذا الفقد بمرور الوقت. وأول خطوة هي السماح لنفسك بالحزن وتقبّل مشاعر الحزن والألم، إذ إن محاولة تجاهل مشاعر الفقد أو دفنها قد تؤدي إلى تفاقم الألم. ومن الطبيعي أن تمر بفترات من الذكرى والاشتياق، ولكن مع مرور الوقت قد تصبح هذه الذكريات أكثر هدوءًا.
ومن المهم أن تعطي نفسك المساحة للتعافي، وتسمح لنفسك بالاستمرار في الحياة بشكل طبيعي، من خلال العودة إلى الأنشطة التي تجلب لك الراحة أو السعادة. وقد تساعد مشاركة ذكريات الشخص المتوفى مع الأصدقاء والعائلة في الحفاظ على العلاقة العاطفية معه بطريقة صحية. فبناء حياة تذكر فيها اللحظات الجميلة التي عشتها مع الشخص المتوفى دون الشعور بالذنب على المضي قدمًا، هو جزء من عملية التعايش مع الفقد.
هل الفقد مؤلم؟
والفقد مؤلم جدًا، سواء كان فقدان شخص عزيز أو حتى فقدان شيء مهم في حياتك. فالألم الناتج عن الفقد ليس مجرد شعور عاطفي، بل قد يمتد ليشمل الجسد أيضًا، حيث يشعر البعض بآلام جسدية مثل الصداع أو الإرهاق نتيجة لهذه الصدمة العاطفية. والفقد يؤدي إلى شعور بالفراغ، بالحزن العميق، وبالقلق، وقد يصعب التعايش مع هذا الشعور في البداية.
لكن الألم الذي يرافق الفقد هو جزء من عملية الحزن الطبيعية. ويختلف الناس في طريقة تعبيرهم عن الحزن ومدة تأثيره عليهم، لكن مع مرور الوقت، يبدأ الإنسان في التكيف مع غياب الشخص أو الشيء الذي فقده، وتبدأ الذكريات تتحول من ألم إلى تقدير للحظات الجميلة التي عاشوها. هذا لا يعني أن الألم يختفي تمامًا، بل يصبح أكثر هدوءًا مع مرور الوقت.
اقرأ أيضا:
“اللهم إني صائم”.. لماذا تحولت المقولة الإيمانية إلى تهديد ووعيد؟
حتى لا تصيب ابنك بالفزع.. نصائح نفسية لشرح أزمة كورونا للأطفال