سوق الحميدية.. تراث حي وشاهد على تاريخ دمشق العريق (فيديو)

يعد سوق الحميدية في دمشق أحد أقدم وأشهر الأسواق في العالم العربي، حيث يشكل معلماً تراثياً وتاريخياً يعكس روح المدينة العريقة، يمتد السوق من قلعة دمشق حتى الجامع الأموي، ويتميز بسقفه المعدني المثقوب الذي يحمل آثار طلقات الرصاص من الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، ليبقى شاهداً على نضال أهل دمشق عبر العصور.
ورغم التحديات التي واجهها السوق التاريخي خلال السنوات الماضية، فقد عاد ليكون وجهة رئيسية للسوريين والمغتربين، الذين يقصدونه لاستعادة ذكريات الماضي والتسوق من المحال التي توارثتها الأجيال.
سوق الحميدية بين الماضي والحاضر
تأسس سوق الحميدية عام 1780 بأمر من السلطان العثماني عبد الحميد الأول، ومن هنا جاءت تسميته، لكن السوق تعرض لحريق مدمر في بداية القرن التاسع عشر، أدى إلى تضرر سقوفه الخشبية، ليعاد ترميمه لاحقًا ويُغطى بسقف معدني لا يزال قائماً حتى اليوم.
يقول أحد باعة الشرقيات في السوق، والمتخصص بفن الموزاييك الدمشقي، للجزيرة مباشر: “سوق الحميدية جزء أساسي من دمشق القديمة، وهو شاهد حي على تاريخ العاصمة السورية، المحال التجارية هنا لم تكن في الأصل محالّ، بل كانت بيوتاً عربية تحولت تدريجياً إلى محالّ تجارية، مما يضفي عليها طابعاً فريداً”.
يعيش سوق الحميدية اليوم حالة من التغير، فبعد سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، يشعر العديد من الباعة والمواطنين بحرية أكبر في التعامل اليومي.
وتحدث أحد باعة التمر الهندي والعرق سوس، وهو رجل ستيني يعمل في السوق منذ عقود، للجزيرة مباشر قائلا: “لطالما كان مشروبا العرق سوس والتمر الهندي جزءاً لا يتجزأ من التراث الشعبي لسوق الحميدية، ولكن اليوم هناك تغيير كبير في نفسية الناس هنا، الجميع باتوا أكثر بشاشة وراحة مما كانوا عليه قبل سقوط النظام”.
وأضاف للجزيرة مباشر أن السوق بات مقصداً رئيسياً للمغتربين والشباب الذين هاجروا هرباً من الخدمة الإلزامية، حيث يعودون إليه لإحياء ذكرياتهم مع أزقته ومقاهيه ومحاله القديمة.
وفي السياق ذاته، قال تاجر خمسيني إنه موجود في السوق منذ أكثر من 40 عاماً، واضاف: “السوق ليس مجرد مكان تجاري، بل هو ذاكرتنا الجماعية، يجمع الحاضر والماضي، بعد سقوط نظام الأسد، لاحظت أن وجوه الجميع، سواء الباعة أو الزوار، باتت أكثر راحة، وأصبح الناس يتجولون فيه بحرية أكبر مما كانوا عليه سابقاً”.
صناعة الشرقيات.. تراث يتحدى الزمن
ورغم أن سوق الحميدية ما زال يحافظ على طابعه التراثي، فإن بعض الحرف التقليدية شهدت تراجعاً خلال سنوات الثورة.
وأضاف أحد شيوخ صناعة الشرقيات، وهو حرفي مخضرم يعمل في السوق منذ 50 عاماً: “صناعة الشرقيات كانت من أبرز ما يجذب السياح والزوار إلى سوق الحميدية، لكنها تأثرت بشكل كبير خلال سنوات الحرب، نحن نحاول الحفاظ على هذا الإرث، لكن غياب السياح وانخفاض الطلب جعلا الأمر أكثر صعوبة”.
ومع ذلك، ما زال السوق يحتفظ بجماله، حيث تجد داخله مشغولات من النحاس والفضة والموزاييك والخشب الدمشقي، مما يجذب الزوار المهتمين بالحرف التقليدية السورية.
بوظة بكداش.. حكاية عشق قديمة
من بين أبرز المعالم التي لا يمكن للزائر تفويتها عند دخوله سوق الحميدية، محل بكداش الشهير بالبوظة العربية، الذي تأسس عام 1895، وأصبح أيقونة من أيقونات السوق.
يقول أحمد بكداش، أحد ورثة المحل، للجزيرة مباشر: “سوق الحميدية لا يقتصر على كونه مكانًا تجارياً، بل هو وجهة أساسية لكل زائر إلى دمشق، السوق يضم أكثر من 25 سوقاً فرعياً، ويعتبر أحد أقدم ’المولات‘ في العالم، حيث يجمع مختلف أنواع السلع تحت سقف واحد، ابتداءً من الأقمشة والمشغولات اليدوية، وصولاً إلى الحرف الشرقية والطعام، كما أنه ينتهي عند الجامع الأموي، ما يجعله قلب الشام القديمة”.
وأضاف: “بوظة بكداش أصبحت جزءاً من هوية السوق، والناس يأتون خصيصاً لتجربة هذه البوظة العربية الشهيرة”.
تراث السوق وجذوره العثمانية
لا يحمل سوق الحميدية الطابع الدمشقي وحده، بل يمثل أيضاً امتدادا للعمارة العثمانية، حيث كانت الأسواق المغطاة جزءاً من الثقافة التجارية العثمانية المنتشرة في عدة مدن، مثل إسطنبول وحلب ودمشق.
ويؤكد أحد باعة الشرقيات في الحميدية أن السوق كان محطة أساسية للقوافل التجارية، وهو ما يفسر تنوع السلع فيه، إذ كان يجمع بين المنتجات المحلية والمستوردة، وخصوصا الأقمشة الحريرية والصوفية التي كانت تُعرف بها دمشق قديماً.
ويبقى سوق الحميدية أكثر من مجرد سوق، فهو ذاكرة دمشق الحية، حيث تتشابك فيه قصص التجار القدامى مع الزوار الجدد، ويستمر في كونه نقطة التقاء بين الماضي والحاضر.