“عبد الله بن أم مكتوم”.. مدرسة هندية تجمع القرآن والعلوم في قاعة واحدة بلا أصوات (شاهد)

في مشهد لافت وهادئ، فُتح مصحف القرآن الكريم على أحد المكاتب داخل فصل مكتظ بالفتيات، تتلو بعضهن آياته بلغة الإشارة، وجلس معلم على الأرض ينصت لدروس تقدمها إحدى الطالبات بلغة الإشارة أيضا. لم يعلُ صوت في القاعة، لكن تلاوة القرآن الكريم كانت حاضرة تلامس القلوب رغم غياب الصوت؛ فالفتيات جميعهن من ذوات الإعاقة السمعية والكلامية، ومع ذلك يتفاعلن مع كتاب الله بطريقة مميزة.
هذه الأجواء تحتضنها مدرسة عبد الله بن أم مكتوم الواقعة في مقاطعة بوني بولاية ماهاراشترا غربي الهند، حيث تبتعد المدرسة عن ضجيج المدينة وتوفر بيئة هادئة لمئات الطلاب من ذوي الإعاقة. هناك، يدرسون القرآن الكريم إلى جانب التعليم المدرسي العصري، ويطّلعون على مبادئ الإسلام، ويتعلمون الحديث الشريف ضمن منهج شامل يجمع بين المعرفة الدينية والعلمية.
اقرأ أيضا
list of 4 items“نوفي بازار”.. منارة قرآنية تعيد إحياء الهوية الإسلامية لمسلمي صربيا (فيديو)
البرلمان البريطاني يناقش عريضة تشترط صعق الحيوانات قبل ذبحها
اقتحام مسجد في فرنسا وإحراق مصحف به
وتعتبر المدرسة نموذجًا رائدًا في التعليم الإنساني للأطفال المكفوفين والصم والبكم من أبناء المجتمع المسلم، إذ توفر لهم فرصة حقيقية للاندماج والتحصيل في بيئة تعليمية تراعي احتياجاتهم، وتمنحهم الأمل في مستقبل أفضل.
“مؤسسة فريدة”
تتميّز هذه المؤسسة الفريدة من نوعها بجمعها بين التعليم الديني التقليدي والمناهج الحديثة، تحت سقف واحد. فلا يقتصر دورها على تدريس القرآن الكريم والعلوم الشرعية، بل تمتد رسالتها لتشمل تعليم المواد الأكاديمية الأساسية مثل العلوم، والرياضيات، والحاسوب، وذلك بأساليب تدريس مبتكرة وميسّرة، صُممت خصيصًا لتناسب التحديات التي يواجهها الطلاب ذوو الإعاقات البصرية والسمعية.
ومن أبرز ما توفره المدرسة للطلاب المكفوفين، مواد تعليمية مسجلة صوتيًّا، تُمكّنهم من متابعة دراستهم رغم صعوبات التعلم. كما تعتمد مناهج تقليدية داعمة، تُسهم في تسهيل الفهم والتلقّي من خلال الرسائل الصوتية المُسجلة.
تُولي المدرسة اهتمامًا خاصًّا لتمكين الطلاب المكفوفين من خلال برامج متكاملة تجمع بين تعليم لغة برايل وتعليم القرآن الكريم، وذلك بهدف تحفيزهم وتزويدهم بالمهارات الخاصة التي تُمكّنهم من التواصل الفعّال والمؤثّر داخل المجتمع.
لغة برايل
يشمل البرنامج تعليم القراءة والكتابة بلغة برايل، وهي الطريقة التي تُعد بوابة أساسية للمكفوفين نحو العالم، حيث تفتح أمامهم آفاق الدراسة، والعمل، والتفاعل اليومي، بما يمنحهم استقلالية وكرامة ويعزز من اندماجهم في الحياة العامة.
أما دورة تعليم القرآن الكريم فقد صُممت بأساليب حديثة وميسّرة تراعي احتياجات الطلاب البصرية، بما يُسهّل عليهم الحفظ والتلاوة والتدبّر، ويضمن لهم تعلُّم كتاب الله بطريقة تحفظ خصوصيتهم، وتُثري أرواحهم بالمعاني الإيمانية العميقة.
وقال محمد عارف، مدير المدرسة، للجزيرة مباشر “تأسّست هذه المدرسة على يد مجموعة صغيرة من الأشخاص برؤى متعددة، لكن كانت هناك رؤية واحدة مهيمنة، وهي إنقاذ أطفالنا من ذوي الإعاقات من الإهمال، ومن أن يُتركوا دون تعليم أو رعاية”.
وأضاف أن المدرسة بدأت من الصفر، وتقوم اليوم بتعليم أكثر من 200 طفل ضمن نظام تعليمي مُدمج يجمع العلوم الدينية والعصرية.
غياب الاعتراف الحكومي
وأوضح عارف أن هذا النوع من التعليم لا يزال يقتصر غالبًا على تدريس القرآن الكريم، والحديث النبوي، والفقه. ويلتحق بعض الطلاب بالمدارس الدينية المحلية لتلقي تعليم أساسي، بينما يختار آخرون إكمال مسارات دراسية تقليدية كاملة. ومع ذلك، تبقى هذه المؤسسات خارج مظلة الدعم الحكومي، وتعتمد كليًّا على التبرعات الفردية.
وأضاف أن الأطفال المسلمين، كغيرهم، بحاجة إلى تعليم ديني متكامل إلى جانب التعليم العصري. لكن الحكومة لا تعترف بالتعليم الإسلامي ضمن المنظومة التعليمية الرسمية.
ويؤكد عارف أن القانون الهندي يُلزم كل طفل دون سن الرابعة عشرة بالالتحاق بالمدرسة لتلقي مواد أساسية كالمواد العلمية واللغات الهندية والإنجليزية وأي لغة محلية، مما يجعل الجمع بين المنهجين تحديًا كبيرًا.
ورغم العقبات، تسعى المدرسة لتحقيق توازن تعليمي شامل، حيث يتمكن الطلاب من حفظ القرآن الكريم ودراسة العلوم الإسلامية، بالتزامن مع اجتياز المنهج الأكاديمي الرسمي حتى المرحلة المتوسطة. وتقدم المدرسة هذا المنهج عبر معلمين ومعلمات من أصحاب التخصصات والخبرة.
وفيما يخص الطلاب ذوي الإعاقة، تعتمد المدرسة وسائل تعليم متقدمة، مثل البرمجيات الذكية لتيسير تعلم القرآن الكريم للصم والضعاف السمع. ويقول عارف: “ذوو الاحتياجات الخاصة يُحرمون كثيرًا من تعلم وتلاوة القرآن، ونحن نُعيد لهم هذا الحق”.
مدرسة للفتيات أيضًا
تحتضن المدرسة حاليًّا فتيات من 17 ولاية هندية، يعانين من إعاقات مختلفة. وتوفر لهنّ التعليم من الصف الأول إلى الصف الثاني عشر، إلى جانب دروس دينية، ودورة “المؤمنة”، وحلقات لحفظ القرآن الكريم.
وبسبب عدم قدرة هؤلاء الطالبات على الوصول بأنفسهن إلى المدرسة فإن إدارة المدرسة تعمل على البحث عنهن في المناطق النائية، وجلبهنّ إلى الحرم المدرسي، وتوفر لهن السكن المجاني، والرعاية الصحية، والتعليم المتوازن.
ومنذ أكثر من عامين أنشأت المدرسة قسمًا خاصًّا للفتيات، وخصصت لهنّ مبنى مستقلا يضم نحو 60 طالبة، مع طاقم نسائي للإشراف على رعايتهنّ، وتوفير بيئة آمنة ومحترمة لهنّ.
ولا تقتصر رسالة المدرسة على التعليم الأكاديمي والديني، بل تمتدّ إلى تنمية مهارات الحياة لدى الطلاب. فإلى جانب تعليم الحاسوب والثقافة الإسلامية، تقدم المدرسة تدريبات في الحناء والخياطة للفتيات الصم، وتعليم الرسم والتعبير الفني، وتطوير مهارات التفكير المنطقي، وحل المشكلات، وتعزيز الإبداع.
وتساعد هذه البرامج على تحسين الأداء الأكاديمي في المواد العلمية والرياضية، وتنمية الثقة بالنفس من خلال تمارين في الحساب الذهني، والأنشطة الرياضية، والاحتفاء بالمناسبات الدينية والاجتماعية.
تحديات وطموحات
رغم نجاحات المدرسة، فإنها لا تزال تواجه تحديات كبيرة، أبرزها نقص الموارد، وغياب الدعم الحكومي، وقلة المعلمين المتخصصين في لغة برايل، مما يصعّب مهمة تدريس الطلاب المكفوفين. ومع ذلك تمكن أكثر من 40 طالبًا حتى الآن من اجتياز امتحان حكومي للتأهل للوظيفة الحكومية.
وتحلم الإدارة بإنشاء حرم جامعي متكامل، يضم مختبرات لغوية متطورة، وقاعات محاضرات، ومرافق تعليمية حديثة، لاستيعاب ألف طالب من ذوي الإعاقة، لكن قلة التمويل تحول دون تحقيق هذا الهدف حتى الآن.