حين يصبح النعاس فخا.. الحقائق الصادمة خلف أغاني ما قبل النوم

“نم يا صغيري نم” قد تبدو هذه الكلمات مألوفة، مأخوذة من أغنية رقيقة تهدهد بها الأمهات أطفالهن منذ قرون، لكن خلف هذا المشهد الحالم، تخبئ التهويدات -أو أغاني النوم- عالما غنيا بالتناقضات، إذ يمتزج الحنان بالخوف، والبراءة بالألم، والنعاس بالرسائل الثقافية العميقة.
يقول شتيفان أوبينيه، عالم الموسيقى من جامعة أوسلو، إننا غالبا ما نربط أغاني النوم بالألحان الهادئة والكلمات البريئة، لكن الحقيقة أكثر تعقيدا “هناك نطاق واسع من التهويدات، بعضها مشرق ومتناغم، وبعضها الآخر كئيب عنيف، بل وصادم أحيانا”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالتوحد ليس كما نظن.. دراسة تقلب المفهوم الطبي السائد وتفتح الباب أمام أساليب علاج أكثر دقة
“بوينغ” تتوصل إلى تسوية مع كندي فقد أسرته في تحطم طائرة بإثيوبيا
إلى أي درجة يمكن أن يساعد الريجيم على علاج الأمراض العقلية؟
في واحدة من أغرب التهويدات النرويجية التي درسها أوبينيه، يُهدَّد الطفل إن لم ينم، بأن يُشد من ساقه ويُضرب بالحائط. أما في روسيا ودول البلطيق، فتصوّر بعض التهويدات جنازة الطفل بتفصيل مؤلم. وفي الأغنية الإنجليزية الشهيرة “روك-أ-باي بيبي”، يُكسر الغصن الذي ينام عليه الطفل، فيسقط هو وسريره إلى المجهول.
من بلاد الرافدين إلى تطبيقات الهواتف
رحلة التهويدات طويلة ومعقدة، تعود إلى أقدم تهويدة مدوَّنة عُثر عليها في بلاد الرافدين قبل أربعة آلاف عام، وتصل إلى يومنا هذا في شكل تطبيقات صوتية تهدف إلى مساعدة الأمهات على تهدئة أطفالهن.
هذه الرحلة ليست فقط موسيقية، بل هي أيضا مرآة للمجتمعات والثقافات المختلفة، وفقا لعالمة الموسيقى ميريام أكرمان، من جامعة برلين الحرة.
تقول أكرمان “التهويدات دائما ما تعكس المجتمع الذي وُلدت فيه”، مؤكدة أن كلماتها وسيلة لمعالجة مشاعر مثل الغضب والإحباط، وحتى الألم الوجودي. فبعضها يُستخدم لتهدئة الطفل، وبعضها الآخر وسيلة غير مباشرة لتفريغ هموم الكبار.
ورغم هذه الأهمية الثقافية، فهناك تراجع ملحوظ في عدد العائلات التي تغني لأطفالها، حسب بيانات مجلس برلين للموسيقى. لكن مشروع “برلين تغفو”، الذي يجمع تهويدات من أكثر من 170 جنسية تعيش في العاصمة الألمانية، أثبت أن الذكريات الموسيقية الطفولية لا تزال حية في الذاكرة، حتى إن لم تعد تُمارَس يوميا.
الغناء دواء للطفل
دراسة حديثة نُشرت في مجلة (Child Development) أثبتت أن الغناء للطفل يرفع من مستوى العافية لديه، ويقلل من توتر الأم أو مقدمة الرعاية. وتشير الدراسة، التي قادها فريق من جامعة ييل، إلى أن الغناء له أثر مهدئ مماثل للمس الجسدي، وربما أكثر فاعلية في بعض الحالات.
الغناء لا يحتاج إلى معدات أو تدريب، ويمكن لأي أب أو أم أن يمارسه بسهولة. ولهذا ترى الدراسة أن التوصية بالغناء مع الأطفال هي أداة عملية وبسيطة لتعزيز صحتهم النفسية والجسدية.

أغنية كل الأمهات
الشاعر الإسباني رودريجو كارو وصف التهويدات ذات يوم بأنها “أمهات كل الأغاني وأغنية كل الأمهات”، وهو وصف يراه أوبينيه دقيقا تماما.
فقد وجد الباحث أن 97% من الثقافات التي شملها تحليله -وعددها 124 ثقافة- تستخدم نوعا من الأغاني لمساعدة الأطفال على النوم. وفي ثلثي هذه الثقافات توجد تهويدات محددة، أما البقية فتلجأ إلى دندنة وارتجال أو موسيقى شعبية ودينية.
بل إن بعض الثقافات تمنح كل طفل “أغنيته الخاصة”، كما في ثقافة “اللابيين” -السكان الأصليين لشمال أوروبا– إذ يُمنح كل طفل “دوفدنا”، وهو لحن فريد يمثل هويته. وتقاليد مشابهة توجد لدى شعوب الإنويت في ألاسكا وكندا وجرينلاند، وحتى في سيبيريا.
من تهدئة الأبقار إلى غمر الأطفال في الماء
لكن ليست كل التهويدات وردية. ففي اليابان، تغني بعض التهويدات عن وضع الطفل في كيس من القش وغمره في الماء إذا لم يكف عن البكاء.
ويُعتقد أن هذه الكلمات كانت تعبيرا عن غضب الفتيات الفقيرات العاملات مربيات لدى العائلات الثرية.
وتقول تهويدة سلوفانية شهيرة “هل تحتاج فتاة حمقاء بلا خاتم زواج؟”، في إشارة إلى أم شابة تناضل وحدها مع طفل غير شرعي.
ويبدو أن كثيرا من الناس لا يدركون كم هي قاتمة بعض هذه الكلمات، إلا عند التأمل فيها بعد سنوات. مشروع “برلين تغفو” كشف أن كثيرين لم ينتبهوا سابقا لمغزى ما كانوا يسمعونه، بل تعاملوا مع التهويدات بأنها مجرد أنغام طفولية.
ليس فقط للأطفال
التهويدات ليست حكرا على الأطفال. ففي منغوليا وأجزاء من آسيا، تُغنى تهويدات للأغنام. وفي اسكتلندا، خلال القرن التاسع عشر، كانت هناك “أغنيات حظيرة الحلب” المخصصة لتهدئة الأبقار.
أما اليوم، فالكثير من البالغين يستخدمون الموسيقى لمساعدتهم على النوم، وقد أظهرت أبحاث أن لهذه الطقوس تأثيرا إيجابيا، حتى إن لم يُعرف تماما ما إذا كانت الفائدة ناتجة عن الموسيقى نفسها أم عن الروتين المحيط بها.
بين الماضي والمستقبل
التهويدات ليست مجرد وسيلة لتنويم الأطفال، بل هي أرشيف إنساني حي يحمل بين نغمة وأخرى حكايات الأمهات، وآمال الفقراء، وغضب المهمَّشين، وأحلام العائلات. هي موسيقى تُغنى في الظلام، لكن صداها يمتد إلى عمق التاريخ، ويضيء الكثير من ملامح الإنسان.
ففي زمن التطبيقات والذكاء الاصطناعي، لا تزال أغنية بسيطة تُغنى من قلب أم، أقوى وسيلة لإشعار الطفل بالأمان، وربما أكثر ما يحتاج إليه العالم اليوم.