تحليل: عملية نبع السلام التركية تُحدث تحولا في محركات الحرب السورية
نشر الموقع الإلكتروني لقناة الجزيرة الإنجليزية مقالا تطرق فيه كاتبه إلى العملية العسكرية التي تشنها تركيا في سوريا، وما أحدثته من تغيير في ديناميكيات (القوى المحركة) للحرب هناك.
ويرى كاتب المقال مروان قبلان، مدير وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن العملية العسكرية التركية سيكون لها تداعيات تتجاوز حدود المنطقة الآمنة التي تحاول إقامتها داخل سوريا.
خطط أردوغان لإقامة المنطقة الآمنة
تُعد العملية، التي أُطلق عليها اسم “نبع السلام”، ثالث عملية عسكرية كبيرة تشنها تركيا داخل سوريا منذ عام 2016.
ويقول قبلان إن نطاق وعمق العملية ما يزال يكتنفهما الغموض، لأنه من المرجح أن تُحدث تغييرا في القوى المحركة للصراع السوري بشكل كبير.
ومنذ العام 2012، ظل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يسعى لإقامة “منطقة آمنة” على طول الجزء التركي للحدود مع سوريا الواقع إلى الشرق من نهر الفرات.
وقد نجحت المعارضة السورية في طرد قوات نظام دمشق من شمال شرق البلاد في صيف 2012، ما أتاح لوحدات حماية الشعب الكردية السيطرة على المنطقة. وتعتبر تركيا وحدات حماية الشعب الكردية الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه منظمة إرهابية.
قبل عام 2016، واجهت خطط أردوغان للتدخل العسكري في سوريا معارضة كل من إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما والجيش التركي الذي لم يكن خاضعا تماما لرئيس الدولة بعد.
امتنع أردوغان، نتيجة لذلك، عن المشاركة في الحرب ضد تنظيم الدولة في العراق وسوريا التي أعلنها الرئيس أوباما عقب سقوط مدينة الموصل في صيف 2014.
ومن ثم، لم يُسمح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية بجنوب تركيا في الحرب ضد تنظيم الدولة، مما اضطرها للاعتماد على قاعدتي العديد في دولة قطر والرفاع بالبحرين.
في تلك الأثناء، تهربت الولايات المتحدة من قبول عرض قدمته تركيا لتسليح وتدريب فصائل المعارضة السورية لتمكينها من مواجهة تنظيم الدولة، وآثرت بدلا من ذلك استغلال وحدات حماية الشعب الكردية للاضطلاع بدور العميل المحلي ضد نفس التنظيم.
وللتستر على الهوية الكردية لتلك الوحدات العميلة لأمريكا في سوريا، تشكلت في عام 2015 قوات سوريا الديمقراطية، التي تضم كذلك مقاتلين من جماعات غير كردية. وتلقت هذه القوات تدريبا وتسليحا من قبل الجيش الأمريكي.
وعندما قررت تركيا أخيرا السماح للولايات المتحدة باستخدام أراضيها في قتالها ضد تنظيم الدولة في صيف 2015، كان الأوان قد فات. ووقتها، كانت روسيا قد دخلت معترك الصراع إلى جانب النظام السوري لتُحدث بذلك تحولا جوهريا في ديناميكيات الحرب السورية.
وكان ذلك يعني أن تركيا باتت الآن تخوض صراعا يختلف كليا عن ذلك الذي عُرض عليها أن تشارك فيه قبل بضع سنوات.
وبدا التحول في الظروف جلياً في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 عندما أسقطت تركيا طائرة حربية روسية بالقرب من حدودها مع سوريا الأمر الذي أوقعها في أزمة كبيرة مع موسكو.
بعد تلقيها وعودا كاذبة من حلفائها في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مواجهتها مع روسيا، وجدت تركيا نفسها عالقة بين خصم قوي –هي روسيا- في الأراضي السورية الواقعة غرب الفرات وحليف غير متعاطف مع مطالبها –هي الولايات المتحدة- في مناطق شرق الفرات.
بيد أن محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي حدثت بتركيا في يوليو/تموز 2016، منح أردوغان فرصة لإصلاح ذات البين مع روسيا والإفلات من هذا الفخ الاستراتيجي.
بعد شهر واحد فقط من المحاولة الانقلابية، والتي أعربت روسيا أثناءها عن دعم أردوغان، سُمح لتركيا بالتحرك إلى داخل الشمال الغربي لسوريا وتطهير المنطقة من تنظيم الدولة ووحدات حماية الشعب الكردية معا.
مهد ذلك التحرك -الذي أطلقت عليه تركيا اسم “درع الفرات”- السبيل إلى إطلاق عملية أستانا، التي حاولت من خلالها أنقرة وموسكو التوصل إلى طريقة عمل في سوريا. وانضمت إليهما طهران لاحقا.
في فبراير/شباط 2018، أعطت روسيا الضوء الأخضر لتركيا لتشن عملية أخرى، سمتها هذه المرة “غصن الزيتون”، لطرد وحدات حماية الشعب الكردية من مدينة عفرين.
في يناير/كانون الثاني 2018، كشفت الخارجية الأمريكية تحت إشراف وزيرها السابق ريكس تيلرسون عن ملامح خطة لوجود عسكري أمريكي طويل الأجل في سوريا ذات أربعة أهداف رئيسة.
شملت تلك الأهداف ضمان إلحاق هزيمة ماحقة بتنظيمي الدولة والقاعدة، لتهيئة الظروف المناسبة لعودة اللاجئين السوريين، وكبح جماح النفوذ الإيراني في المنطقة، وإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، وإرساء قيادة جديدة في دمشق.
كان الدافع وراء تلك الخطة يكمن في ألا تعيد الولايات المتحدة تكرار الخطأ الذي ارتكبته عام 2011 عندما أتاح جلاء أمريكا “السابق لأوانه” من العراق لتنظيم القاعدة الاستمرار والتحول في نهاية المطاف إلى تنظيم الدولة في العراق وسوريا.
سحب القوات الأمريكية
غير أن الرئيس الجديد دونالد ترمب لم يكن مكترثا لذلك. ففي مارس/آذار 2018 أقال تيلرسون وفي الشهر التالي أخذ الجميع على حين غرة بإعلانه سحب قواته بشكل كامل من سوريا.
لكنه تحت وطأة ضغوط من أعضاء إدارته وحلفائه الأوربيين والإقليميين، اضطر لإمهال وزارتي الخارجية والدفاع (البنتاغون) ستة أشهر لإنجاز المهمة ضد تنظيم الدولة والانسحاب من سوريا.
انتهزت تركيا فرصة الانقسام داخل الإدارة الأمريكية وفتحت قناة اتصال مباشر مع ترمب. وما أن انقضت مهلة الستة أشهر حتى كان أردوغان يجري اتصالا مع الرئيس الأمريكي ويتلقى تأكيدات منه بمغادرة بلاده سوريا.
بيد أن خطة الانسحاب أُرجئت مرة أخرى ودخلت الولايات المتحدة وتركيا في مفاوضات مطولة لم تثمر عن نتائج ملموسة طيلة عام كامل تقريبا.
في يوم الأحد السادس من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري جرت مكالمة هاتفية بين أردوغان وترمب أسفرت عن تغير جديد في ديناميكيات الأوضاع. فقد قرر ترمب السماح لتركيا بالمضي قدما في عمليتها العسكرية وإقامة “منطقة عازلة”. وبعد ثلاثة أيام دخل الجيش التركي سوريا.
ومع أنه لم يتضح حتى الآن –برأي مروان قبلان- ما إذا كانت أمريكا تزمع الانسحاب الكامل من سوريا، أو مجرد إفساح المجال لتركيا لتقيم منطقة عازلة بالقرب من حدودها، إلا أن العملية التركية أحدثت بالفعل تحولا في محركات الصراع السوري نجم عنه اصطفاف جديد داخل سوريا وخارجها.
فقد أبدت أربع دول خليجية-هي السعودية والإمارات والبحرين والكويت- إلى جانب مصر وإسرائيل معارضتها للتحرك التركي.
وخلال العام المنصرم، بذلت السعودية جهودا مضنية لإقناع ترمب بالاحتفاظ بوجود عسكري كبير في شمال شرق سوريا لإحداث تكافؤ مع تركيا وإيران. وكان أن التزمت السعودية في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي بإنفاق 100 مليون دولار لحث الولايات المتحدة على البقاء في سوريا. بل عرضت كذلك إرسال قوات لها لتمشيط المنطقة إلى جانب القوات الأمريكية ووحدات حماية الشعب الكردية.
ولذلك، يُنظر إلى عملية “نبع السلام” التركية على أنها تمثل ضربة قوية للجهود السعودية الرامية لإبعاد أنقرة عن سوريا.
موسكو تحدد مصير سوريا
ولعل المدهش أن روسيا وإيران –شريكتي تركيا في مفاوضات أستانا- أظهرتا مرونة واضحة. وبحسب مروان قبلان، فإن إيران ليست في وضع يجعلها تنفر من تركيا في وقت ترزح فيه تحت وطأة عقوبات أمريكية معيقة.
أما موسكو، فهي الأخرى تعتمد على تعاون تركيا معها لإنهاء الصراع في سوريا وتأمين مصالحها هناك. هذا إلى جانب أن روسيا يساورها حاليا هاجس كبير لطرد أمريكا من سوريا، ومعاقبة الأكراد لتحالفهم مع واشنطن والعمل على إعادتهم إلى حضن النظام السوري.
وهذا بالضبط ما حدث، على حد تعبير مقال الجزيرة الإنجليزية. فبعد أن تخلى عنهم راعيهم الأمريكي، ليس أمام الأكراد الآن سوى العودة إلى حليفهم القديم في دمشق. وهذا ما جعلهم يعقدون صفقة مع النظام السوري ويطلبون منه نشر قواته على الحدود التركية.
واعتبر الكاتب أن هذا بمثابة تحول كبير في صياغة التحالفات التي تكتنف الصراع في سوريا، وأن من شأن ذلك أن يضع قوات النظام السوري في مواجهة تركيا والمعارضة السورية المدعومة من الأتراك.
يتساءل قبلان: هل ستدعم إيران وروسيا النظام السوري في قتاله المحتمل مع تركيا مثلما فعلتا في إدلب؟ ويجيب قائلا إن موسكو ستحاول على الأرجح في هذه المرحلة العمل على إبرام اتفاق بين أنقرة ودمشق، وإحياء معاهدة أضنة لعام 1998 حول أمن الحدود بين الجانبين وإرساء وضع يكون مقبولا للجميع.
يختم قبلان مقاله بالتشديد على أنه ما إن تنسحب واشنطن فإن موسكو سيكون بإمكانها تقرير مصير سوريا من تلقاء نفسها والتحكم في تصرفات كافة الأطراف الفاعلة في الصراع، بما فيها تركيا وإيران والسعودية وإسرائيل.