مخابرات ألمانيا الشرقية.. تحويل العمل “القذر” إلى علم أكاديمي (2)

تناول التقرير السابق كيف لم يعد جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية قادرا منذ توقيع اتفاقية هلسنكي عام 1975 على إقصاء خصومه بالاعتقال والتعذيب والإعدام، لأن ذلك يعرض الدولة للانتقاد
ولكن الجهاز المعروف باسم (شتازي) أدرك أنه في معركته المستمرة تلك، وإن فقد السلطة على أجساد الناس، فلا يزال يملك أكبر السلطة على نفوسهم، وكان قادرا من خلال استهداف النفس الإنسانية على تعطيل الجسد إلى أبعد حد، دون توريط نفسه أمام جماعات حقوق الإنسان والصحافة الأجنبية.
وهذا ما جعل الحاجة ملحة للتركيز على توظيف علم النفس في المعارك السياسية مع “المعارضين” أفرادا وجماعات، فقد قامت ألمانيا الشرقية منذ عام 1960 بتغيير مفهوم “علم النفس” في عملها المخابراتي، من علم تتمثل مهمته في مساعدة الإنسان على التعافي من أوجاعه وأمراضه النفسية، إلى علم يوظف ما توصلت إليه الأبحاث والدراسات في عملية تحطيم ممنهجة واحترافية للنفس الإنسانية.
وهذا ما جعل “علم النفس العملياتي” ركنا أساسيا من طريقة “التحليل” التي استخدمها جهاز أمن الدولة بدءا من عام 1976 في حربه مع خصومه. ولم يكن علم النفس يُدرَّس هنا بشكل بحثي مجرد، بقدر ما كان يتم التركيز على الجانب التطبيقي فيه، والذي يصلح استخدامه بشكل مباشر مع الأعداء والأصدقاء على حد سواء. وقد وجد علم النفس هذا، وغيره من العلوم التي تم تسخيرها لخدمة شتازي، فضاءً أكاديميا يُدرَّس فيه في كلية الحقوق في بوتسدام، الفريدة من نوعها في جمهورية ألمانيا الديمقراطية.

كلية وزارة أمن الدولة
في مبنى جامعة غولم الحالي، في مدينة بوتسدام في ألمانيا الشرقية، قامت المؤسسة التعليمية التابعة لجهاز شتازي منذ عام 1951 بتخريج آلاف الموظفين المؤهلين للعمل المخابراتي الاحترافي. لكن هذه المؤسسة التعليمية شكلت إحراجا من نوع ما لحكومة ألمانيا الشرقية، ويتضح ذلك عند ملاحظة التردد بشأن إطلاق الاسم المناسب عليها، فمن “مدرسة وزارة أمن الدولة” عند التأسيس، إلى “كلية وزارة أمن الدولة” عام 1955، إلى الاسم الأخير الأكثر تمويها، الذي حصلت عليه عام 1965، وهو “كلية الحقوق في بوتسدام”.
وعلى الرغم من أن اسمها الأخير يعطي انطباعا بأن هذا المبنى الأكاديمي الهادئ هو مجرد كلية حقوق عادية، إلا أنه لم يكن له من كلية الحقوق إلا اسمها، الذي يكتب على أوراق الامتحانات وشهادات التخرج والوثائق الرسمية، أما الخريجون، فعلى الرغم من حصولهم على ما سمي “دبلوم للحقوق”، إلا أنهم لم يكونوا مؤهلين لممارسة هذه المهنة، لأنهم لم يتعلموا من منهج الحقوق إلا ما يحتاجه موظف الأمن، بينما كانت مواضيع دراستهم الرئيسية تتمحور حول الأداء العملياتي، وعلم النفس، والتربية العقائدية والعسكرية، والمهارات الاستخباراتية والأمنية في التحقيق والمراقبة والاقتحام السري للمنازل.
إن خصوصية هذه الكلية جعلتها مختلفة تماما عن كل المؤسسات الأكاديمية الموجودة على أرض ألمانيا الشرقية، فهي لم تدرج مثلها على لائحة الجامعات الرسمية، وكانت مناهجها سرية، ولم يكن التبادل العلمي مع الجامعات الأخرى فيها ممكنا، ولم يُسمح للانتساب لها إلا لموظفي الدولة مضموني الولاء. كل هذا جعلها تمارس نشاطها الأكاديمي دون مراعا للشروط العلمية المتعارف عليها، حتى إن شهادات الدراسات العليا التي كانت تمنحها، لم تخضع لأي تقييم علمي حقيقي، كون أطروحاتها كانت سرية وغير قابلة للنشر.

دور علم النفس العملياتي
في هذه الكلية تلقى الطلاب، ابتداء من عام 1960، ساعات دراسية مطولة في علم النفس العملياتي، لفهم تركيبة الإنسان النفسية، ومشاعره وحاجاته، ونقاط ضعفه، وأنماطه السلوكية، وعلاقاته الإنسانية مع الأفراد والجماعات، مما مكنهم خلال التطبيق العملي من استهداف ثقة الفرد بنفسه، وإفقاده لشعوره بالقيمة، وجعله متشككا وخائفا دوما، بالإضافة إلى اقتلاعه من محيطه الاجتماعي عبر تخريب علاقاته بالمقربين له، وحرمانه من دعمهم النفسي في أوقاته العصيبة، الأمر الذي يفقد الفرد أمانه واستقراره النفسي، ويسلبه أي وقت أو قدرة على التفكير بممارسة نشاطات معارضة للدولة.
وإلى جانب التحطيم النفسي للأفراد، كان يتم بالاستعانة بعلم النفس العملياتي في عملية تحطيم المجموعات التي يُشك بولائها للدولة، وذلك من خلال تقوية بذور الفرقة، واستدعاء الخلافات بين أفراد المجموعة، وهز ثقتهم ببعضهم البعض، لإحداث الفوضى في نشاطاتهم وإفشالها ثم شلها. كما كان علم النفس العملياتي يستثمر بشكل مكثف أيضا أثناء عمليات الاستجواب والاعتقال لتحقيق أكبر قدر ممكن من الضغط على الضحية، واستغلال نقاط ضعفه النفسية لدفعه للكلام.

تطبيقات أخرى
على الرغم من التوظيف الكبير لعلم النفس العملياتي في تحطيم الخصوم، إلا أنه كان يملك أيضا تطبيقات أخرى أكثر إثارة للاهتمام، ألا وهي استثماره في عملية دفع المواطنين العاديين للتعاون مع موظفي جهاز المخابرات بشكل طوعي، للوشاية بأصدقائهم وجيرانهم وأهلهم وأحيانا أزواجهم وزوجاتهم، حيث لم يكن الشتازي مضطرا لاستخدام أساليب الإجبار والضغط والابتزاز إلا نادرا، أما غالب الوقت فقد نجحت تطبيقات علم النفس العملياتي في ضم المزيد والمزيد من المواطنين للعمل الطوعي مع المخابرات، اعتمادا على الإقناع وبث الشعور بالانتماء واستغلال حاجات الفرد واهتماماته ونزعته للشعور بالأهمية والأمان في المجتمع، ويتم ذلك كله من خلال خلق علاقة طيبة يسودها التعاطف والثقة بينه وبين الموظف الرسمي المسؤول عنه.
ولن يكون ميل الناس الطوعي للتعاون مع المخابرات مفاجئا، إذا علمنا مثلا أن الأوراق البحثية وأطروحات الدكتوراه في كلية أمن الدولة كانت تحمل عناوين من مثل “كسب الموظفين غير الرسميين وشروطه النفسية”، أو “تأثير العامل الأخلاقي على مواطني جمهورية ألمانيا الديمقراطية خلال عملهم كموظفين غير رسميين مع جهاز أمن الدولة”، وغير ذلك من العناوين التي تشي بمقدار ما تمتعت به عملية تجنيد المواطنين من أهمية عند دراسة وتطوير علم النفس العملياتي، دون إغفال أهمية هذا العلم في تطوير عملية “التحليل” أيضا.
فمن بين الـ3300 شخص الذين تلقوا تعليمهم في هذه الكلية، منذ عام 1966 وحتى سقوط جدار برلين، قام 347 طالبا بتقديم أطروحة دكتوراه، وعدد مؤلف من خانتين منهم كانت أطروحته تتناول عملية “التحليل” تحديدا.
وهكذا نجحت ألمانيا الشرقية في تحويل نشاطاتها المخابراتية القذرة إلى علم أكاديمي يتم تدريسه في قاعات الجامعات، ويحصل طلابه على لقب أكاديمي محترم، فالطغاة قادرون دوما على قلب الحقائق، وتجميل القبيح، وإلباس السفاح بزة رسمية وربطة عنق، والطغاة لا يؤتمنون على علم، لأنهم لن يتوانوا يوما عن استغلال مقدرات الدولة، وكفاءات مواطنيها، لتوجيه البحث العلمي فيما يخدم مصالحهم هم وحدهم، حتى لو كان في ذلك إيذاء للبشرية جمعاء.
وفي التقرير القادم سنتناول بالتفصيل ظاهرة الموظفين غير الرسميين في ألمانيا الشرقية، والذين تم تجنيدهم باستخدام تطبيقات علم النفس العملياتي.
الحلقة الأولى
مخابرات ألمانيا الشرقية: حقبة سوداء ودهاء شيطاني (1)