عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي [الحلقة 14]
كانت المشكلةُ الكبرى في الإعلانِ الدستوريِ الذي أصدرَه الرئيسُ محمد مرسي في 21 نوفمبر 2012، أنه بدا إعلاناً لقيطاً، فقد أعلنَ الجميعُ براءتَهم منه.
تقرير | سليم عزوز
ثم أن الرئيسَ – والحال كذلك – فاجأ به الرأيَ العامَ، في شهرٍ كانت المعارضةُ لهُ في ذِروتِها، لسعْيِها لعرقلةِ عملِ الجمعيةِ التأسيسيةِ لإعدادِ الدستورِ، ثم جُنّ جنونُها؛ لأن الجمعيةَ انتهتْ من إعدادِ مُسَوَّدَتِه، دونَ تلكّؤٍ يُعطي القضاءَ الفرصةَ لحلِّها، ما دام الرئيسُ قد وضعَ “العُقدةَ عندَ المنشارِ”، وقال إنّه لن يحلَّها إلا بحكمٍ قضائيٍ، ثم ها هو يقومُ بتحصينِها في إعلانِه الجديدِ!
إلى الآنَ لا يعرفُ أحدٌ على وجهِ الدقةِ، “كواليسَ الإعلانِ الدستوريِ”، ومَن وضعَه، ومَن في دائرةِ الحكمِ كان قريباً من هذه الكواليسِ؟!
لقد نفى مستشارو الرئيسِ من السياسيين، ليس فقط مشاركتهم في كتابةِ الإعلانِ الدستوريِ، بل مجردَ اتصالِ علمِهم به قبلَ نشرِه في الجريدةِ الرسميةِ.
كما لم يتصلْ علمُ رجالِ القانونِ في دائرة الحكمِ بهذه الكواليسِ، فهل يعقلُ أن عملاً قانونياً هكذا لا يَعلمُ بأمرِه نائبُ الرئيسِ، أو وزيرُ العدلِ، وهما قاضيانِ ومن أهل القانونِ: الأخوانِ مَكِّي؟
وقد ذكرَ الدكتور سيف الدين عبد الفتاح أحدُ مستشارِي الرئيسِ أنه سألَ المستشارَ محمود مَكي نائبَ الرئيسِ إنْ كان ممن شاركوا في وضعِ الإعلانِ الدستوريِ، فقامَ الرجلُ وأمسكَ بمصحفٍ كانَ على مكتبِه وأقْسمَ أنه لم يعرفْ عنه شيئاً، فلم يشاركْ في وضعِه، ولمْ يعلمْ بأمرِه!
وهو ما أساءَ أكثرَ لمقامِ الرئاسةِ، فهذا الإعلانُ الدستوريُ لابدَّ أن تكونَ قد أعدتْه جماعةُ الإخوانِ، فقامَ الرئيسُ بمجردِ التوقيعِ عليه، وباعتبارهِ ليسَ أكثرَ من موفدٍ للجماعةِ في القصرِ الرئاسيِ، وهي الدعايةُ التي كانت تترددُ بهدفِ الحطِ من قدرِه، لكنْ هل كانت الجماعةُ فعلاً وراءَ الإعلانِ الدستوريِ؟
عندما سألتُ مقربينَ من قياداتٍ في الإخوانِ ومن حزبِ “الحرية والعدالة”، تلقّيتُ نفياً بأن تكونَ الجماعةُ أو الحزبُ قد وضعا الإعلانَ الدستوريَ بشكله الذي صدرَ به. وقد نفى المستشارُ القانونيُ للحزبِ عبد المنعم عبد المقصود المحامي، أن يكونَ قد شاركَ في وضعِه. وقد سُمع الدكتورُ سعد الكتاتني رئيسُ الحزب وهو يقول: “ليس هذا ما اتفقْنا عليه.. لكننا سنقفُ مع الرئيسِ”، وهو ما يؤكدُ أنه كان على علمٍ مسبقٍ بأن هناك إعلاناً دستورياً سيصدرُ، لكنْ لم يتم الاتفاقُ على الموادِ موضوعِ الأزمةِ، لاسيما المادةُ التي تحصنُ قراراتِ رئيسِ الجمهوريةِ من الطعنِ عليها أمام القضاءِ.
كانت كلُّ أصابعِ الاتهامِ تتجهُ إلى شخصٍ واحدٍ هو المستشارُ محمد فؤاد جاد الله، ولم ينفِ هو ما ترددُ إلا عندما استقالَ من منصبِهِ، وقفزَ من المركبِ عندما وجدَها غارقةً لا محالةَ، ولاسيما أنه وصلَ للرئيسِ ملفٌ يخصُه، وقد عملَ مكتبُ الرئيسِ من أجل ألا يصلَ هذا الملفُ ليدِ الرئيسِ انحيازاً للمستشار فؤاد جاد الله.
لم يكن الرئيسُ مُبتدِعاً:
وبعيداً عمّن تولّى الصياغةَ، فمن الواضحِ أنها تمت بِناءً على رغبةِ الرئيسِ، وكان لهذا الإعلانِ الدستوريِ ما يبررُه.
ففي مواجهةِ “البراءةِ للجميعِ” في قضايا قتلِ الثوارِ، كان لابدَّ من نصٍّ بإعادة التحقيقات في هذه الجرائمِ.
كما كانتْ إقالةُ النائبِ العامِ ضرورةً سياسيةً وثوريةً. ومن حيث كونُها سياسيةً، فلا يجوزُ الإبقاءُ عليه، بعد أن فُرضت عودتُه، بعد الإعلانِ عن تعيينِه سفيراً لمصرَ في الفاتيكان، فبدت عودتُه لمكتبهِ كما لو أنها على أسنّةِ الرماحِ، فكانت معركة هُزم فيها الرئيسُ وانتصرَ خصومُه. وأما كونُها ضرورةً ثوريةً فلأنّ عزلَه هو أحدُ مطالبِ ثورةِ يناير.
كما أن سلطاتٍ خاصةً برئيسِ الجمهوريةِ، اغتصبَها المشيرُ محمد حسين طنطاوي لصالح مجلسِ الأمنِ القوميِ بأغلبيتِه العسكريةِ، مثلَ سلطةِ اتخاذِ الإجراءاتِ والتدابيرِ اللازمةِ إذا تعرضت الوحدةُ الوطنيةُ أو سلامةُ الوطنِ أو عُوّقت مؤسساتُ الدولةِ عن أداءِ دورِها، فكان من الطبيعي أن يُردَّ الأمرُ إلى أصله لتصبحَ هذه سلطةَ رئيسِ الجمهوريةِ، وأن يتم النصُّ على أن يكونَ من بين هذه المخاطرِ التي يكون من سلطةِ الرئيسِ التدخلُ “إذا قام خطرٌ يهددُ ثورة يناير.”
وفي مواجهةِ التربصِ بالجمعيةِ التأسيسيةِ كان لابدَّ من قرارٍ يحميها من الحلِّ بحكمٍ قضائيٍ في أي لحظةٍ، ولو بعد عرضِ مشروعِ الدستورِ على الاستفتاءِ، ولم يكن القانونُ هنا هو الحكمَ، فقد تجاوزت المحكمةُ الدستوريةُ اختصاصَها وفصلت في موضوعِ الدعوى وقررت حلَّ مجلسِ الشعبِ، واختصاصُها هو الفصلُ في دستوريةِ القوانين، دونَ النظرِ إلى ما هو أبعدُ من ذلك، فماذا ستتركُ لمحكمةِ الموضوعِ التي أحالت الطعنَ بعدمِ دستوريةِ النصِ القانونيِ لها؟!
وإزاءَ حرصِ الرئيسِ على استكمالِ بناءِ مؤسساتِ الدولةِ، كان النصُّ بتحصينِ مجلسِ الشورى من الحلِّ، إلى ما بعدَ الانتهاءِ من الاستفتاءِ على الدستورِ.
وإزاء التغوّلِ من جانبِ السلطةِ القضائيةِ على قراراتِ رئيسِ الدولةِ، لاسيما بعد إلغاءِ قرارِه بحكمِ المحكمةِ الدستوريةِ بعودة مجلسِ الشعب، بدون اختصاصٍ للمحكمةِ في ذلك، كان النصُ بتحصينِ قراراتِه، ولم يكن في هذا مُبتدِعاً، بل كان مُتّبِعاً لما هو موجودٌ بالفعلِ في قانونَي السلطةِ القضائية ومجلسِ الدولة، وما انتقلَ من فرنسا إلى مصرَ وغيرِها من الدولِ من تحصينِ أعمالِ السيادةِ من رقابةِ القضاءِ.
بَيدَ أن الطريقةَ السريةَ التي صدر بها الإعلانُ الدستوريُ، ومع وجودِ معارضةٍ حادةٍ له، منعَت من وجودِ مدافعين عن وجهةِ نظرِ الرئيسِ، وتُرك الأمرُ لمن أدخلوا على الناسِ الغشَ والتدليسَ، باعتبار أن الرئيسَ قررَ بالإعلانِ الدستوريِ التحولَ إلى ديكتاتورٍ، وحتى في دائرةِ المؤيدين له، مَن عارضَ الإعلانَ الدستوريَ مثل المستشارِ طارق البشري، الذي أنكرَ على الرئيسِ إصدارَ إعلانٍ دستوريٍ، وكأنّ الإعلاناتِ الدستوريةَ هي حقٌ أصيلٌ للمجلسِ العسكريِ؟ والإعلانُ الدستوريُ هو بطبيعتِه إجراءٌ مؤقتٌ تفرضُه مراحلُ ما بعد الثوراتِ والانقلاباتِ، وهو ما لا تذكرُه الدساتيرُ أو القوانينُ القائمةُ، التي تعتبرُ الثورات والانقلابات خروجاً عليها في الأصلِ. فمن أينَ جاء المستشارُ البشري بأنّه ليس دورُ رئيسِ الجمهوريةِ إصدارَ الإعلاناتِ الدستوريةِ؟! فمن أعطى الحقَ للمجلسِ العسكريِ ونزعَه من الرئيسِ المنتخبِ بعد الثورةِ، التي لم يكن قد اكتملَ بناؤُها القانونيُ بإقرارِ دستورِها؟!
كان عليه:
كان على الرئيسِ أن يجمعَ مستشاريه ومن يثقُ بهم إلى اجتماعٍ شبهِ سريٍ، حتى لا تحتاطَ قوى الثورةِ المضادةِ لنفسها، ويعرضَ عليهم الحالةَ ومخاوفَه من أن يتمَّ عن طريقِ القضاءِ العصفُ بكلِّ ما يتقررُ حتى لا يكتملَ بناءُ مؤسساتِ الدولةِ، وأن يفكّروا معه بصوتٍ معلومٍ، في جلسة عصفٍ ذهنيٍ حتى إذا صدرَ الإعلانُ الدستوريُ وجدوا أنفسَهم معنيّين به وبالدفاع عنه، بدلاً من ترك الأمرِ لأهلِ الفتنةِ، ولم تكن أبداً نائمةً، فقد صدرَ الإعلانُ الدستوريُ في وقتٍ كانوا فيه يقرعون طبولَ الحرب، ضد الجمعيةِ التأسيسيةِ.
إنني أدركُ أن مشكلةَ رجال القانون أنهم يفتقدون – في معظمِهم – الرُوحَ الثوريةَ، ومن ثم قد يرفضُ الأخوانِ مَكي، بعضَ نصوصِ هذا الإعلانِ الدستوريِ، مع أن الشرعيةَ الثوريةَ في زمنِ ثورة يوليو 1952 قام بالتنظيرِ لها اثنانِ من كبارِ رجالِ القانونِ، الفقيهُ الكبيرُ “عبد الرزاق السنهوري” رئيسُ مجلسِ الدولةِ، و”سليمان حافظ” وكيلُ المجلسِ، لكنّ الأخوَينِ مَكي ليسا من أهل الاجتهادِ، مثل هاتَين القامتَين، وهما من أهلِ النصوصِ، ولا نقول عبَدَتَها، لكنّ وضعَ الجميعِ “في الصورة” وأمام مسؤولياتِهم التاريخيةِ، كان هو الأفضلَ، ولو في ذكر التبريرِ لهذا الإعلانِ، لأن ظهورَهم أمام الرأيِ العامِ كآخرِ مَن يعلمُ، أضرَّ كثيراً بموقف الرئيسِ، من حيثُ تصويرُه على أنه مندوبُ جماعةِ الإخوانِ في الرئاسةِ، وهي التي تفرضُ عليه أشياءَ لا يستشيرُ فيها رجالَه بقصرِ الاتحادية.
كما أنّ مشاركةَ قانونيين كبارٍ في جلسةِ العصفِ الذهنيِ، كان يمكنُ لها أن تبتدعَ صياغةً لا تعتمدُ المجاهرةَ في المادةِ الخاصةِ بتحصينِ قراراتِ رئيسِ الجمهورية، ولو بالإحالةِ إلى النصَين الواردَين في قانونِ مجلسِ الدولة وقانونِ السلطةِ القضائية. لكن هل كانت إعادةُ التذكيرِ بأن أعمالَ السيادة بطبيعتِها منصوصٌ على تحصينِها تكفي؟ ومن سلطةِ القضاءِ عند الفصلِ في أيِ قرارٍ تحديدُ إن كان من أعمالِ السيادةِ، أو من القراراتِ الإداريةِ، ورأينا بعد ذلك كيف أن قرارَ رئيسِ الجمهوريةِ بدعوةِ الناخبين، تم تصنيفُه في عهدِ مبارك على أنه من أعمالِ السيادةِ، وفي عهد مرسي على أنه قرارٌ إداريٌ، من سلطةِ القضاءِ التعرضُ له بالإيقافِ والإلغاء!
لقد كانت النارُ مشتعلةً، وكانت جبهةُ الإنقاذ تنفخُ في الكِيرِ، ولم يكن الإعلانُ الدستوريُ سوى وقودٍ زادها اشتعالاً، وكانت الدعوةُ من قبل البرادعي وصباحي لمليونيةٍ بميدان التحريرِ، تدعو إلى إعلانِ الحربِ على الرئيسِ محمد مرسي، بل وتدعو للزحفِ إلى قصرِ الاتحادية، وكانت الثورةُ المضادةُ حاضرةً بقضِّها وقضيضِها!
الرهبانُ في الميدان:
وهنا وهناك، في ميدانِ التحرير، وعند قصرِ الاتحادية، كانت الكنيسةُ حاضرةً عياناً بياناً، وهو الملفُ الشائكُ الذي يتجاهلُ الجميعُ الحديثَ فيه لحساسيتِه.
كان البابا الجديدُ، تواضروس، قد تولى كرسيَه الباباويَ خلفاً للبابا شنودة، ويبدو أنه قررَ الالتحاقَ بأحدِ أطرافِ الأزمةِ، مراهناً على ابتزازِ الطرفِ الآخر، الذي لا يمكنه الحديثُ بشكلٍ طائفيٍ.
لقد شاهدتُ قساوسةً ورهباناً، في التحريرِ وأمام القصرِ الجمهوريِ، ليس واحداً أو اثنَينِ ولكن عشرات القساوسةِ والرهبانِ، فما لرجالِ الدينِ والسياسة؟ وإذا كان من الطبيعي حضورُهم فلماذا لم يحضروا في ثورةِ يناير، وتغيبوا جميعاً، فلم تجد الثورةُ مَن يقيم قداساً فاستعانت بقسٍّ من الكنيسة الإنجيليةِ، بعد أن أعلنَ رأسُ الكنيسة الأرثوذكسية البابا شنودة من أول يوم أنهم مع مبارك!
لقد رأينا قساوسةً انضموا لحزبِ “الغد” قبلَ الثورةِ في بداية تأسيسِه، وعندما دخل النظامُ في صدامٍ معه، باعتقال رئيسِه الدكتورِ أيمن نور، انسحبَ منه هؤلاء القساوسةُ وترددَ يومَها أنهم قالوا إن انسحابَهم تم بناءً على طلب البابا.
وإذا كانت الحياةُ السياسيةُ قد عرفت ظاهرةَ العضوِ المسيحيِ في قيادةِ كل حزبٍ، تماشياً مع تقليدٍ قديمٍ لحزبِ الوفد، عندما كان سكرتيرُه العامُ هو مكرم عبيد، فإن ظاهرةَ اشتغالِ رجالِ الدينِ بالسياسةِ كانت محدودةً للغاية، ولا أتذكرُ منها سوى فوزِ القمص بولس باسيلي بعضويةِ برلمانِ سنةِ 1971، كأولِ كاهنٍ يدخل البرلمانَ المصريَ، ولا أتذكر أن كاهناً غيرَه دخلَ البرلماناتِ التاليةَ.
لقد سألتُ البابا شنودة في حوارٍ أجريتُه معه ونشرتْه جريدةُ “السفير” اللبنانية عن عملِ رجالِ الدينِ المسيحيِ بالسياسةِ، فقال إن هناك فرقاً بين الاشتغالِ بالسياسةِ وإبداءِ الرأيِ في السياسةِ، وأن الممنوعَ على رجلِ الدينِ هو الاشتغالُ في السياسة. فماذا يمكن أن نفهمَ من وجود القساوسةِ والرهبانِ في مظاهراتِ التحرير؟ وفي حصارِ قصرِ الاتحادية، في تلك الأيامِ؟ أهو اشتغالٌ بالسياسةِ أم إبداءُ رأيٍ في السياسة؟!
وإذا كان من الطبيعي حضورُ القساوسة، فما علاقةُ الرهبانِ بالموضوع، والرهبنةُ تقومُ على التخلّي عن الدنيا والزهدِ فيها، والبعدِ عن الناسِ والتفرغِ للعبادة، والأصلُ أن الراهبَ تُعلنُ وفاتُه بمجرد رسمه، فما الذي يفزعُه لأمرٍ من أمورِ الدنيا، وما الذي يقلقُه من أن محمد مرسي حصّنَ قراراتِه وتحولَ إلى فرعونَ؟!
إنها حشودٌ لم تغبْ عنها الثورةُ المضادةُ، والمؤسساتُ الدينيةُ إحدى مكوناتِها، وقد كانت الكنائسُ الثلاثُ قد انسحبت من الجمعيةِ التأسيسيةِ قبل أيامٍ، من الإعلانِ الدستوريِ، وكانت الأجواءُ ملتهبةً بشكلٍ عام، فقد شهدَ ميدانُ التحرير احتفالاً قبل ذلك بأيامٍ بمناسبةِ ذكرى أحداثِ محمد محمود، وحدثتْ مواجهةٌ بين الأمنِ والمتظاهرين، وحدثَ ما وصفته الصحفُ بـ “معركة الحجارة والنار التي تحرق الشارع”، وسادت حالةٌ من الكرِّ والفرِّ بين المتظاهرين ورجالِ الشرطة، وتمّ الهجومُ على مقرِّ قناةِ الجزيرة مباشر، الذي كان في إحدى البناياتِ المطلةِ على ميدانِ التحرير، ونجا مديرُ أمنِ القاهرةِ، وأصيب مساعدُه بعد وصولِه بصحبتِه سيارةُ الإطفاءِ، فتم الاعتداءُ عليهم ومحاولةُ الاستيلاءِ على سيارة الإطفاء. وفي اليوم التالي 21 نوفمبر كان الإعلانُ الدستوريُ، وفي يوم 22 نوفمبر بدأ التوافدُ على ميدانِ التحرير استعداداً لمليونيةِ جمعةِ 23 نوفمبر، وكانت هذه الجمعةُ في البدايةِ تحتَ عنوان “عيون الحرية” احتجاجاً على قيامِ قناصةِ وزارةِ الداخلية بإصابةِ عددٍ من المتظاهرين – في ذكرى محمد محمود – في عيونِهم، وهي الأحداثُ التي أسفرت عن إصابةِ 153 مدنياً، و92 من رجال الشرطة.
تعطيلُ العدالة:
وكان الإعلانُ الدستوريُ مناسبةً لكي تتجاوزَ القوى المدنيةُ هذه الأحداثَ وتعلنَ الحربَ ضد الرئاسة، فالقوى المدنيةُ لم تكن راغبةً في الصدامِ ومع وزارةِ الداخليةِ، ولم يكن هذا في الحقيقة هو موضوعَها، فما يشغلُها هو الجمعيةُ التأسيسيةُ ومُسوَّدَةُ الدستور.
ونشرت الصحفُ أن البرادعي وحمدين وعمرو موسى يقودون مسيراتِ إسقاطِ الإعلانِ الدستوريِ، فالصورةُ المتداولةُ التي يتأبطُ فيها عمرو حمزاوي، سامح عاشور، الذي يتأبطُ بدورِه عمرو موسى، حيث يتأبطُه حمدين صباحي، المتأبطُ للبرادعي، والذي يتأبطُه جورج إسحق، وهم يدخلون ميدانَ التحرير لا تخصُّ مظاهرات 30 يونيو كما هو شائعٌ، ولكنها تخصُّ مظاهراتِ جمعة 23 نوفمبر 2012.
وفي نفس اليومِ عقدَ نادي القضاة مؤتمراً حضره عمرو موسى ومرتضى منصور وأعلنَ فيه رئيسُ النادي أحمد الزند أن قراراتِ مرسي باطلةٌ، والحماقةُ أعيت من يُداويها!
وخرجت الهيئاتُ القضائيةُ عن مقتضى الواجبِ الوظيفيِ وهددت بتعليقِ العملِ، وتمّ تعليقُ العملِ فعلاً بمحاكمِ الإسكندريةِ والبُحيرةِ وأسيوطِ لحين إلغاءِ الإعلانِ الدستوريِ. فهل دورُ المحاكمِ هو الاعتراضُ على القوانين والإعلاناتِ الدستوريةِ؟
وهذا التعليقُ يدفعُ المعلّقين للوقوع تحت طائلةِ النصِ القانونيِ الذي يجرمُ تعطيلَ العدالةِ، وقال مجلسُ القضاءِ الأعلى في بيانٍ له: الإعلانُ الدستوريُ اعتداءٌ غيرُ مسبوقٍ على استقلالِنا، لأنه مسَّ السلطةَ القضائيةَ واختصاصَها، وتدخلَ في شؤون أعضائِها والنيلِ من أحكامِها.
إذا كان الأمرُ في النصِ الخاصِ بتعيينِ النائبِ العام، فما هو الجديدُ الذي جاءَ به، وتعيينُ النائبِ العامِ كان سلطةَ رئيسِ الدولةِ، ولم يرَ مجلسُ القضاءِ الأعلى في ذلك تدخلاً في شؤونِه أو انتقاصاً من استقلالِه؟
وإذا كان المعنيُّ هو تحصينَ قراراتِ رئيسِ الجمهوريةِ، أفليس القضاءُ نفسُه هو من أقرّها تنفيذاً للقانون، وإن تعارضَ مع نصوصٍ دستوريةٍ واضحةٍ تقول بعدمِ التحصينِ، وأين كان المجلسُ ومحكمةٌ تتبعُه- هي محكمةُ القاهرةِ للأمورِ المستعجلةِ- استخدمها النظامُ البائدُ على مدى ربعِ قرنٍ في إهدارِ حجيةِ أحكامٍ واجبةِ النفاذِ، صادرةٍ من قضاءِ مجلسِ الدولةِ مع عدمِ اختصاصِ القضاءِ العادي بوقفِ أو إلغاءِ قضاءِ مجلسِ الدولةِ أو التعرضِ له بأيِ طريقةٍ؟!
والسؤالُ هل سلطةُ القضاءِ هي تطبيقُ القوانين، أم التشريع؟!
تصدُّعٌ في جبهةِ الرئيس:
لقد وصلَ التصدعُ للبيتِ الرئاسيِ، بعد أنْ استشعرَ عددٌ من مستشارِيه أنهم ليسوا أكثرَ من “خيال مآتة” لا يتمُّ وضعُهم “في الصورة” مع أمرٍ مهمٍ كالإعلانِ الدستوريِ الذي وظّفته المعارضةُ في تأليبِ الرأيِ العامِ على الرئيسِ، ووصلت أصداؤُه إلى الخارجِ، فطالبت الخارجيةُ الأمريكيةُ وقصرُ الإليزيه السلطةَ في مصرَ بعدمِ الخروجِ على المسارِ الديمقراطيِ.
لقد استقالَ من هيئةِ المستشارين بالرئاسةِ: الدكتورُ سيف الدين عبد الفتاح، وأيمن الصياد، وعمرو الليثي، ومحمد عصمت سيف الدولة، وكان قد سبقَهم للاستقالةِ سكينة فؤاد، وفاروق جويدة، ولحقَ بهم في اليومِ التالي الدكتورُ رفيق حبيب، الذي استقالَ كذلك من منصبِ نائبِ رئيسِ حزبِ الحرية والعدالة، وقال إنه اعتزلَ العملَ السياسيَ مكتفياً بعملِه باحثاً ومحللاً سياسياً.
وبالنظرِ إلى تاريخِ الاستقالةِ، سنجدُه قد تأخرَ أسبوعَين على نحوٍ كاشفٍ بأن ما وصفته الصحفُ بـ “القفز من مركبِ الرئيس”، تمّ بفعلِ هذه المظاهراتِ، التي بدا أنها لن تتوقفَ، والتي تزدادُ كلَّ يوم زخماً عن اليومِ السابق، وقال الدكتور عصام العريان إن الفلولَ هم من يديرون هذه المظاهراتِ، وكان الأمرُ صحيحاً إلى حدٍ كبيرٍ، فلا تملكُ القوى المدنيةُ القدرةَ على أن تحشدَ كلَّ هذه الأعدادِ، وإن ظهرت جبهةُ الإنقاذ في رأسِ المشهدِ، ولا ننسى أن الفريقَ أحمد شفيق، انتقلَ إلى جبهةِ المعارضةِ الحادةِ من مقرِّه في الإماراتِ ضدَّ النظام، وهذا على عكسِ موقفِه من الدعوةِ لمظاهراتِ أغسطس، حيث قال إنه ضد الدعوةِ إليها، وتغيُّرُ موقفِه كان بسببِ البلاغاتِ التي قُدمت ضده، ووصلَ الأمرُ إلى التحفظِ على أموالِه في البورصةِ، وهو الذي اعتمدته الدولةُ العميقةُ مرشحَها قبلَ عدةِ شهور.
يبدو أن مستشاري الرئيسِ السابقين، كانوا ينتظرون أن تهدأ المظاهراتِ ضد الإعلانِ الدستوريِ، لكن لم يكن هناك في الأفقِ ما يشيرُ إلى هذا، والمطلبُ المرفوعُ هو إلغاءُ الإعلانِ الدستوريِ، في الوقتِ الذي تقولُ الرئاسةُ إنها لن تقدِمَ على خطوةِ إلغائِه، وبدا جلياً أنه لا توجدُ لديهم الرغبةُ أو القدرةُ على “الحساب على مشاريب” لم يشربوها أو يطلبوها.
ووصلَ الحالُ، إلى استقالةِ رئيسِ التلفزيونِ “عصام الأمير”، الذي قدمَ استقالتَه لوزيرِ الإعلامِ الأستاذِ صلاح عبد المقصود، فلم يبتَّ فيها، وترك استقالتَه معلقةً، وهو أمرٌ لا بدَّ أن يصيبَ المرءَ بالإحباطِ، عندما يجدُ هذا الخيارَ البائسَ لموقعٍ مهمٍ كهذا، وبعدَ ثورةٍ عظيمةٍ، وبعدَ تعيينِ وزيرِ إعلامٍ ينتمي لجماعةِ الإخوانِ، والمذكورُ يصلحُ خياراً في زمنِ مبارك، أو المجلسِ العسكريِ، وإن كانت قيمتُه لا تؤهلُه لمنصبٍ كهذا، ولكن في موقعٍ أدنى، كرئاسةِ القناةِ الثامنةِ التي تُبثُّ من جنوبِ الصعيدِ، لكن في زمنِ القاماتِ المنخفضةِ يصبحُ هو الرجلَ الأولَ في التلفزيونِ الرسميِ، بل ويتقدمُ باستقالتِه، فلا يقبلُها الوزيرُ في الحالِ، إنما يُرجئُ البتَّ فيها لعلَّه يتراجعُ عنها، فيصرُّ على موقفِه ويكونُ إصرارُه سبباً في تزكيتِه للمنصبِ بعدَ الانقلابِ العسكريِ، وإن كان لم يعمرْ فيه طويلاً، بعد تسبُّبِه في أزمةِ نقلِ مبارياتٍ -تحتكرُ قناةُ “بي إن سبورت” بثَّها- عبرَ التلفزيونِ المصريِ، بلطجةً، فصدرَ حكمٌ بتغريمِ مصرَ 150 مليونَ دولارٍ لصالحِ القناةِ القطريةِ.
وها هو وزيرُ الثقافةِ صابر عرب يكتبُ على حسابِه الشخصيِ على “فيس بوك”: “أنتوي الرحيلَ في كلِ لحظةٍ واستمراري في العملِ وزيراً يرهقني نفسياً وعصبياً في ظلِّ أوضاعٍ سياسيةٍ تتصاعدُ دونَ تدخلٍ حاسمٍ واتخاذِ قراراتٍ، وإجراءاتٍ قانونيةٍ، تحققُ المصلحةَ العليا، لكن بقائي يرتبطُ بحرصي على حمايةِ ورعايةِ مؤسساتِ وزارةِ الثقافةِ”.
فهل كانَ يقصدُ أنه يحمِي مؤسساتِ وزارةِ الثقافةِ من مُغُولِ العصرِ “الإخوانِ المسلمين”؟
بالحساباتِ البسيطةِ لم يكنْ لصابر عرب أن يكون وزيراً للثقافةِ بعد الثورةِ، لأنه كان من الذين يؤهلُهم فاروق حسني للمنصبِ لخلافتِه في عهدِ مبارك، وإذ اعتبرنا أن حكمَ المجلسِ العسكريِ في اختياراتِه ومواقفِه هو امتدادٌ لنظامِ مبارك، فالمؤسفُ أن يستمرَّ في موقعِه في عهدِ أولِ رئيسٍ مدنيٍّ منتخبٍ، جاء تعبيراً عن إرادة الثورةِ، والمؤسفُ حقاً ليس – فقط – في التمسكِ بخيارِ فاروق حسني في عهدِ الرئيسِ مرسي، ولكن في تمكينِ “صابر عرب” من التلاعبِ وارتكابِ جريمةٍ تصنفُ على أنها فسادٌ سياسيٌ، عندما يستقيلُ من منصبِه الوزاريِ، ليفوزَ بجائزةِ الدولةِ التقديريةِ، ثم تنتظره الرئاسةُ حتى يتسلمَ الجائزةَ، مع “حفظ المنصب” له شاغراً، لتتمَّ إعادةُ تعيينِه من جديدٍ وزيراً بعد تسلُّمه الجائزةَ، ففي أي زمنٍ يمكن أن يحدثَ هذا العبثُ؟!
تصاعدُ المظاهرات:
لقد كانت الأوضاعُ السياسيةُ تتصاعدُ، وكان ميدانُ التحرير، ومحيطُ القصر الرئاسيِ يشهدُ حضوراً جماهيرياً متواصلاً وأُحرقت مقارُّ لجماعةِ الإخوانِ وتعرضتْ للهجومِ، ومن بينِها المقرُّ العامُ للجماعةِ بالمقطم، وفي 7 ديسمبر كان الآلافُ يتوافدون على قصرِ الاتحاديةِ في غيابٍ أمنيٍ تبيّنَ أنه مقصودٌ ومرتبٌ.
كنتُ هناك في هذا اليومِ، ورأيتُ هذا الوجودَ القليلَ من جنودِ الأمنِ المركزيِ، يقفون على الرصيفِ، في إشارةٍ إلى أنهم ليسوا طرفاً في الموضوعِ، وليسوا معنيين بما يدورُ، وعندما كان يقتربُ المتظاهرون منهم، كانوا يحرّضونهم على اقتحامِ القصر: بضغطةٍ خفيفةٍ على الأبوابِ ستجدونها مفتوحةً، لا يوجدُ حرسٌ داخلَ القصر!
ومن حسنِ الحظِ أنه لم يتمَّ التعاملُ مع هذه الرسائلِ بجديةٍ، فعند سوءِ الظنِ بأصحابِها فلابد أنهم يدفعون المتظاهرين لكمينٍ من الحرسِ الجمهوريِ، داخلَ القصرِ. وعند حسنِ الظنِ، يكونُ التعاملُ على أن الرسائلَ ترسلُ إمعاناً من جنودِ الأمنِ المركزيِ بأنّهم على الحيادِ، ليصرفوا المتظاهرين بعيداً عنهم، ولم يكن بينهم ضباطٌ، ليتبينَ بعد هذا أنهم كانوا مخلصين في النصيحةِ، فقد انسحبت الشرطةُ فعلياً في هذا اليومِ، وتجرأ عددٌ قليلٌ من الشبابِ فتسلقوا جدرانَ القصرِ، الذي كان مَن بداخله يتوقّعون اقتحامَه في أيةِ لحظةٍ، وجرى الاتصالُ بوزيرِ الداخليةِ اللواءِ أحمد جمال الدين لكنه لم يردَّ على الاتصالاتِ لمدة خمسِ ساعاتٍ، ومع أن المتسلقين يمكن إنزالُهم إذا حضرَ الأمنُ، فقد كانوا لا يتجاوزون المئةَ فردٍ، لكن لم تكن هناك رغبةٌ في ذلك.
ومن بين الذينَ وُجدوا داخلَ القصرِ، مَن اتصلَ بأسرتهِ اتصالَ مودعٍ، وأخرجَ نائبُ الرئيسِ المستشارُ محمود مَكي مسدسَه الخاصَ ووضعَه أمامه، في إشارةٍ إلى أنه لن يستسلمْ بسهولةٍ، وسيدافع عن نفسِه حتى آخر طلقةٍ فيه، وجلسَ موظفٌ في ديوانِ المظالمِ يكتبُ وصيتَه.
ولم يكبحْ تهورَ المتظاهرين، سوى الخوفِ من أن يكون عدمُ التصدي لهم هو خُطةً للإمساكِ بهم، وكانوا يفتقدون للشجاعةِ الشخصيةِ، وهو ما لمستُه بنفْسي، وقلتُ لأصدقاءَ لي كانوا معي هناك، إنَّ هذا الحضورَ لن يستمرَ طويلاً، وفي الصباحِ، وعندما ينتشرُ أن الإخوانَ في طريقِهم للقصرِ الجمهوريِ سيتبخرُ هذا الزحامُ، وكانت أنباءٌ قد بدأت تصلُ بأن الإخوانَ يحتشدون للحضورِ، بعد أن تقاعسَ الأمنُ عن حمايةِ الرئيسِ، وإن كانت فكرةُ التقاعسِ الأمنيِ لم تكن معلنةً أو معروفةً خارجَ القصرِ الجمهوريِ.
ولم يكن أمامَ الرئيسِ إلا أن يقومَ بمغامرةِ الخروجِ من القصرِ، الذي أصبح اقتحامُه وارداً في أيةِ لحظةٍ، وكاد بعضُ المتظاهرين يقتحمون عليه سيارتَه، لكن لم يتمكنوا من ذلك، والسؤالُ الذي لم يُطرحْ إلى الآنَ، إذا كانت وزارةُ الداخليةِ قد تقاعستْ عن أداءِ دورِها فأين الحرسُ الجمهوريُ؟ هل تقاعسُه لأن الرئيسَ رفضَ استخدامَه السلاحَ، وهو لا يجيدُ أداةً غيرَه للمواجهةِ على العكسِ من قواتِ الأمنِ التابعةِ لوزارةِ الداخليةِ؟
كان المتظاهرون قد عرَفوا طريقَهم قبلَ أيامٍ إلى حيثُ يسكنُ الرئيسُ في التجمعِ الخامسِ، ويذكُرُ العميدُ طارق الجوهري، الذي كان أحدَ ضباطِ وزارةِ الداخليةِ المكلفين بالحراسةِ هناك، أنه سمِعَ زملاءَه يتحدثون عن أنهم سيتركون الرئيسَ للمتظاهرين، ويقولُ إنه اتصلَ بالرئيسِ ونصحَه بعدمِ الحضورِ للمنزلِ، وقصَّ عليه ما سمِعَ، وطالبَه بالذهابِ إلى نادي الحرسِ الجمهوريِ، وهو ما حدثَ فعلاً.
إلغاءُ الإعلانِ الدستوريِ:
وقد دعا الرئيسُ بعد ذلك إلى لقاءٍ بقادةِ القوى السياسيةِ، فحضرَه رؤساءُ الأحزابِ الإسلاميةِ، ورئيسُ حزبِ غدِ الثورة، وشاركَ فيه حزبُ “الوسط”، كما شاركَ فيه رئيسُ حزب الغد السيد البدوي شحاتة، وإن رفضت رؤوسُ الفتنةِ- وفي القلبِ منهم محمد البرادعي وحمدين صباحي- تلبيةَ الدعوةِ، حيث كانا في حالةِ زهوٍ، واعتبرا أنها نهايةُ الرئيسِ، فلا يمُدّانِ في فترة رئاستِه بالمشاركة.
وبعد المناقشاتِ تراجعَ الرئيسُ، وأصدرَ بتاريخ 8 ديسمبر إعلاناً دستورياً جديداً يُلغي إعلانَ الفتنةِ، الصادرَ بتاريخ 21 نوفمبر، كما جاء في المادةِ الأولى منه.
وكانت المادةُ الثانيةُ خاصةً بالثورةِ وشهدائِها، فنصّت على: “في حالةِ ظهورِ دلائلَ أو قرائنَ جديدةٍ تعادُ التحقيقاتُ في جرائمِ قتلِ، والشروعِ في قتلِ، وإصابةِ المتظاهرين، وجرائمِ الإرهابِ التي ارتُكبت ضد المواطنين في المدّةِ الواقعةِ ما بين 25 يناير2011، ويومِ 30 يونيو 2012، وكان ارتكابُها بسببِ ثورةِ 25 يناير أو بمناسبتِها أو متعلقاً بها. فإذا انتهت التحقيقاتُ إلى توافرِ أدلةٍ على ارتكابِ الجرائمِ المذكورةِ، أحالت النيابةُ العامةُ القضيةَ إلى المحاكمِ المختصةِ قانوناً، ولو كان قد صدرَ فيها حكمٌ نهائيٌ بالبراءةِ أو برفضِ الطعنِ بالنقضِ المقامِ من النيابةِ العامة على حكمِ البراءة”.
إنه هنا يوقفُ العملَ بقاعدةِ “عدمِ جوازِ نظرِ الدعوى لسابقةِ الفصلِ فيها”، التي تحولُ دونَ إعادةِ التحقيقِ والمحاكمةِ من جديدٍ في هذه الجرائمِ والتي من بينِها، ما جرَى في شارعِ محمد محمود، وأمام ماسبيرو.
ولأنّ الرئيسَ كان يتخوفُ من الفراغِ الذي ينتجُ الفوضى إذا حدثَ ولم تتمَّ الموافقةُ على مشروعِ الدستورِ فجاءَ نصُّ المادةِ الثالثةِ على هذا النحو: “في حالةِ عدمِ موافقةِ الناخبين على مشروعِ الدستورِ، المحدد لاستفتاءِ الشعبِ عليه يوم السبت الموافق 15 من ديسمبر 2012، يدعو السيدُ رئيسُ الجمهوريةِ، خلالَ مدةِ أقصاها ثلاثةُ أشهر، لانتخابِ جمعيةٍ تأسيسيةٍ جديدةٍ مكونةٍ من مائةِ عضوٍ انتخاباً حراً مباشراً، وتنجزُ هذه الجمعيةُ أعمالَها خلال فترةٍ لا تتجاوزُ ستةَ أشهرٍ من تاريخِ انتخابِها. ويدعو رئيسُ الجمهوريةِ الناخبين للاستفتاءِ على مشروعِ الدستورِ المقدمِ من هذه الجمعيةِ خلال مدةٍ أقصاها ثلاثون يوماً من تاريخِ تسليمِه إلى رئيسِ الجمهوريةِ. وفي جميعِ الأحوالِ تجري عمليةُ الفرزِ وإعلانِ نتائجِ أيِ استفتاءٍ على الدستورِ باللجانِ الفرعيةِ علانيةً فورَ انتهاءِ التصويتِ، على أن يُعلقَ كشفٌ بكلِ لجنةٍ فرعيةٍ موقّعاً عليه من رئيسِها، يشتمل على نتيجةِ هذا الفرز”.
إنه نصٌ يؤكدُ أنَّ الرئيسَ مشغولٌ بالانتهاءِ من المرحلةِ الانتقاليةِ سريعاً، وعدم تركِ الأمورِ إلى الفوضى، فيحرصُ على تحديدِ المواعيدِ وضبطِها بالتاريخِ وبوضعِ المدةِ الزمنيةِ ليتمَ بناءُ مؤسساتِ الدولةِ، وهذا الحرصُ هو السببُ في كثيرٍ من المشكلاتِ التي تعرضَ لها، فحتى عندما قَبلَ على مضضٍ بالانتخاباتِ الرئاسيةِ المبكرةِ، كان رأيُه أنه يوافقُ لكن بعد انتخابِ مجلسِ الشعبِ ليتسلمَ البرلمانُ المنتخبُ البلدَ خلالِ هذه الفترةِ.
ثم نأتي للمادةِ الرابعةِ في الإعلانِ الدستوريِ الجديدِ والتي نصّت على: “الإعلاناتُ الدستوريةُ، بما فيها هذا الإعلانُ، لا تقبلُ الطعنَ عليها أمامَ أيةِ جهةٍ قضائيةٍ، وتنقضي الدعاوى المرفوعةُ بهذا الشأنِ أمام جميعِ المحاكمِ”.
إنها مادةٌ تعودُ مرةً أخرى للتحصينِ، وكانت المادةُ الأولى قد اشتملت على فِقرةٍ في هذا السياقِ وهي “… ويبقَى صحيحاً ما ترتّبَ على ذلك الإعلانِ من آثارٍ”.
وكان يمكنُ للمعارضةِ أن تمسكَ فيها، لكنها معارضةٌ لا تقرأُ، وكما أنها لم تقرأْ في الإعلانِ الملغى سوى مادةِ تحصينِ قراراتِ رئيسِ الجمهوريةِ من الطعنِ فيها أمامَ القضاءِ، ففي هذا الإعلانِ لم تقرأْ سوى العنوانِ العريضِ وهو إلغاءُ الإعلانِ الدستوريِ الصادرِ بتاريخِ 21 نوفمبر 2012، لأنها عقدت العزمَ على مواصلةِ الرفضِ، فإذا كانت قد اشترطت إلغاءَ الإعلانِ الدستوريِ كشرطٍ لقبولِ الجلوسِ مع الرئيسِ، ووقفِ المظاهراتِ، فقد عادت بعد إلغائِه للنغمةِ القديمةِ، وهي حلُّ الجمعيةِ التأسيسيةِ، والتي وإنْ كانت انتهتْ من عملِها، إلا أنه لا بدّ من وقفِ الاستفتاءِ على الدستورِ، كشرطٍ لوقفِ التظاهرِ.
الطريقُ للاستفتاء:
بَيدَ أن الرئاسةَ سارتْ في طريقِها التزاماً بالمواعيدِ المقررةِ، وكانت الدعوةُ للاستفتاءِ داخلَ مصرَ يومَ 15 ديسمبر، أي بعد أسبوعٍ من هذا الإعلانِ الدستوريِ الجديدِ، وإن بدأ التصويتُ على الدستورِ في الخارجِ يوم 11 ديسمبر، وقرر الرئيسُ نزولَ الجيشِ لحمايةِ لجانِ التصويتِ، بعد تقاعسِ الشرطةِ في يومِ اقتحامِ الاتحاديةِ واقتحامِ مقارِّ جماعةِ الإخوانِ، وإن كان هذا هو الإجراءَ المتبعَ مع كلِّ استحقاقٍ انتخابيٍ بعد ثورةِ يناير، لأن الشرطةَ لم تكن في ظروفٍ تؤهلُها لشيءٍ من هذا بعدَ هروبِها يوم 28 يناير 2011.
وكان الاحتياطُ الأهمُ، هو الاستعانةَ بشكلٍ كبيرٍ بهيئةِ قضايا الدولةِ في عمليةِ الإشرافِ على الاستفتاءِ، لقد أعلنَ نادي القضاةِ مقاطعةَ القضاةِ عمليةَ الإشرافِ، فانتبهت الرئاسةُ لذلك، واستعانت بهيئةِ قضايا الدولةِ بعد تعزيزِ مكانتِها في الدستورِ الجديدِ!
لقد التفّت الحكومةُ في عهدِ مبارك، على حكمِ المحكمةِ الدستوريةِ العليا في سنة 2000، الذي قال بالإشرافِ القضائيِ على العمليةِ الانتخابيةِ وَفقَ قاعدةِ قاضٍ لكلِّ صندوقٍ، بأنْ فسرت الحكمَ بأنه يندرجُ تحت لافتةِ الإشرافِ القضائيِ، جميعُ الهيئاتِ القضائيةِ، ومنها هيئةُ قضايا الدولةِ، والنيابةُ الإداريةُ، والنيابةُ العامةُ.
وطالبنا في المعارضةِ وقتَها أن يقتصرَ الإشرافُ على قاضِي المنصةِ وحدَه، وهو الأمرُ الذي لم يتحققْ، وعندما انتفضَ القضاةُ وطالبوا بالإشرافِ الكاملِ على العمليةِ الانتخابيةِ، قامَ نظامُ مبارك بالعودةِ إلى إشرافِ الموظفين.
وإذا كانت الثورةُ تعاملتْ مع الإشرافِ القضائيِ على أنه إنجازٌ لابد من العودةِ إليه، فلم يعدْ أحدٌ يتكلمُ عن المطلبِ القديمِ هو أن يقتصرَ الإشرافُ على قضاةِ المنصةِ لأنهم دخلوا على خطِ المعارضةِ السياسيةِ للنظامِ القائمِ، وإن كان من بين القضاةِ من أعلنوا إشرافَهم على الاستفتاءِ ودعوا زملاءَهم للابتعادِ عن “المعترك السياسي”، لكن السلطةَ اعتمدت بشكلٍ كبيرٍ على الهيئاتِ القضائيةِ الأخرى، فشاركَ في عمليةِ الإشرافِ 6 آلافٍ و666 عضوَ هيئةٍ قضائيةٍ، من بينهم 1336 قاضيَ منصةٍ فقط.
ولم يتم الالتفاتُ لدعوةِ جبهةِ الإنقاذِ، بعدمِ عرضِ مشروعِ الدستورِ على الاستفتاءِ، فكان قرارُها بالمشاركةِ والتصويتِ بـ (لا)، لعلها تنجحُ في تعويقِ المَهمة.
لكنّ النتيجةَ ذكّرتنا بتجرِبةِ أحزابِ الأقليةِ وتسلطِها في مرحلةِ ما قبلَ ثورةِ يوليو 1952.
إنها النموذجُ الحيُّ على الكفاحِ الفاشل.
لمتابعة الحلقة الأولى يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الثانية يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الثالثة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الرابعة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الخامسة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة السادسة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة السابعة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة الثامنة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة التاسعة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة العاشرة يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة 11 يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة 12 يرجى الضغط هنا
لمتابعة الحلقة 13 يرجى الضغط هنا