لسنا سواسية أمام الوباء.. أي عالم سيولد ما بعد كورونا؟

أصاب كورونا العملية الاقتصادية على مستوى العالم بكافة مراحلها

لم يكن غريبًا أن يطلق وباء كورونا موجة واسعة النطاق من الجدل حول مستقبل العالم الحديث والمؤسسات والأنظمة التي ترتكز إليها المنظومة الدولية.

وفي ورقة “تقدير موقف” نشرها مركز الجزيرة للدراسات، أشارت إلى أن العالم بعد كورونا سيتسم بتفاقم التفاوت بين الأثرياء والفقراء، وتعاظم اتجاهات الانكفاء داخل الحدود الوطنية، وتشديد الدول قبضتها على المجتمع، وترسيخ معالم نظام عالمي متعدد الأقطاب.

أي عالم يمكن توقعه؟ 

تساءلت الورقة هل سيشهد العالم، والنظام الدولي، تغييرًا إلى الأفضل، وإلى أي حد يمكن للوباء أن يعيد تشكيل مؤسسة الدولة: علاقة الدولة بشعبها، وعلاقاتها ببعضها بعضا؟ وما النمط الاقتصادي الذي يمكن أن يؤسِّس له الوباء؟ وما مصير العلاقات العولمية؟

وأجابت: الحقيقة، أن الأشهر القليلة الماضية من الوباء شهدت ارتفاع مستوى الأنانية والانكفاء القومي في أكثر تجلياته انغلاقًا.

كساد عظيم

خلال أسابيع قليلة، تأكد أن الاقتصاد العالمي دخل بالفعل مرحلة من التراجع الاقتصادي، وأن تفاقم الأوضاع قد يجر العالم إلى كساد اقتصادي يفوق أزمة 2008/2009، وربما حتى كساد 1929 الشهير.

وأصاب الوباء العملية الاقتصادية على مستوى العالم بكافة مراحلها: الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك. 

وهناك تباينات واضحة في قدرات وطرق تعامل دول العالم المختلفة مع نذر الأزمة الاقتصادية. حيث تستطيع الدول الغنية أو التي تملك بنية اقتصادية دينامية، مثل: الولايات المتحدة، وبريطانيا، ودول اليورو، والصين، واليابان، ودول النفط العربية، وتركيا، تحمل أعباء حزم الإنفاق الحكومي الكبيرة لمواجهة عواقب الوباء، والنهوض بالعملية الاقتصادية بعد انحساره.

إلا أن دولًا أخرى مثقلة بالديون أصلًا، أو ذات بنية اقتصادية هشة، مثل: مصر، ولبنان، ومعظم دول المغرب العربي، والعديد من الدول الأفريقية جنوب الصحراء، سيصعب عليها التوجه نحو المزيد من الاقتراض، أو طباعة المزيد من أوراق النقد ومواجهة معدلات تضخم متزايدة، وليس من المستبعد في لحظة ما أن تشهد هذه الدول انفجارًا هائلًا لسؤال الشرعية السياسية.

يوتوبيا العولمة

بانتشار الوباء، انطلقت التوقعات بنهاية العولمة. أغلقت أغلب دول العالم حدودها،ووضعت قيودًا متزايدة على حركة البشر والبضائع، وسنَّت تشريعات مقيدة للحريات.

ما قد ينجم عن الوباء هو إحداث المزيد من التشققات في أطروحة العولمة، وإعادة التوكيد على سلطة ومصالح الدولة القومية، وقيمها الخاصة بها، الاتجاه الذي أخذت بوادره في الظهور منذ سنوات ما قبل الوباء.

علاقة الدولة بشعبها وبقية الدول

لا يوجد ثمة شك في أن بعضًا من السلطات التي منحتها مؤسسة الدولة لذاتها لمواجهة الوباء خلال الأشهر القليلة الماضية، والأخرى التي يمكن أن تكتسبها إن طال أمد الوباء، سيجري التخلي عنها بعد نهاية الأزمة الصحية التي تطبق على معظم دول العالم، ولكن المؤكد أيضًا أنه لن يتم التخلي عنها كلية.

بيد أن الوباء يوفر فرصة أخرى لإعادة التوكيد على دور الدولة، ببعدها القومي الحصري، على المسرح الدولي. 

إن مكافحة الوباء تجري على أساس قومي، وليس ثمة أي مستوى من التنسيق الدولي، ومن المتوقع، بعد انحسار الوباء، أن تلجأ الدول إلى التوكيد على خيارات الاكتفاء الذاتي في الحاجات الضرورية للأمم، وأن تنحسر بالتالي مقولات الاعتماد المتبادل.

ما يصنعه الوباء هو التوكيد على اتجاه “عودة الدولة” إلى مسرح العلاقات الدولية، الذي انطلق بصورة حثيثة منذ عقد على الأقل.

 تحولات جيوسياسية حاسمة؟

يتوقع أن تكون الصين أولى الدول الناهضة من أعباء الوباء الثقيلة؛ وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة ودول أوربا الغربية بين أكثر الدول تأثرًا بالوباء، اقتصاديًّا وإنسانيًّا، ليس من المستبعد أن تصبح أزمة كوفيد-19 العالمية المنعطف الحاسم لصعود الصين النهائي: الصعود الاقتصادي، ومن ثم العسكري والسياسي.

ولكن ثمة اتفاق بين دارسي صعود وانحدار القوى الكبرى حول حقيقة أن القوة الاقتصادية ليست المحدد الوحيد لوزن الدول وتأثيرها على المسرح الدولي. 

وخلال العقد القادم، قد يصبح هذا المشهد أكثر وضوحًا؛ حيث ستجد الولايات المتحدة في الصين منافسًا اقتصاديًّا يصعب كسره، وفي روسيا منافسًا عسكريًّا وسياسيًّا، وإن بصورة محدودة، وفي عدد من القوى الأصغر منافسًا إقليميًّا أكثر استقلالًا في قراره. 

ولكن ما يجب ألا يُغفل عنه أن الولايات المتحددة تتمتع بعناصر قوة متعددة وفريدة، ستساعدها في الحفاظ على موقع الدولة الأبرز والأكثر تأثيرًا بين عدد من المنافسين، ربما لأكثر من عقد مقبل من الزمن.

عالم أقل تضامنًا وأشد ضراوة

كان لينين من قال يومًا: “ثمة عقود حيث لا يحدث شيء، وأسابيع حيث تحدث عقود”. وليس ثمة شك في أن أسابيع الوباء الممتدة من نهاية يناير/كانون الثاني حتى الآن شهدت جملة من الوقائع المتداعية التي لم يشهد العالم لها مثيلًا ربما منذ الحرب العالمية الثانية. 

المؤكد أن هناك اتجاهات سياسية واقتصادية ودولية كانت قد بدأت التحرك منذ سنوات، لن يفعل الوباء سوى تسريع وتيرتها؛ متغيرات مستجدة كلية سيولِّدها الوباء؛ وأنظمة وعلاقات وتوجهات لن تشهد أي تغير ملموس. 

إن العالم يواجه أزمة اقتصادية طاحنة، ستتجلى وطأتها بدرجات مختلفة من دولة لأخرى (وفي تناسب مع مقدرات الدولة السابقة على الوباء وليس مع ضراوته)، وقد تفضي إلى اضطرابات سياسة، هو أمر ليس محل جدل. 

الأرجح أن ارتفاع درجة المنافسة والتدافع، إقليميًّا ودوليًّا، سيستمر على ما هو عليه، وأن الآمال في أن يعمل الوباء على إعادة بناء العلاقات الدولية على أسس أكثر إنسانية وعدالة ستبقى مجرد تمنيات.

في حمأة الوباء، وما بدا وكأنه يجتاح الحدود والطبقات والمكونات الاجتماعية بلا تمييز، لم يكن مستغربًا أن يدفع الشعور المتسع بالفاجعة وفقدان البعض إلى توقع ولادة عالم أفضل من رحم المأساة. ولكن التجارب الإنسانية السابقة لا تؤسس بالضرورة لهذه التوقعات المتفائلة.

هذا وباء ثقيل الوطأة، بالتأكيد، ولكن يبدو أن الإنسان الحديث لم يكتسب بعد مستوى الحكمة الضروري لرؤية العواقب الكارثية لنمط حياته واجتماعه وعلاقاته.

للمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع للرابط التالي:

ما بعد كوفيد-19: أي عالم يمكن توقعه؟

المصدر : الجزيرة مباشر