آثار صمدت قرونا.. هل تسترجع مراكش وجهها التاريخي بعد زلزال المغرب؟
المدينة كانت محصنة من جنوبها بالنهر وشمالها بالجبل

وسط جبال الأطلس العتيدة في المغرب ظل مسجد “تينمل” واقفًا منذ القرن الـ12 الميلادي، وكأنه يستمد صموده منها، أحاطت به الجبال من الجوانب كلها، ومنحه المغاربة قدسية كونه شهد على انطلاق الدولة الموحدية.
جاء زلزال الحوز ليل الجمعة الماضية ليسوِّي الصرح الديني بالأرض، ويحوّله إلى أكوام من التراب بعد ورش ترميم كان يخضع له أوشكت على الانتهاء، حتى يفتح “المسجد الأعظم” أبوابه في وجه الزوار.
تزخر مدينة مراكش الحمراء بعدد من المعالم التاريخية الشاهدة على الدولة الموحدية، ويتركز جُلّها في المدينة القديمة، الأكثر تضررًا بالزلزال، فيما بَعُد مسجد تينمل عن بؤرته بكيلومترين فقط، وقد كان من بين ضحاياه عدد من العاملين في الترميم.
وقال الدكتور فلي عبد الله أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة شعيب الدكالي في الجديدة، إن حصر الأضرار التي لحقت بالمعالم التاريخية يحتاج إلى بعض الوقت للقيام بجرد لها، إذ تلقى الأثريون أنباء عن تضرر عدد منها، بينها قلعة “أغادير أوفلا” بعد الانتهاء من ترميمها وأبراج وأسوار أخرى.

مَعلمة ظلت صامدة لقرون
غصة خنقت صوت نادية البورقادي مُحافظة موقع تينمل الأثري، وهي تحكي لموقع الجزيرة مباشر عن القيمة التاريخية للمسجد الذي دمّره الزلزال، وقد بُني في القرن السادس الهجري قبل مسجد الكتبية وسط مراكش.
“ما يفطر القلب أن المسجد ظل قائمًا كل هذه المدة ودمّره الزلزال”، تقول البورقادي قبل أن تضيف “المسجد كانت له قيمة كبيرة خلال بنائه وقيمته التراثية ورمزيته كبيرة أيضًا في الوقت الحالي، فقد بناه الموحدون وكان مهدًا لحركتهم، وتوفي في تينمل المهدي بن تومرت الزعيم الروحي للموحدين”.
قام عبد المؤمن بن علي ببناء مسجد تينمل بعد سنة واحدة من دخول الموحدين مراكش عام 1146 ميلادي، وجاء تكريمًا لابن تومرت، وحتى في عهد الموحدين كانت للمسجد مكانة عظيمة، وكان موقع تينمل في ذلك العهد مدينة مزودة بالتحصينات العسكرية.
وأفادت البورقادي أن المدينة كانت محصنة من جنوبها بالنهر وشمالها بالجبل، فيما شيّد الموحدون سورًا من الجهتين الشرقية والغربية وقد بقيت بعض الأجزاء منه، وكان داخل إطار مشروع الترميم.
وكان مسجد تينمل يعرف ورش ترميم كبيرة، وكان على مشارف الانتهاء وافتتاحه أمام الزائرين، وترى محافظة الموقع الأثري أنه يمكن ترميمه لبقاء بعض البنيات قائمة إلى الآن، موضحة “نتوفر على توثيق لشكل المسجد قبل الدمار، وإذا قمنا بترميم فمن المؤكد أننا سنحترم الشكل والزخرفة التي كان عليها”.
وبقيت مئذنة المسجد وقاعة الصلاة صامدة منذ بنائه، وقالت البورقادي إنه يبدو أن المنطقة لم تتعرض لزلزال من قبل بحجم الأخير، الذي دمّر مَعلمة ظلت صامدة لقرون.

أهم معالم “تينمل”
اختبارات وتحريات أثرية كانت قائمة في الموقع لتحديد أهم معالم تينمل، وكانت أعمال الباحثين الأثريين جارية، لكن في بدايتها، وكل ما توفروا عليه من مدينة تينمل القديمة هو المسجد والسور، وبقايا قلعة “أكوشتيم” في شمالها.
تُلقب مراكش بالمدينة الحمراء إذ تحمل مبانيها اللون، ويحافظ القسم الحديث منها على النسق نفسه، وتُسمى أيضًا مدينة البهجة لخفة روح أهلها وحبهم للنكتة والاحتفال، لكن زلزال الحوز حوّلها إلى مدينة رعب ليل الجمعة الماضية.
أثّر الزلزال في شكل المدينة الأثري وأزقتها الضيقة التي كانت تمتاز بالبناء القديم، وأضر بأبنية تاريخية كثيرة، إذ وُصف بالأعنف في البلاد منذ قرن.
وعن إمكانية إعادة معالم مراكش إلى سابق عهدها، قال الدكتور فلي عبد الله أستاذ الآثار الإسلامية، إن مسجد مراكش في ساحة “جامع الفنا” -لأنه كان مستخدمًا للصلاة- يُمكن أن يُرمم على شكله الأصلي، ولن يجد الأثريون في ذلك صعوبة لأن الأمر يتعلق بمَعلمة تحتاج أن يلتزم شكلها بالنَسَق التراثي.
وتابع في حديث لموقع الجزيرة مباشر “نتوفر على تقنيات لإعادة كل ما هو مُدرج في لائحة التراث الوطني لحالته الأصلية باستعمال مواد البناء القديمة بالرجوع إلى الصور مع إضافة بعض التحسينات”.
واستدرك أن الوضع مختلف في حالة مسجد تينمل الذي رُمّم مؤخرًا وكانت الأعمال جارية، وقد قمنا بحفريات في السنة الماضية في الموقع، لكن مع الأسف جاء الزلزال عندما كان الترميم على وشك الانتهاء.
أصبح المسجد أثرًا بعد أن كان في حلّة جميلة، وفي هذه الحالة يقول المتخصص يجب أن يبقى الموقع أثريًا، بمعنى ينبغي أن يُرمّم على قدر طبيعته الأثرية دون تغيير معالمه.
وأضاف الدكتور فلي أنه لا ينبغي ترك المسجد على حالته الحالية ولا إعادته لما كان عليه في السابق، أي مسجد مستعمل للصلاة، حتى لا يفقد شخصيته الأثرية وطابعه.
لم يستعمل المسجد للصلاة منذ القرن الـ19، بل كان معلمة تاريخية يصلي الناس حولها ويعززون قدسيته التي اكتسبها منذ تشييده. سعت الترميمات المستمرة في المسجد إلى الحفاظ على طابعه دون إدخال أي تغييرات جذرية، إذ حافظت على القِباب نفسها منذ القرن الـ12 وعلى الجِص الموحدي.