عثمان بن عفان.. ذو النورين وجامع القرآن ورمز السخاء والشهادة
شهدت فترة خلافته نهضة اقتصادية بارزة
عثمان بن عفان -رضي الله عنه- صهر النبي ﷺ ورابع من اعتنق الإسلام، عُرف بإنفاقه السخي في سبيل الله حتى بشّره النبي بالجنة. تميز بتواضعه وعفته ولينه، وترك أثرًا كبيرًا في تاريخ الإسلام.
تولى الخلافة بعد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث شهدت فترة حكمه نهضة اقتصادية بارزة، كما جمع القرآن الكريم على نسخة واحدة لحفظه من التحريف.
استشهد عثمان -رضي الله عنه- في بيته على يد أهل الفتنة في سنة 35 هجريا، ودُفن في البقيع، ليبقى رمزا للزهد والحكمة في قيادة الأمة.
ذو النورين
ينتمي عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى بني أمية من قريش. ويجتمع نسبه مع النبي ﷺ في الجد الخامس من جهة أبيه، عبد مناف. وُلد في أسرة عريقة عُرفت بالثراء والكرم والتجارة.
ولقب بـ”ذي النورين” لزواجه من ابنتي النبي ﷺ، رقية وأم كلثوم، التي تزوجها بعد وفاة أختها.
يُكنى بأبي عبد الله وأبي عمرو، وكان من أوائل المسلمين ومن العشرة المبشرين بالجنة. كما كان أحد الستة أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للتشاور في أمر الخلافة بعد وفاته.
أبوه عفان بن أبي العاص كان تاجراً ثرياً من بني أمية، وتوفي أثناء إحدى رحلاته إلى الشام، تاركاً لعثمان ثروة كبيرة. أما أمه، فهي الصحابية أروى بنت كريز، من بيت شرف وفضل في قريش. نشأ عثمان في مكة تاجرًا ثريًا، ليصبح فيما بعد رمزًا للزهد والكرم في الإسلام.
المولد والنشأة
وُلد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في الطائف عام 576 م، بعد عام الفيل بست سنوات، أي بعد مولد النبي ﷺ بستة أعوام. ونشأ في قريش على مكارم الأخلاق، وتميز بالنبل والشهامة والسخاء، حتى لُقب بـ”أنسب قريش لقريش”، لما عُرف عنه من معرفة عميقة بأنسابها.
كان عثمان -رضي الله عنه- قريبًا من أبي بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله، وكانوا يجتمعون في مجالس مليئة بالتواضع والخلق الكريم في دار أبي بكر الصديق.
خَلْقه وخُلُقه
تميز عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بجمال المظهر وحسن الشكل، فكان مربوع القامة، كثيف شعر الرأس، غزير اللحية، رقيق البشرة، أبيض اللون، مع أنف أقنى وساقين قويتين. ومع تقدمه في العمر، اعتنى بمظهره حيث كان يصبغ لحيته باللون الأصفر، ويشد أسنانه بالذهب عندما بدأت تتساقط.
أما من حيث الأخلاق، فقد اشتهر عثمان بحيائه الشديد وكرمه وسماحته، إلى جانب حكمة وعقلانية بارزة جعلته محبوبًا في الجاهلية والإسلام. عُرف بعفّته وتقواه، وكثرة إنفاقه في سبيل الله، وطيب معاملته ولين معشره، مما أكسبه حب واحترام الناس.
وفي الجاهلية، كان عثمان سيدًا في قومه، ووجيهًا يُلجأ إليه في المشكلات، لما كان يتمتع به من علم بالأنساب ومعرفة واسعة بخير قريش وشرها. رغم نشأته في بيئة مرفهة، حافظ على تواضعه وسلامة لسانه ولم يقترف فاحشة قط، ولم يشرب الخمر أو يسجد لصنم، وكان يعيش برفاهية دون أن تفقده قيمه النبيلة.
وفي التجارة، كان عثمان سمحًا في البيع والشراء، لا يسعى للاحتكار أو استغلال الناس، بل يبغض هذه الممارسات ويساعد التجار الصغار ويدعم الفقراء، مكتفيًا بالربح القليل ومتصفًا بالنبل في تعاملاته.
إسلامه
أسلم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، على يد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- الذي قال له “ويحك يا عثمان، والله إنك لرجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل. هذه الأوثان التي يعبدها قومك، أليست حجارة صماء لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع؟”، فأقر عثمان بذلك.
وعندما عرض عليه أبو بكر دعوة الإسلام قائلاً “هذا محمد بن عبد الله، قد بعثه الله برسالته إلى جميع خلقه، فهل لك أن تأتيه وتسمع منه؟”، وافق عثمان. ومر به النبي ﷺ وقال “يا عثمان أجب الله إلى جنته فإني رسول الله إليك وإلى جميع خلقه”. فاستجاب عثمان فورًا قائلاً “فوالله ما ملكت حين سمعت قوله أن أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبد الله ورسوله”، ليصبح رابع من أسلم من الصحابة.
وتعرض عثمان لمحاولات اضطهاد بعد إسلامه، أبرزها من عمه الحكم بن أبي العاص الذي أمر عبيده بربطه بالسلاسل وقال له “أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟ والله لا أحلك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه”. لكن عثمان تمسك بدينه قائلاً “والله لا أدعه أبدًا”. عندما أدرك عمه إصراره وصلابته، تركه دون مزيد من الإيذاء.
ورغم الضغوط التي واجهها، بما في ذلك محاولات والدته لإقناعه بترك الإسلام، ظل عثمان ثابتًا على إيمانه، ما جعله مثالًا للتضحية والثبات في سبيل الدين.
هجرته
عُدّ عثمان أول من هاجر إلى الحبشة مع زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم ثم تبعه 10 رجال، و4 نساء بقيادة عثمان بن مظعون رضي الله عنه، ومن ثم تتابعت الهجرة إلى الحبشة حتى وصل عدد المهاجرين إلى 33 شخصا.
وحين انتشرت إشاعة إسلام قريش ووصلت إلى الحبشة، فرح المهاجرون هناك ورجعوا إلى مكة، لكنهم اكتشفوا حقيقة الأمر حال عودتهم، فمنهم من بقي ومنهم من عاد إلى الحبشة، وظل عثمان في مكة مع النبي ﷺ إلى أن هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة المنورة، تاركا تجارته وأمواله، ونزل ضيفا عند أوس بن ثابت، أخ حسان بن ثابت شاعر الرسول ﷺ وآخى النبي بينه وبين أوس رضي الله عنهما. وبدأ عثمان تجارته في المدينة المنورة منذ وصوله إليها.
سخاؤه
عرف عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بسخائه الكبير وإنفاقه في سبيل الله، وكان أعظم إنفاقاته في تجهيز جيش العسرة خلال غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة.
وجاءت الغزوة في ظروف شديدة الصعوبة من حر وعسر وقلة تجهيزات، فدعا النبي ﷺ أصحابه للتبرع وقال “من جهز جيش العسرة فله الجنة”. تسابق الصحابة للإنفاق، فجاء عثمان بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم أضاف إليها ألف دينار وضعها في حجر النبي، ففرح وقال “ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم”.
خلافته
عندما طُعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، رشح 6 من الصحابة للخلافة من بعده، بينهم عثمان وعلي بن أبي طالب. بعد مشاورات استمرت 3 أيام، بايع الصحابة عثمان خليفةً للمسلمين، ليصبح ثالث الخلفاء الراشدين وهو في الثامنة والستين من عمره.
ومن أبرز إنجازاته خلال الخلافة:
- اتباع سياسة الاتباع والتفويض: سار عثمان على نهج النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء السابقين، وأسس مجلس شورى من كبار الصحابة لإدارة شؤون الدولة.
- جمع القرآن الكريم: قام بتوحيد الأمة على نسخة واحدة من القرآن الكريم بلهجة قريش، وأمر بإحراق النسخ المخالفة لضمان دقة النصوص.
- الفتوحات الإسلامية: توسعت الدولة الإسلامية في عهده لتشمل مصر والإسكندرية وأرمينيا وقبرص وأفريقيا، وأنشأ أول أسطول بحري للدولة.
- نهضة الاقتصاد الإسلامي: تبنى عثمان سياسة مالية عادلة قائمة على الرعاية والجباية، مع الحفاظ على حقوق أهل الذمة ومراعاة أحوال المسلمين.
الفتنة الكبرى واستشهاده
في نهاية خلافته، واجه عثمان -رضي الله عنه- فتنة كبرى بتحريض من أهل الفتنة بقيادة عبد الله بن سبأ. حيث بدأ التشكيك في حكومته وولاته، حتى اجتمع أهل الفتنة في المدينة وحاصروا منزله. ورغم دعوات الصحابة للدفاع عنه، رفض عثمان القتال وقال “لا أريد أن أكون أول من يريق دماء المسلمين”.
واشتد الحصار عليه، ومنعوا عنه الماء والطعام، حتى اقتحموا داره واستشهد -رضي الله عنه- في شهر ذي الحجة عام 35 هـ عن عمر ناهز 82 عامًا. ثم دفن بالبقيع بعد 12 عامًا من الخلافة، ليبقى رمزًا للزهد والإيثار والقيادة الحكيمة.