حلب.. عاصمة سوريا الاقتصادية وجوهرة التاريخ التي تصارع للبقاء

دور محوري على مر العصور

مدينة حلب (رويترز)

تقع محافظة حلب، التي تُعد العاصمة الاقتصادية لسوريا، في شمال البلاد بالقرب من الحدود الجنوبية لتركيا. وتتميز عاصمتها، مدينة حلب، بكونها الأكثر اكتظاظًا بالسكان في سوريا، وإحدى أقدم المدن المأهولة في التاريخ.

وشكلت حلب منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، نقطة تقاطع لطرق تجارية متنوعة؛ مما جعلها خاضعة لسيطرة حضارات متعددة، بدءًا من الحثيين والآشوريين وصولًا إلى العرب، ثم المغول، فالمماليك، ثم العثمانيين الذين اعتبروها المدينة الثالثة من حيث الأهمية في دولتهم.

وأدّت مدينة حلب دورًا محوريًّا على مر التاريخ في المجالين العسكري والتجاري، وتميزت بتفوقها في هذه المجالات عبر شتى الحضارات التي نشأت في شمال بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. وتشير منظمة اليونسكو إلى أن عمر المدينة يتجاوز 12200 عام، مما يجعلها أقدم من دمشق وأنطاكية.

وتكمن الأهمية الاستراتيجية لحلب في موقعها الذي جعلها نقطة وصل رئيسة بين الشرق والغرب، ومركزًا سياسيًّا واقتصاديًّا ودينيًّا حيويًّا عبر التاريخ. وإلى جانب كونها محورًا حضاريًّا وثقافيًّا، شكلت المدينة ملتقى للقوافل التجارية ومفتاحًا للتبادل التجاري بين الحضارات الشرقية والغربية.

الموقع

وتنقسم محافظة حلب إداريًّا إلى 10 مدن، أبرزها مدينة حلب، إلى جانب 8 مناطق و40 ناحية وعدد كبير من القرى؛ مما يجعلها من أهم المراكز الصناعية في سوريا، إضافة إلى مكانتها التجارية والزراعية. وتُعرف مدينة حلب بلقب “الشهباء”، وتعد من أقدم وأشهر المدن على مستوى العالم.

وتغطي محافظة حلب مساحة تُقدر بنحو 18.5 ألف كيلومتر مربع، وتبلغ مساحة مدينة حلب 190 كيلومترًا مربعًا. وتتميز المحافظة بتنوع تضاريسها بين السهول، والتلال، والأراضي الخصبة، حيث تقع عند تقاطع استراتيجي بين نهر الفرات والبحر المتوسط.

كما تتمتع المنطقة بمناخ شبه قاري، حيث تصل نسبة الرطوبة إلى 58%، وتتأثر بدرجات حرارة تتراوح بين 18 و20 درجة مئوية. وتُحجب تأثيرات المناخ المتوسطي عنها بفعل سلاسل الجبال القريبة من البحر المتوسط. وتهطل الأمطار على المحافظة في الفترة الممتدة بين أكتوبر/تشرين الأول ومارس/آذار، بمتوسط سنوي يبلغ 385 مليمترًا.

السكان

ووفقًا لإحصاءات المركز السوري للإحصاء لعام 2011، يبلغ عدد سكان محافظة حلب، التي تُعد الأكثر اكتظاظًا في سوريا، أكثر من 4 ملايين نسمة. وتتميز المدينة بتنوعها الديني والعرقي، إذ يشكل السنة الأغلبية فيها، إلى جانب وجود مجتمعات من العلويين والمسيحيين.

وتضم المحافظة أعراقًا متعددة، منها الأرمن الذين لجؤوا إلى المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، حيث بلغ عددهم حينها نحو 50 ألف نسمة. كما ينتشر الأكراد في ريف حلب، إضافة إلى التركمان الذين يتركزون في القرى الشمالية من المحافظة.

الاقتصاد

تُعد مدينة حلب ثاني أكبر مدن سوريا بعد العاصمة دمشق، وتعتبر العاصمة الاقتصادية للبلاد بفضل تاريخها العريق في الصناعات والتجارة. وقد عُرفت حلب منذ القدم بصناعاتها التقليدية المتميزة، مثل النسيج، والقطن، وحياكة الحرير، وصناعة صابون الغار، الذي يُعتبر من أجود الأنواع عالميًّا. كما اشتهرت بصناعات زيت الزيتون والمنتجات الغذائية.

وتتميز المدينة أيضًا بإنتاج العديد من الصناعات التقليدية الأخرى، مثل الجلود، والصوف، والفواكه المجففة، والنقش على الزجاج والنحاس.

أما في المجال الزراعي، فتُعد حلب مركزًا رئيسيًّا لإنتاج محاصيل متنوعة، منها القمح، والقطن، والشعير، والخضراوات، والفواكه، والمكسرات، والسمسم. كما تشتهر بشكل خاص بإنتاج الفستق الحلبي الذي يُعتبر علامة مميزة ويصدّر إلى العالم.

وشهدت حلب تطورًا ملحوظًا في الصناعات الحديثة، حيث توسعت لتشمل إنتاج الأجهزة الكهربائية، والمعدات والآلات الصناعية، فضلا عن هياكل السيارات وقطع الغيار، والسيراميك، والملابس الجاهزة، والبلاستيك، والصناعات الكيميائية؛ مما عزز كونها عاصمة اقتصادية حيوية لسوريا.

السوق القديمة في حلب (رويترز)

التسمية

ذُكرت حلب لأول مرة باسمها الحالي حوالي عام 1800 قبل الميلاد في الكتابات المسمارية التي اكتُشفت في مملكة إيبلا. وفي الألفية الثالثة قبل الميلاد، كانت تُعرف بأسماء مثل “أرمان” و”هليا”. كما وردت في الكتابات الآشورية بأسماء “خلابا” و”خلوان”، وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد ذكرت باسم “خرب”، “خلبو”، و”حلبو”.

وبعد انقسام مملكة الإسكندر المقدوني، عُرفت المدينة باسم “بيروا” نسبةً إلى مسقط رأس والد الإسكندر، ويعني هذا الاسم بالإغريقية “أرض النحاس”. واستمر هذا الاسم خلال العصور اليونانية والرومانية والبيزنطية. ويُقال إن المدينة بُنيت على يد سلوقس الأول نيكتور، أحد خلفاء الإسكندر.

وعندما أصبحت عاصمة لمملكة يمحاض الأمورية حوالي عام 1800 قبل الميلاد، عُرفت باسم “حلبا”، وهو اسم يُعتقد أنه مُعرّب من السريانية بمعنى “المدينة البيضاء”، إشارة إلى بياض صخورها وتربتها، ويرجح آخرون أن الاسم آرامي الأصل.

وتاريخيًّا، يُعتقد أن اسم “حلب” قد يكون مستمدًّا من تسمية سامية قديمة تُشير إلى موقع معبد للإله “حدد”، إله العاصفة في الشرق الأدنى، الذي اكتُشفت آثاره في قلعة حلب أواخر القرن العشرين.

أما الروايات الشعبية، فينقل ياقوت الحموي أن بعض الناس يعتقدون أن اسم “حلب” مرتبط بالنبي إبراهيم عليه السلام، إذ يُقال إنه كان “يحلب غنمه في تلك المنطقة ويتصدق بالحليب”، فكان الفقراء يقولون: “حلب، حلب”. ومع ذلك، استبعد الحموي هذا الرأي بسبب طبيعة اللغة السائدة آنذاك، مرجحًا أن الاسم يعود إلى أصل عبراني أو سرياني قريب من العربية.

وفي رواية مشابهة، قيل إن تسمية “حلب الشهباء” تعود للنبي إبراهيم الذي امتلك بقرة بيضاء تُدعى “الشهباء”، وكان سكان المنطقة يتجمعون لشرب حليبها، بينما يقول البعض إن كلمة “الشهباء” ذات أصل عربي تعني البياض الذي يغلب على السواد، وأضاف العرب هذا الوصف إلى اسم حلب الذي يُعتقد أن معناه السرياني يشير أيضًا إلى بياض تربتها.

المعالم التاريخية في حلب

تُعد مدينة حلب من أبرز المدن التاريخية عالميًّا، وقد صنفتها منظمة اليونسكو ضمن مواقع التراث العالمي نظرًا إلى أهميتها التاريخية واحتوائها على أكثر من 150 موقعًا أثريًّا يعكس تاريخ الحضارات التي مرت بها منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى العصر الإسلامي.

وفي عام 1986، تم تسجيل “حلب القديمة” رسميًّا ضمن السجلات الأثرية العالمية، واعتُبرت من المعالم التي لا يجوز هدمها أو تغيير معالمها إلا بإذن من الجهات الأثرية الدولية.

الأسواق

واشتهرت حلب بأسواقها التقليدية التي تحمل أسماء الحرف والصناعات، مثل سوق العطارين، وسوق الحدادين، وسوق النحاسين. وتُعد أسواقها الشرقية من أطول الأسواق الأثرية المسقوفة في العالم، إذ تمتد أكثر من 15 كيلومترًا.

المساجد والكنائس

وتضم حلب عددًا من المساجد والكنائس التاريخية، أبرزها الجامع الأموي الكبير، الذي يُعد من أهم معالم الحضارة الإسلامية في المدينة. بُني في العهد الأموي ويُعرف أيضًا باسم “جامع زكريا”، إذ يُعتقد أن جسد النبي زكريا مدفون فيه. ويتميز الجامع بمساحته الواسعة وأبوابه الأربعة، وصحنه المغطى ببلاط رخامي أصفر وأسود أضيف في العهد العثماني.

الجامع الأموي في حلب (رويترز)

قلعة حلب

وتُعد قلعة حلب من أبرز المعالم التاريخية في المدينة ومن أهم القلاع في العالم، حيث تعود أصولها إلى القرن الـ13. وتُعتبر من أقدم القلاع في التاريخ، وتقع وسط المدينة على تل مرتفع؛، مما أضفى عليها أهمية عسكرية واستراتيجية عبر العصور. وأُدرجت القلعة ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو عام 1986.

يصل الزوار إلى القلعة عبر جسر مدرج تتوسطه بوابة مرتفعة، ويحيط بها سور شبه دائري مدعم بستة أبراج بُنيت في عصور مختلفة. داخل السور، تحتوي القلعة على مدينة متكاملة تضم مباني، ومساجد، وقاعات، ومخازن، وساحات، ومسرحًا، وحوانيت، وقصرًا.

وخضعت القلعة لرعاية كبيرة على مر التاريخ، خاصة في عهد السلطان الظاهر الغازي بن صلاح الدين، الذي بنى البوابة الرئيسية وعددًا من المنشآت والجامع الكبير بداخلها.

الأبواب التاريخية

كما تميزت “حلب القديمة” بأسوارها وأبوابها العريقة، التي تحمل دلالات تاريخية وثقافية عميقة. ومن أبرزها:

  • باب الحديد: سُمّي بهذا الاسم نسبة إلى الورش الحديدية المجاورة له، بُني على يد قانصوه الغوري عام 1059هـ.
  • باب أنطاكية: الباب الذي دخل منه المسلمون عند فتح حلب، ويُعد من أقدم وأعرق أبوابها.
  • باب النصر: سُمّي سابقًا “باب اليهود” نظرًا إلى قربه من محالهم ومقابرهم، أعاد الملك الظاهر غازي تسميته وبناءه.
  • باب قنسرين: تعني “قن النسور”، ويُنسب بناؤه إلى سيف الدولة الحمداني، وتم ترميمه في العهد المملوكي.
  • باب النيرب: يربط المدينة بقرية النيرب، بُني على يد الملك الأشرف برسباي.
  • باب الأربعين: أُطلق عليه هذا الاسم بسبب خروج 40 ألف شخص منه في إحدى الوقائع.

أعلام حلب

تُعد مدينة حلب مهدًا للعديد من الأعلام البارزين الذين تركوا بصماتهم في مجالات الشعر، والأدب، والنحو، والفكر الإسلامي، والفنون. وقد ظلت المدينة مركزًا للشعر العربي والفكر الثقافي على مر العصور، ومن بين أبرز شخصياتها:

البحتري

الوليد بن عبادة، المعروف بالبحتري، وُلد عام 821م في مدينة منبج القريبة من حلب. بدأ نظم الشعر في سن السادسة عشرة وتتلمذ على يد أبي تمام الطائي، ليصبح أحد أعظم شعراء العصر العباسي. اشتهر شعره بلقب “قلادات الذهب”، ووصفه أبو العلاء المعري بأنه الشاعر الحقيقي مقارنة بأقرانه المتنبي وأبي تمام. توفي عام 897م.

مصطفى العقاد

مخرج ومنتج سينمائي عالمي، وُلد في حلب عام 1935. اشتهر بإخراج فيلم “الرسالة” بنسختيه العربية والإنجليزية عام 1976، وفيلم “أسد الصحراء” عام 1981 الذي تناول سيرة عمر المختار. اغتيل في الأردن عام 2005.

مصطفى العقاد يتوسط أنتوني كوين (يمين) وعبد الله غيث خلال تصوير فيلم الرسالة عام 1976 (DR)

سليمان الحلبي

ولد سليمان بن محمد أمين، الملقب “الحلبي”، عام 1777 في حلب. اشتهر باغتيال الجنرال الفرنسي كليبر قائد الحملة الفرنسية في مصر. أُعدم بوحشية، وما زالت جمجمته محفوظة في متحف بفرنسا رغم المطالبات بإعادتها إلى مسقط رأسه.

سعد الله الجابري

سياسي بارز من أسرة حلبية معروفة، وُلد في أواخر القرن التاسع عشر. درس في إسطنبول وشارك في ثورة إبراهيم هنانو ضد الفرنسيين بعد الحرب العالمية الأولى. توفي عام 1947.

محمد علي الصابوني

وُلد في حلب عام 1930، وتعلم على يد والده جميل الصابوني وكبار علماء حلب. أكمل دراسته في الأزهر وحصل على درجة “العالمية” في القضاء الشرعي. عمل أستاذًا في مكة المكرمة لسنوات طويلة، وألف أكثر من 50 كتابًا، من أبرزها “صفوة التفاسير”. توفي عام 2021.

عثمان طه

خطّاط مصحف المدينة المنورة، وُلد عام 1934 في ريف حلب. درس على أيدي كبار الخطاطين الحلبيين، وتخصص في خط المصحف الشريف، حيث كتب القرآن الكريم بالرسم العثماني 10 مرات. عمل في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف منذ عام 1988.

التاريخ

تعد حلب من أقدم المدن المأهولة في التاريخ، لكن عمرها الدقيق يظل مجهولًا. وتشير الروايات إلى أن سكانها الأوائل بنوا منازلهم على تل وسط المدينة الحديثة، إلا أن صعوبة تحديد عمرها تعود إلى كونها مأهولة بشكل مستمر منذ العصور القديمة.

وقبل الألفية الثالثة قبل الميلاد، لم تكن حلب مدينة متكاملة، بل منطقة ترتبط بمملكة إبلا. وفي القرن الـ23 قبل الميلاد، دمرت المدينة التي عُرفت حينها باسم “أرمان” على يد الأكاديين، إلى جانب مملكة إبلا.

ولاحقًا، أصبحت حلب عاصمة للدولة العمورية “يمحاض”، التي ازدهرت خلال القرنين الـ19 والـ18 قبل الميلاد، ومنذ ذلك الحين أدّت المدينة دورًا بارزًا في مسار التاريخ الإنساني.

وتعاقب على حكمها الحثيون والمصريون والميتانيون، قبل أن تعود إلى سيطرة الحثيين، الذين منحوها استقلالًا كإمارة حثية مقدسة نظرًا لوجود مركز عبادة إله العاصفة لديهم. ومع الزمن، سيطر عليها الآشوريون، ثم الفرس الأخمينيون.

وفي أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، احتلها السلوقيون وأسسوا فيها مستعمرة مقدونية أطلقوا عليها اسم “بيرية”. وخلال الفترة الهلنستية، أصبحت المدينة من أهم المراكز التجارية بين البحر المتوسط والشرق الأقصى، ووصفها قنصل فرنسا حينذاك بـ”ملكة الشرق”. وفي القرن الأول قبل الميلاد، ضُمّت حلب إلى مقاطعة سوريا، ويُعتقد أن الوجود اليهودي فيها بدأ خلال تلك الفترة.

وفي العهد المسيحي، صارت حلب أبرشية مسيحية، وأقيمت فيها كاتدرائية ما زالت قائمة حتى اليوم. وأصبحت المدينة الثانية من حيث الأهمية بعد أنطاكية، وذُكرت في العهد القديم باسم “حلبون”. وخلال الحكم البيزنطي، كانت مركزًا لحركة القوافل التجارية. ثم وقع فيها نهب بيد الملك الفارسي الساساني خسرو الأول عام 540م.

الفتح الإسلامي

فتحت مدينة حلب بأيدي المسلمين عام 636م (16هـ) بقيادة الصحابيين أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد. وأعاد المسلمون إليها اسمها القديم “حلب”، وشهدت المدينة ازدهارًا كبيرًا في العهد الإسلامي، خصوصًا في الجوانب الثقافية، حيث أصبحت من أهم المدن خلال الفترة الأموية.

نجح المسلمون في نشر اللغة العربية والإسلام بسرعة، خاصة أن اللغة السريانية كانت قريبة من العربية. وظلت السريانية حاضرة خلال العهد الأموي، ثم العباسي، حيث بلغت حلب ذروة ازدهارها الفكري والثقافي والحضاري. وتميزت آنذاك بعمرانها، وأزيائها، ومساجدها.

شهدت المدينة “عصرها الذهبي” في عهد الدولة الحمدانية في القرن العاشر الميلادي، حين أصبحت عاصمة للدولة ومركزًا علميًّا وأدبيًّا بارزًا. وازدهرت العلوم والطب والأدب في تلك الفترة، وقاد منها سيف الدولة الحمداني معاركه ضد البيزنطيين، وخلد شعراء في مقدمتهم أبو الطيب المتنبي وأبو فراس الحمداني تلك الحقبة بإنجازاتها وأمجادها.

وفي عام 962م، عانت حلب حصارًا خانقًا من قبل البيزنطيين بقيادة نقفور الثاني، الذين احتلوا المدينة وأحرقوا مساجدها ودمروا بيوتها وارتكبوا مذبحة بحق سكانها. وأسروا عددًا كبيرًا من النساء والأطفال، بينما احتمى العلويون والهاشميون وبعض الأثرياء والكتاب داخل قلعة حلب. ورغم هذا الحصار، استعصت القلعة على البيزنطيين الذين انسحبوا بعد أسابيع إثر ورود أنباء عن مؤامرة عليهم في القسطنطينية.

عانت المدينة من اضطرابات مستمرة وصراعات محلية على السلطة بعد تلك الفترة. لكنها برزت في القرن الثاني عشر مركزًا للمقاومة الإسلامية ضد الحصار الصليبي عام 1124م. وقاد عماد الدين زنكي الدفاع عنها، وصار ملكًا عليها عام 1129م.

خلف نور الدين زنكي والده في الحكم، وبعد وفاته انتقل الحكم إلى الأيوبيين، الذين أعادوا إلى حلب مكانتها بوصفها مركزًا تجاريًّا مهمًّا بين أوروبا وآسيا. وشهدت المدينة في عهدهم ازدهارًا استثنائيًّا، حيث قاموا بتطوير قلعتها وتوسيع أسواقها وضواحيها. كما أنشؤوا المدارس السنية لوقف انتشار المذهب الشيعي الذي كان الحمدانيون قد شجّعوه.

الهجمات المغولية المتكررة

أصيبت مدينة حلب بهجمات متكررة من المغول خلال القرنين الـ13 والـ14 الميلاديين، مخلفة دمارًا كبيرًا ومعاناة شديدة لسكانها. في عام 1260م، استولى المغول على المدينة، ودمروا بنيتها وقتلوا عددًا كبيرًا من سكانها. لكن احتلالهم لم يدم طويلًا، إذ تمكن المماليك من طردهم واستعادة المدينة، وإدراجها ضمن الحكم الإسلامي.

عاد المغول للهجوم على حلب مجددًا عام 1271م بعد سيطرتهم على الأناضول والقضاء على التركمان. لكن الظاهر بيبرس تصدى لهم وحقق نصرًا حاسمًا عليهم؛ مما أجبرهم على الانسحاب من المدينة.

لم تتوقف محاولات المغول عند هذا الحد، إذ شنوا هجومًا ثالثًا عام 1280م. وفي هذه المرة، ألحقوا بالمدينة دمارًا كبيرًا، فدمروا جوامعها وأسواقها، وأرهبوا سكانها؛ مما دفع العديد منهم إلى النزوح إلى دمشق. وردًّا على ذلك، جهز القائد المملوكي سيف الدين قلاوون جيشًا قويًّا، وعندما واجه المغول، انسحبوا إلى ما وراء نهر الفرات.

لكن محنة المدينة استمرت، حيث تفشّى الطاعون فيها عام 1348م؛ مما أضعف سكانها وزاد من معاناتهم. وفي عام 1400م، تعرّضت حلب لهجوم وحشي من القائد المغولي تيمورلنك، الذي دمّر المدينة وذبح سكانها. ويُقال إنه أمر ببناء تلة من جماجم القتلى، وبلغ عددها نحو 20 ألفًا.

وبعد انسحاب المغول، بدأ المسلمون العودة تدريجيًّا إلى المدينة، بينما أسس المسيحيون حي “الجديدة” خارج أسوار القلعة الشمالية. وأصبح هذا الحي نقطة وصل بين تجار حلب والعالم الخارجي، مستفيدًا من الحماية النسبية التي وفرتها الممالك الصليبية في القدس وأنطاكية آنذاك.

الحكم العثماني

في القرن الخامس عشر، خضعت حلب للحكم العثماني، فاستعاد العثمانيون مكانة المدينة وأعادوا إحياء دورها التجاري والثقافي. وأصبحت حلب ثالث أهم مدينة في الدولة العثمانية بعد القسطنطينية والقاهرة، ومركزًا لولاية حلب وعاصمة لسوريا. وكانت المدينة محطّة رئيسية للتجارة بين الشرق والغرب، حيث ازدهرت بوجود قنصليات ومكاتب تجارية أوروبية.

وسّع العثمانيون سوق حلب، التي استقبلت بضائع مثل الحرير الفارسي والفلفل الهندي، وهو ما عزز مكانتها بوصفها مركزًا اقتصاديًّا حيويًّا. لكن أهمية حلب تراجعت مع افتتاح قناة السويس، التي أعادت دمشق إلى الواجهة فأصبحت عاصمة لسوريا.

الانتداب الفرنسي

بعد الحرب العالمية الأولى، ومع توقيع معاهدة سايكس بيكو ومعاهدة لوزان، فُصلت حلب عن أبرز أقاليمها المجاورة، بما في ذلك العراق، وتركيا، ولواء إسكندرون. وعزز هذا العزل من تأثيرات التراجع الاقتصادي والاجتماعي على المدينة، خاصة بعد فقدانها ميناءها الرئيسي.

وفي ظل الانتداب الفرنسي عام 1920، قسمت سوريا إلى ولايات، وتم اقتراح حلب العاصمة الفدرالية لولايات سوريا. لكن هذا الوضع تغير سريعًا لتصبح دمشق العاصمة. وفي عام 1924، حُلّت الفدرالية، ودمجت حلب مع دمشق في ولاية واحدة، بينما أصبحت اللاذقية ولاية منفصلة. وخلال هذه الفترة، شهدت حلب مظاهرات وثورات ضد الفرنسيين، أبرزها ثورة إبراهيم هنانو، التي قوضت خطط السيطرة الفرنسية.

وفي عام 1930، أصبحت حلب جزءًا من الجمهورية السورية، وبعد الاستقلال عن فرنسا عام 1936، برزت المدينة لاعبًا سياسيًّا مهمًّا في البلاد. وتولّى الحلبيون مناصب قيادية في الحكومة، مثل سعد الله الجابري وناظم القدسي، كما تقلّد أمين الحافظ رئاسة الجمهورية عام 1963 بدعم من حزب البعث.

حلب
صورة عامة لمدينة حلب السورية وقد أصابها الدمار (رويترز)

حلب والثورة السورية

مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، برزت حلب ضمن أبرز مراكز الاحتجاجات المناهضة للنظام. وشهد حي الصاخور أول مظاهرة حاشدة ضد نظام بشار الأسد يوم 12 أغسطس/آب 2011، في جمعة أطلق عليها الناشطون اسم “لن نركع إلا لله”، وتوالت بعدها المظاهرات في أحياء مختلفة من المدينة.

وفي منتصف يوليو/تموز 2012، سيطر الجيش السوري الحر المنشقّ عن نظام الأسد، على نحو 70% من المدينة، بما في ذلك أكثر من 30 حيًّا ضمن النصف الشرقي، الذي يضم أجزاء من المدينة القديمة والتاريخية.

الأحياء الشرقية، التي كانت توصف بأنها أقل حظًّا اقتصاديًّا مقارنة بالأحياء الغربية الخاضعة لسيطرة النظام، تعرّضت لقصف جوي ومدفعي مكثف بين عامي 2012 و2014. وفي بداية عام 2014، بدأت قوات النظام استخدام البراميل المتفجّرة ضد المدينة؛ مما أدى إلى نزوح نصف مليون من سكانها.

ومع التدخّل العسكري الروسي في سبتمبر/أيلول 2015، أعلن نظام الأسد أن استعادة حلب ستكون هدفه الأول. وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، بدأ حملة عسكرية لاستعادة السيطرة على المدينة كلها.

وفي يوليو/تموز 2016، سيطرت قوات النظام على طريق الكاستيلو؛ مما جعل أحياء حلب الشرقية الأكثر كثافة سكانية محاصرة ضمن مساحة لا تتجاوز 30 كيلومترًا مربعًا.

سيطرت المعارضة على معظم وسط مدينة حلب في سوريا (الأناضول)

“ردع العدوان” ودخول حلب

وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أطلقت “غرفة عمليات الفتح المبين”، وهي فصيل معارض للحكومة السورية، عملية عسكرية حملت اسم “ردع العدوان”. وأعلنت المعارضة أن العملية تهدف إلى توجيه “ضربة استباقية” لقوات النظام.

وفي الأيام الأولى من المعركة، تمكنت المعارضة من السيطرة على مواقع استراتيجية عدة في مدينة حلب، منها مقرّ الفوج 46، وبلدة خان العسل، ومركز البحوث العملية، وقلعة حلب، والجامع الأموي. كما وسّعت سيطرتها لتشمل محافظة إدلب كلها؛ مما مثل تحولًا كبيرًا في خطوط التماس بين المعارضة والنظام منذ الاتفاق التركي الروسي لوقف إطلاق النار في مارس/آذار 2020.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان