مجزرة سربرنيتسا.. أسوأ عملية إبادة جماعية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية

قادها الجنرال الصربي راتكو ملاديتش الملقّب بـ”جزّار البلقان”

في 11 يوليو/تموز 1995، كانت قرية سربرنيتسا الواقعة في أقصى شرق البوسنة على موعد مع ما سمّته الأمم المتحدة أسوأ عملية إبادة جماعية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث راح ضحيتها 8300 شخص من أطفال ورجال المسلمين البشناق بأيدي القوات الصربية وقائدها راتكو ملاديتش المعروف بـ”جزّار البوسنة” و”جزار البلقان”.

ماذا حدث في سربرنيتسا؟

في ذلك اليوم، وقبل أشهر من نهاية الصراع الأهلي الذي دام 3 سنوات في البوسنة، لجأ مدنيون بوسنيون من سربرنيتسا إلى جنود هولنديين لحمايتهم، بعدما احتلت القوات الصربية بقيادة راتكو ملاديتش المدينة.

غير أن القوات الهولندية، التي كانت مشاركة ضمن قوات أممية، سلّمت عشرات الآلاف من البوسنيين للقوات الصربية، لتقوم الأخيرة خلال الأيام التالية بعملية إبادة جماعية قضى فيها أكثر من 8 آلاف بوسني من الرجال والفتيان تراوحت أعمارهم بين 7 و70 عامًا ودُفنت جثثهم في مقابر جماعية، في واحدة من أسوأ مجازر التطهير العرقي في العصر الحديث.

وُصفت هذه الإبادة الجماعية بأنها أبشع جريمة حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية (الأناضول)

ورغم أن قرية سربرنيتسا كانت تعتبر من المناطق الآمنة المنزوعة السلاح والخاضعة لحماية الأمم المتحدة، فإن ذلك لم يمنعها من أن تتحول إلى مقبرة لآلاف من المسلمين، تنفيذا لتعليمات الجنرال “السفّاح” ملاديتش، الذي كان يصرخ في وجه جنوده بضرورة تطهير المنطقة من المسلمين بأي ثمن.

كما دفعه غروره إلى اعتقال مئات من قوات “القبعات الزرقاء” التابعة للأمم المتحدة، والإمعان في إهانتهم وربطهم في أعمدة أمام عدسات كاميرات الإعلام، مصرّحًا بأن “حلف شمال الأطلسي (الناتو) هو منظمة إجرامية والأمم المتحدة تغص بالزنوج”.

وعندما استولت قوات الصرب على سربرنيتسا، أصدر رادوفان كاراديتش أمرا بإجلاء جميع المدنيين، بمن في ذلك النساء والأطفال والمسنّون، في حين تم احتجاز جميع الرجال الذين هم في سن القتال. وخلال الأيام التالية وقعت المجزرة.

وكاراديتش سياسي وطبيب نفسي صربي تولى رئاسة جمهورية صرب البوسنة، وارتبط اسمه بحصار سراييفو ومجزرة سربرنيتسا؛ مما جعله مطلوبا للعدالة الدولية، وقد أُوقف بعد 13 عامًا من الفرار.

اقرأ أيضًا: أنشأه العثمانيون وأحرقه الصرب.. مسجد تقام فيه الصلاة مرة واحدة فقط كل عام (فيديو)

امرأة تبكي في مقبرة جماعية في بوتوكاري بالقرب من سربرنيتسا (رويترز)

“حرب البوسنة”

كما ارتكبت القوات الصربية العديد من المجازر بحق مسلمين، إبان فترة “حرب البوسنة” التي بدأت في 1992 وانتهت في 1995، عقب توقيع اتفاقيات دايتون، وتسببت في إبادة أكثر من 300 ألف شخص، وفق أرقام الأمم المتحدة.

وتنص اتفاقية دايتون التي جاءت نتيجة ضغط دولي مكثف، على تقسيم البوسنة إلى كيانين هما جمهورية صرب البوسنة، واتحاد البوسنة الذي يضم المسلمين والكروات، ويتمتع كل منهما بدرجة كبيرة من الحكم الذاتي، في حين تظل مؤسساتهما المركزية ضعيفة.

محاولة إخفاء الأدلة

وفيما بعد قامت القوات الصربية بنقل العديد من الجثث وإعادة دفنها في مقابر أخرى في محاولة لإخفاء الأدلة.

ويحكي الناجون قصصا مروعة عن حالات القتل والتعذيب والاغتصاب التي تعرضوا لها من قوات صرب البوسنة.

وبناء على هذه الأحداث وجهت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة اتهامات إلى كاراديتش وملاديتش بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.

الجنرال الصربي راتكو ملاديتش المعروف بجزار البلقان (رويترز)

محاكمة “جزّار البلقان” و”سفّاح البوسنة”

مُحاكَمة ملاديتش المسؤول عن المجازر المرتكبة ضد مسلمي البوسنة إبان ما صار يُعرف بـ”حرب البلقان” طالت سنوات، إذ لم يُسَلم نفسه إلى المحكمة مباشرة بعد انتهاء حرب البلقان ولا أثناءها، بل ظل مختفيا مدة 11 عاما، وبعد إلقاء القبض عليه نُقل إلى محكمة لاهاي.

عشرون عاما قد فصلت بين عقد أولى جلسات مُحاكمة ملاديتش في لاهاي وبين اندلاع حرب البلقان التي راح ضحيتها أكثر من 130 ألف إنسان، وهُجّر خلالها قرابة 4 ملايين مواطن من ديارهم.

استمرت أعمال المحكمة الدولية 530 يوما استُدعي إليها قرابة 600 شاهد، وخلالها جمع الادعاء العام عشرات الآلاف من أدلة الإثبات، ووجهت إلى المتهم الرئيسي فيها 11 تهمة من بينها ارتكاب جرائم إبادة بشرية، ومجازر جماعية وتصفيات عرقية، أبرزها مجزرة سربرنيتسا.

في النهاية، تَقدّم فريق الادعاء إلى المحكمة بمرافعته مزودا بآلاف الأدلة وشهادات شخصية لا يطالها الشك، أما الدفاع فتحجج بمرض المتهم كسبا للوقت.

غير أن ذلك لم يؤجل سير عمل المحكمة ولم يعطل النطق بالحكم النهائي المسنود على مجموعة تهم موجهة ضد ملاديتش، من بينها إعطاؤه الأوامر والمشاركة في أعمال إبادة جماعية وتصفية عرقية وتهجير وتعذيب الملايين. وبعد ثبوت تورطه فيها حكمت عليه المحكمة الدولية المُقامة بإشراف الأمم المتحدة بالسجن مدى الحياة.

كما حكمت بالسجن المؤبد على رادوفان كاراديتش، المعروف بـ”سفاح البوسنة” بعد إدانته بالإبادة الجماعية.

ضحايا الإبادة الجماعية

وصفت محكمة العدل الدولية، في قرارها الصادر عام 2007، ما حدث في سربرنيتسا وضواحيها بأنه “إبادة جماعية”، وذلك تماشيا مع أدلة المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.

وتُعرّف الإبادة الجماعية بأنها سياسة قتل جماعي منظمة، تقوم بها حكومة أو جهة معينة ضد طائفة أو جماعة من الناس على أساس ديني أو عرقي أو قومي أو سياسي، وقد صنفتها الأمم المتحدة عام 1948 في اتفاقية خاصة بها بأنها جريمة دولية.

وقد دفن الصرب القتلى البوسنيين في مقابر جماعية، وبعد انتهاء الحرب أطلقت البوسنة أعمال البحث عن المفقودين وانتشال جثث القتلى من المقابر الجماعية وتحديد هوياتهم.

وخلال الجهود المبذولة للعثور على المفقودين بعد الحرب، يتم دفن الضحايا الذين عُثر على جثثهم في مقابر جماعية بعد تحديد هويتهم، في حفل يقام بمقبرة بوتوكاري التذكارية كل عام في 11 يوليو/تموز.

وبلغ عدد الضحايا المدفونين في المقبرة 6765، وهناك أكثر من 1000 شخص فقدوا حياتهم في الإبادة الجماعية في سربرنيتسا ولم يعثر على جثثهم.

اقرأ أيضًا: أول إحصاء رسمي منذ 1990: 50.7% من سكان البوسنة مسلمون

في ذكرى المذبحة من كل عام تقام مراسم لدفن رفات عدد من الضحايا في مقبرة بوتوكاري (رويترز)

هولندا تعتذر

في يوليو من عام 2022، قدمت هولندا اعتذارا لعائلات ضحايا الإبادة في البوسنة والهرسك، خلال الذكرى الـ27 لمذبحة سربرنيتسا، معترفة بإخفاقها في منع الفظائع التي حدثت.

واعترفت حينذاك بأن المجتمع الدولي فشل في حماية أهالي سربرنيتسا، وأن هولندا تتحمل جزءًا من المسؤولية السياسية عن ذلك.

يوم عالمي لإحياء ذكرى المجزرة

صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 مايو/أيار 2024 لصالح تخصيص يوم عالمي لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية في سربرنيتسا بالبوسنة والهرسك، رغم معارضة شديدة من قبل صرب البوسنة وصربيا، متهمين الغرب بإثارة التوترات في منطقة البلقان.

ونال القرار الذي صاغته ألمانيا ورواندا 84 صوتا مؤيدا، وعارضه 19 صوتا، وامتنعت 68 دولة عن التصويت. وبذلك يصبح يوم 11 يوليو/تموز “اليوم الدولي للتأمل وتذكر إبادة 1995 في سربرنيتسا”.

اقرأ أيضًا: مؤمنوفيتش.. أول وزيرة محجبة في البوسنة

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان