معركة ترامب مع هارفارد.. الحرب على استقلالية الجامعات

متظاهرون في كامبريدج كومون، بولاية ماساتشوستس، ضمن مظاهرة نظمتها مدينة كامبريدج، مطالبين قيادة جامعة هارفارد بالتصدي لتدخل الحكومة الفيدرالية في شؤونها.
متظاهرون في كامبريدج كومون، بولاية ماساتشوستس، ضمن مظاهرة نظمتها مدينة كامبريدج، مطالبين قيادة جامعة هارفارد بالتصدي لتدخل الحكومة الفيدرالية في شؤونها (رويترز)

في مدينة بوسطن الأمريكية، حيث يمتزج التاريخ بالحداثة بين أزقتها المرصوفة بالحصى، تقف جامعة هارفارد شامخة، بوصفها صرحًا تعليميًّا أقدم من نشأة الولايات المتحدة ذاتها.

أُسّست هارفارد في عام 1636، أي قبل 140 عامًا من إعلان استقلال الولايات المتحدة، ولم تكن مجرد مؤسسة أكاديمية، بل أصبحت رمزًا للحلم الأمريكي الجديد، ومهدًا لغرس بذور العلم والمعرفة التي شكلت هوية قارة بأكملها.

إرث هارفارد.. التنوير والمعرفة

على مدار قرون، أدت جامعة هارفارد دورًا محوريًّا في تشكيل مسار الفكر والثقافة في الولايات المتحدة. ففي ظل أعمدتها العتيقة، ظهرت شخصيات فكرية وسياسية بارزة، مثل جون آدامز أحد الآباء المؤسسين، الذي أسهم في صياغة مستقبل أمريكا. كما ألهمت الجامعة مفكرين مثل رالف والدو إمرسون وهنري ديفيد ثورو، اللذين تركا أثرًا كبيرًا في الفلسفة والأدب.

لم يكن إرث هارفارد محصورًا في صناعة القادة والمفكرين، بل امتد إلى ميادين الاكتشاف العلمي، إذ شهدت مختبراتها إنجازات عظيمة، بدءًا من إسهامات تي إتش مورغان في علم الوراثة، وصولًا إلى اكتشافات طبية مثل علاج فقر الدم الخبيث على يد جورج مينوت، وتطوير تقنيات ثورية مثل الرنين المغناطيسي النووي من خلال أبحاث إدوارد ميلز بورسيل.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتحدث إلى وسائل الإعلام على متن الطائرة الرئاسية (رويترز)

معركة ترامب مع هارفارد.. تحدٍّ لاستقلالية التعليم

في تصعيد غير مسبوق، وجهت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتقادات مباشرة لجامعة هارفارد، واتهمتها بـ”الفشل” في التصدي لمعاداة السامية داخل الحرم الجامعي.

وردًّا على ذلك، رفضت جامعة هارفارد الامتثال لتعليمات البيت الأبيض التي تضمنت سلسلة من المطالب، مثل إخضاع ممارسات التوظيف للتدقيق، وتعديل معايير الانضباط الداخلي، والإبلاغ عن انتهاكات سلوكية للطلبة الأجانب.

وأصدر بعدها رئيس الجامعة آلان غاربر بيانًا حازمًا، قال فيه “هذه الأوامر تهدد قيمنا كمؤسسة خاصة مكرَّسة للسعي نحو المعرفة وإنتاجها ونشرها. لا ينبغي لأي حكومة -بغضّ النظر عن الحزب الحاكم- أن تملي على الجامعات الخاصة ما الذي يمكنها تدريسه، ومن الذي يمكنها قبوله أو توظيفه، وأي مجالات من البحث يمكنها متابعتها”.

وحظي موقف هارفارد بدعم واسع، من بينهم الرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي وصف الجامعة بأنها “قدوة تُحتذى” لبقية المؤسسات التعليمية.

وبعد نحو 12 ساعة من إصدار غاربر لرسالته، أصدرت كلير شيبمان، الرئيسة المؤقتة لجامعة كولومبيا، بيانًا أعلنت فيه أن الجامعة لن تمتثل لمطالب إدارة ترامب التي “تتطلب منا التخلي عن استقلالنا الذاتي”، مع أنه قبل شهر، وفي عهد الرئيسة السابقة لجامعة كولومبيا كاترينا أرمسترونغ، توصلت الجامعة إلى اتفاق مع إدارة ترامب لتفادي وقف تجميد 400 مليون دولار من المنح الفيدرالية.

وشمل الاتفاق تعديل قواعد الاحتجاجات داخل الحرم الجامعي، وتعيين نائب رئيس كبير للإشراف على قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا، بعد أن طالبت الحكومة بوضعه تحت الوصاية والاستجابة لغيرها من شروط إدارة ترامب.

مظاهرة مؤيدة للفلسطين في جامعة هارفارد الأمريكية
مظاهرة مؤيدة لفلسطين في جامعة هارفارد الأمريكية (وفا)

رد البيت الأبيض: تجميد التمويل الفيدرالي

لم يتأخر رد إدارة ترامب على تحدي هارفارد، إذ أعلنت السلطات الفيدرالية تجميد منح بقيمة 2.2 مليار دولار موجهة للجامعة، كما هددت بإلغاء إعفائها الضريبي. وأمرت وزارة التعليم بالكشف عن سجلات التمويل الأجنبي والطلبة الدوليين، في خطوة عَدَّها مراقبون تصعيدًا ضد استقلالية الجامعات.

ولطالما اعتمدت الجامعات الأمريكية على التمويل الفيدرالي لدعم الأبحاث العلمية.

وكانت الولايات المتحدة تسعى لتطوير أقوى القنابل، وعلاج أخطر الأمراض، واستكشاف الفضاء، وتحسين الزراعة. ولتحقيق هذه الأهداف، ضخت الحكومة مليارات الدولارات في مؤسسات بحثية موزعة عبر البلاد. استخدمت الجامعات هذه الأموال لبناء أفضل المختبرات، وجذب نخبة الأساتذة والطلبة من مختلف أنحاء العالم.

ففي العام المالي 2023، أنفقت الجامعات الأمريكية نحو 60 مليار دولار من الأموال الفيدرالية على البحث والتطوير. ومن بين أكبر المستفيدين جامعة جونز هوبكنز التي أنفقت 3.3 مليارات دولار، نصفها تقريبًا من وزارة الدفاع.

لكن إدارة ترامب بدأت حملة تدقيق تستهدف المؤسسات التي تلقت أكبر التمويلات، ومنها هارفارد وجامعة كاليفورنيا وغيرهما، بزعم عدم اتخاذها إجراءات كافية لمكافحة معاداة السامية. وتشير التقارير إلى أن 16 جامعة من بين الـ25 الأكثر تلقيًا للتمويل تخضع حاليًّا للمراجعة.

وحتى الجامعات العامة مثل ميشيغان وسان دييغو وواشنطن مشمولة بالمراجعة، وكل منها أنفقت أكثر من مليار دولار في أبحاث ممولة فيدراليًّا عام 2023.

"هذه الأوامر تهدد قيمنا كمؤسسة خاصة مكرَّسة للسعي نحو المعرفة وإنتاجها ونشرها. لا ينبغي لأي حكومة -بغضّ النظر عن الحزب الحاكم- أن تملي على الجامعات الخاصة ما الذي يمكنها تدريسه، ومن الذي يمكنها قبوله أو توظيفه، وأي مجالات من البحث يمكنها متابعتها".

بواسطة رئيس جامعة هارفارد آلان غاربر

انتقادات قانونية لتهديد هارفارد

أثارت تهديدات البيت الأبيض بتجميد التمويلات وإلغاء الإعفاء الضريبي ردودًا واسعة، إذ وصف قانونيون هذه الخطوات بأنها مخالفة للقانون والدستور، مشيرين إلى أن البيت الأبيض لا يملك صلاحية مباشرة لإلغاء الإعفاء الضريبي، الذي يتطلب تحقيقًا مستقلًّا من مصلحة الضرائب.

واستشهد منتقدون بفضيحة “ووترغيت”، عندما استغل الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون مصلحة الضرائب لملاحقة خصومه السياسيين. هذه الممارسات أدت لاحقًا إلى إصدار قوانين تعزز استقلالية المؤسسة عن التأثير السياسي.

الطلبة الأجانب.. ضحايا حملة ترامب

امتدت حملة البيت الأبيض لتشمل الطلبة الأجانب داخل الجامعات الأمريكية.

ورأت إدارة ترامب أن المظاهرات الطلابية ضد الحرب الإسرائيلية على غزة تُعَد مثالًا لمعاداة السامية وتهديدًا لسلامة الطلبة اليهود في الجامعات، وربطت القضايا الأكاديمية والسياسات الجامعية بمواقف صارمة ضد أي مظاهر قد تُعَد معادية للسامية.

وألغت وزارة الخارجية أكثر من 1500 تأشيرة دراسية بزعم تأثيرها السلبي في السياسة الخارجية، كما تعرَّض العديد من الطلبة للاعتقال والترحيل بتهم غامضة تتعلق بدعم القضية الفلسطينية.

المثال الأبرز كان اعتقال رميساء أوزتورك، وهي طالبة دكتوراة بجامعة تافتس، بتهمة “المشاركة في أنشطة داعمة لحماس”، رغم عدم تقديم دليل على الاتهامات. وأكد محاموها أنها استُهدفت بسبب دعمها لحقوق الفلسطينيين.

ولم يسلم الطلبة الحاملون لتأشيرات الإقامة الدائمة (غرين كارد)، إذ يواجه آخرون مثل محمود خليل ومحسن مهداوي، من جامعة كولومبيا، تهديدات بالترحيل.

وبينما تستمر معركة ترامب مع الجامعات الأمريكية، من الواضح أن استقلالية المؤسسات الأكاديمية تواجه تحديات غير مسبوقة. وإن كانت هارفارد وكولومبيا قد رفعتا الصوت ضد التدخل السياسي، فإن مصير التمويل الفيدرالي وعواقب التحدي تبقى في يد القضاء والسياسة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان